فصل في آيات العدد الثلاث
 
وقد احتج بعُموم آيات العِدد الثلاث مَنْ يرى أن عِدة الحرة والأمة سواء، قال أبو محمد ابن حزم: وعدة الأمة المتزوجة من الطلاق والوفاة، كعدة الحرة سواء بسواء، ولا فرق، لأن اللَّه تعالى علَّمنا العِدَدَ فى الكِتاب، فقال: {وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَة قُروُءٍ} [البقرة: 228] وقال: {والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُم وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234]، وقال اللَّه تعالى: {واللاَّئى يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُم إن ارْتَبْتُم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللاَّئى لَم يحِضْنَ وَأُولاَتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [الطلاق: 4]، وقد علم اللَّه تعالى إذ أباح لنا زواج الإماء، أنه يكون عليهن العِدَدُ المذكورات. وما فرَّق عز وجل بين حُرَّةٍ ولا أَمَةٍ فى ذلك، وما كان ربك نسياً.
وثبت عمن سلف مثل قولنا: قال محمد بن سِيرين رحمه اللَّه. ما أرى عِدَّة الأَمَةِ إلا كَعِدَّة الحُرَّة، إلا أن يكون مضت فى ذلك سُنَّةٌ، فالسُّنَّةُ أحقُّ أن تُتَّبَعَ. قال: وقد ذكر أحمد بن حنبل، أن قول مكحول: إنَّ عِدَّة الأمة فى كل شى، كَعِدَّة الحُرَّة، وهو قول أبى سليمان، وجميع أصحابنا، هذا كلامه.
وقد خالفهم فى ذلك جمهور الأُمَّةِ، فقالوا: عِدَّتُها نصف عِدَّة الحرة، هذا قول فقهاء المدينة: سعيدِ بنِ المسيب، والقاسِم، وسالِم، وزيدِ بن أسلم، وعبدِ اللَّه بن عتبة، والزهرىِّ، ومالك، وفقهاءِ أهل مكة: كعطاءِ بنِ أبى رباح، ومسلم بنِ خالد وغيرهما، وفقهاءِ البصرة: كقتادة، وفقهاءِ الكوفة، كالثورىِّ وأبى حنيفةَ وأصحابِه رحمهم اللَّه. وفقهاءِ الحديثِ كأحَمدَ وإسحاق، والشافعى، وأبى ثور رحمهم اللَّه وغيرهم، وسلفُهم فى ذلك الخليفتان الراشدان: عمرُ بنُ الخطاب، وعلىُّ بنُ أبى طالب، رضى اللَّه عنهما، صح ذلك عنهما، وهو قولُ عبدِ اللَّه بنِ عمر رضى اللَّه عنه، كما رواه مالك، عن نافع، عنه: عِدَّةُ الأَمَةِ حيضتان، عِدَّةُ الحرة ثلاث حِيَض، وهو قول زيد ابن ثابت، كما رواه الزهرى، عن قَبيصة، بن ذُؤَيب، عن زيد بن ثابت: عِدَّةُ الأَمَةِ حيضتان، وعِدَّة الحرة ثلاثُ حِيَضِ. وروى حماد بن زيد، عن عمرو بن أوس الثقفى، أن عمرَ بنَ الخطاب رضى اللَّه عنه قال: لو استطعتُ أن أجعلَ عِدَّةَ الأَمَةِ حيضةً ونصفاً لفعلت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، فاجعلها شهراً ونصفاً.
وقال عبد الرزاق: حدثنا ابن جريح، أخبرنى أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد اللَّه يقول: جعل لها عمرُ رضى اللَّه عنه حيضتين، يعنى: الأَمَةَ المطَلَّقة. وروى عبد الرزاق أيضاً: عن ابن عيينة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار، عن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، عن عمر رضى اللَّه عنه: ينكح العبد اثنتين، ويطلِّق تطليقتين، وتعتدُّ الأَمَةُ حيضتين، فإن لم تحض، فَشَهْرين أو قال: فشهراً ونصفاً.
وذكر عبد الرزاق أيضاً: عن معمرَ، عن المغيرة، عن إبراهيم النخعى، عن ابن مسعود قال: يكون عليها نصف العذاب، ولا يكون لها نصف الرخصة.
وقال ابن وهب: أخبرنى رجال من أهل العلم: أن نافعاً، وابنَ قُسَيْطٍ، ويحيى ابن سيعد، وربيعة، وغير واحد من أصحابِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، والتابعين، قالوا: عِدَّةُ الأَمَةِ حيضتان. قالوا: ولم يزل هذا عمل المسلمين.
قال ابن وهب: أخبرنى هشام بن سَعْد، عن القاسم بن محمد بن أبى بكر الصِّدِّيق رضى اللَّه عنهم، قال: عِدَّة الأَمَةِ حيضتان.
