فصل في عدة الوفاة
 
وأما عِدةُ الوفاة، فتجبُ بالموت، سواءٌ دخل بِها، أو لم يدخُل اتفاقاً، كما دلَّ عليه عمومُ القرآن والسنة، واتفقوا على أنهما يتوارثان قبلَ الدخول، وعلى أن الصَّداقَ يستقِرُّ إذا كان مسمَّى، لأن الموتَ لما كان انتهاء العقدِ استقَّرت به الأحكام فتوارثا، واستقر المَهر، ووجبت العِدة.
واختلفوا فى مسألتين إحداهما: وجوبُ مهرِ المثل إذا لم يكن مسمَّى، فأوجبه أحمدُ وأبو حنيفة، والشافعى فى أحد قوليه، ولم يُوجبه مالك والشافعى فى القول الآخر، وقضى بوجوبه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، كما جاء فى السنة الصحيحة الصريحةِ مِن حديث بَرْوَع بنت واشق وقد تقدم. ولو لم ترد به السنةُ، لكان هو محض القياس، لأن الموتَ أُجْرِىَ مجرى الدُّخولِ فى تقرير المسمى، ووجوبِ العدة.
والمسألة الثانية: هل يثبت تحريمُ الربيبة بموتِ الأم، كما يثبت بالدخول بها وفيه قولان للصحابة، وهما روايتان عن أحمد.
والمقصود: أن العدة فيه ليست للعلم ببراءة الرحم، فإنها تجب قبلَ الدخولِ، بخلاف عدة الطلاق.
وقد اضطرب الناسُ فى حكمة عدة الوفاة وغيرها، فقيل: هى لبراءة الرحم، وأُورِدَ على هذا القول وجوه كثيرة.
منها: وجوبُها قبل الدخول فى الوفاة، ومنها: أنها ثلاثةُ قروء، وبراءةُ الرحم يكفى فيها حيضة، كما فى المستبرأة، ومنها: وجوب ثلاثة أشهر فى حق من يُقطع ببراءة رحمها لصغرها أو لكبرها.
ومن الناس من يقول: هو تعبد لا يُعقل معناه، وهذا فاسد لوجهين:
أحدهما: أنه ليس فى الشريعة حكم إلاَّ وله حِكمة وإن لم يعقلها كثيرٌ من الناس أو أكثرهم.
الثانى: أن العدد ليست من العبادات المحضة، بل فيها من المصالح رعاية حق الزوجين والولد والناكح.
قال شيخنا: والصواب أن يُقال: أما عِدة الوفاة فهى حرم لانقضاء النكاح، ورعاية لحق