قال القاسم: مع أن هذا ليس فى كتاب اللَّه عز وجل، ولا نعلمه سُنَّةً عَنْ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولكن قد مضى أمرُ النَّاس على هذا، وقد تقدَّم هذا الحديث بعينه، وقولُ القاسم وسالم فيه لرسول الأمير، قل له: إن هذا ليس فى كِتاب اللَّه، ولا سُنَّةِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولكن عمل به المسلمون. قالوا: ولو لم يكن فى المسألة إلا قولُ عمر، وابنِ مسعود، وزيدِ بن ثابت، وعبد اللَّه بن عمر، لكفى به.
وفى قول ابن مسعود رضى اللَّه عنه: تجعلون عليها نصف العذاب، ولا تجعلون لها نصف الرخصة، دليل على اعتبار الصحابة للأَقْيسة والمعانى، وإلحاق النظير بالنظير.
ولما كان هذا الأثر مخالفاً لقول الظاهرية فى الأصل والفرع، طعن ابنُ حزم فيه وقال: لا يصح عن ابن مسعود: قال وهذا بعيد على رجل من عُرْضِ الناس، فكيف عن مثل ابن مسعود؟ وإنما جَرَّأَه على الطعن فيه، أنه من رواية إبراهيم النخعى عنه، رواه عبد الرزاق عن معمر، عن المغيرة، عن إبراهيم، وإبراهيم لم يسمع من عبد اللَّه، ولكن الواسطة بينه وبينه أصحاب عبد اللَّه كعلقمة ونحوه، وقد قال إبراهيم: إذا قلتُ: قال عبد اللَّه، فقد حدثنى به غير واحد عنه، وإذا قلت: قال فلان عنه، فهو عمن سَمَّيْتُ، أو كما قال. ومن المعلوم: أن بين إبراهيم، وعبد اللَّه أئمة ثقات، لم يسمِّ قَطُّ مُتَّهماً، ولا مجروحاً، ولا مجهولاً، فشيوخه الذين أخذ عنهم عن عبد اللَّه أئمة أجلاء نبلاء، وكانوا كما قيل: مُرُجَ الكوفة، وكل من له ذَوْق فى الحديث إذا قال إبراهيم: قال عبد اللَّه، لم يتوقف فى ثبوته عنه، وإن كان غيره ممن فى طبقته، لو قال: قال عبد اللَّه، لا يحصل لنا الثبت بقوله، فإبراهيم عن عبد اللَّه نظيرُ ابنِ المسيِّب عن عمر، ونظير مالك عن ابن عمر، فإن الوسائط بين هؤلاء وبين الصحابة رضى اللَّه عنهم إذا سَمَّوْهم وُجِدُوا من أَجَلِّ الناس، وأوثقهم، وأصدقِهم، ولا يُسَمُّون سواهم البتة، وَدَعِ ابنَ مسعود فى هذه المسألة، فكيف يخالف عمرَ، وزيداً، وابن عمر، وهم أعلم بكتاب اللَّه وسُنَّةِ رسوله، ويخالف عمل المسلمين، لا إلى قول صاحبٍ البتة، ولا إلى حديث صحيح، ولا حسن، بل إلى عمومٍ أمره ظاهر عند جميع الأُمَّةِ، ليس هو مما تخفى دلالته، ولا موضعه، حتى يظفر به الواحد والاثنان دون سائر الناس، هذا من أبين المحال.
ولو ذهبنا نذكر الآثار عن التابعين بتنصيف عِدَّة الأمة، لطالت جداً ثم إذا تأملتَ سياق الآيات التى فيها ذِكر العِدَد، وجدتَها لا تتناول الإماء، وإنما تتناول الحرائر، فإنه سبحانه قال: {وَالمطَلَّقَاتُ يَتَربَّصْنَ بأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فى أَرْحَامِهِنَّ إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخرِ وبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فى ذلِكَ إنْ أَرَادُوا إصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذى عَلَيْهِنَّ بِالمعْرُوفِ} [البقرة: 228] إلى أن قال: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إلاَّ أَنْ يَخَافَا أَنْ لاَ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّه فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتَدَتْ به} [البقرة: 229] وهذا فى حق الحرائر دون الإماء، فإن افتداءَ الأمة إلى سيدها، لا إليها ثم قال: {فَإنْ طَلَّقَهَا، فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإنْ طَلَّقَها فَلاَجُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 230]، فجعل ذلك إليهما، والتراجع المذكور فى حق الأمة، وهو العقد، إنما هو إلى سيدها، لا إليها، بخلاف الحرة، فإنه إليها بإذن وليها، وكذلك قوله سبحانه فى عدة الوفاة:{وَالَّذِينَ يُتَوَفُّوْنَ مِنْكُم ويَذرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فى أَنْفُسِهِنَّ بِالمعْرُوفِ} [البقرة: 234]، وهذا إنما هو فى حق الحرة، وأما الأمة، فلا فعل لها فى نفسها البتة، فهذا فى العدة الأصلية. وأما عدة الأشهر، ففرع وبدل. وأما عدة وضع الحمل، فيستويان فيها، كما ذهب إليه أصحابُ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، والتابعون، وعمل به المسلمون، وهو محض الفقه، وموافق لكتاب اللَّه فى تنصيف الحدِّ عليها، ولا يعرف فى الصحابة مخالف فى ذلك، وفَهْمُ أصحابِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن اللَّه أولى من فَهْمِ مَنْ شَذَّ عنهم من المتأخِّرين، وباللَّه التوفيق.
ولا تعرف التسوية بين الحُرَّة والأمة فى العِدَّة عن أحدٍ من السلف إلا عن محمد ابن سيرين، ومكحول. فأما ابنُ سيرين، فلم يَجزِمْ بذلك، وأخبر به عن رأيه، وعلَّق القولَ به على عدم سُنَّة تُتَّبَعُ. وأما قول مكحول، فلم يذكر له سنداً، وإنما حكاه عنه أحمد رحمه اللَّه، وهو لا يقبل عند أهل الظاهر، ولا يصح، فلم يبق معكم أحد من السلف إلا رأىُ ابنِ سيرين وحدَه المعلَّقُ على عدم سُنةٍ مُتَّبعةٍ، ولا ريب أن سُنَّةَ عمرَ بنِ الخطاب رضى اللَّه عنه فى ذلك مُتَّبَعَةُ، ولم يخالفه فى ذلك أحد من الصحابة رضى اللَّه عنهم، واللَّه أعلم.
فإن قيل: كَيفَ تَدَّعُون إجماع الصحابة وجماهير الأُمَّة، وقد صحَّ عن عمرَ بنِ الخطاب رضى اللَّه عنه، أن عِدَّةَ الأمَةِ التى لم تبلغْ ثلاثةُ أشهر، وصح ذلك عن عمرَ بنِ عبد العزيز، ومجاهدِ والحسنِ، وربيعةَ، والليثِ بن سَعْدٍ والزهرى، وبكر ابنِ الأشجِّ، ومالكٍ، وأصحابه، وأحمدَ بنِ حنبلٍ فى إحدى الروايات عنه ومعلوم أن الأشهر فى حق الآيسة والصغيرة بَدَلٌ عن الأَقراء الثلاث، فدل على أن بَدَلها فى حقها ثلاثةٌ.
فالجواب: أن القائلين بهذا هم بأنفسهم القائلون: إن عِدَّتها حيضتان وقد أَفْنُوا بهذا، وهذا، ولهم فى الاعتداد بالأشهر ثلاثةُ أقوال، وهى للشافعى، وهى ثلاث روايات عن أحمد. فأكثر الرواياتِ عنه أنها شهران، رواه عنه جماعة من أصحابه، وهو إحدى الروايتين عن عمرَ بنِ الخطاب رضى اللَّه عنه، ذكرها الأثرم وغيره عنه.
وحجةُ هذا القول: أن عِدَّتها بالأقراء حيضتان، فجعل كل شهر مكان حيضةٍ.
والقول الثانى: أن عِدَّتها شهرٌ ونصف، نقلها عنه الأثرم، والميمونى، وهذا قول علىِّ بنِ أبى طالب، وابنِ عمر، وابنِ المسيِّب، وأبى حنيفة، والشافعىِّ فى أحد أقواله. وحجته: أن التنصيف فى الأشهر ممكن، فتنصفت، بخلاف القروء. ونظير هذا: أن المُحْرِمَ إذا وجبَ عليه فى جزاء الصيد نصفَ مدٍّ أخرجه، فإن أراد الصيام مكانه، لم يجزه إلا صوم يومٍ كاملٍ.
والقول الثالث: أنَّ عِدَّتها ثلاثةُ أشهرٍ كواملَ، وهو إحدى الروايتين عن عمر رضى اللَّه عنه، وقول ثالث للشافعى: وهو فيمن ذكرتموه.
والفرق عند هؤلاء بين اعتدادها بالأقراء، وبين اعتدادها بالشهور، أن الاعتبار بالشهور للعلم ببراءة رحمها، وهو لا يحصل بدون ثلاثة أشهر فى حق الحرة والأمة جميعاً، لأن الحمل يكون نُطفةُ أربعين يوماً، ثم عَلقةً أربعين، ثم مُضْغةً أربعين، وهو الطَّوْر الثالث الذى يمكن أن يظهر فيه الحمل، وهو بالنسبة إلى الحرة والأمة سواء، بخلاف الأقراء، فإن الحيضة الواحدة عَلَم ظاهر على الاستبراء، ولهذا اكتفى بها فى حَقِّ المملوكة، فإذا زُوِّجَتْ فقد أخذت شَبهاً من الحرائر، وصارت أشرفَ من ملك اليمين، فجعلت عِدَّتُها بين العدتين.
قال الشيخ فى ((المغنى)): ومن ردَّ هذا القول، قال: هو مخالف لإجماع الصحابة، لأنهم اختلفوا على القولين الأَوَّلَيْن، ومتى اختلفوا على قولين، لم يجز إحداث قول ثالث، لأنه يفضى إلى تخطئتهم، وخروجِ الحق عن قول جميعهم. قلت: وليس فى هذا إحداثُ قولٍ ثالثٍ، بل هو إحدى الروايتين عن عمر، ذكرها ابن وهب وغيره، وقال به من التابعين من ذكرناهم وغيرهم.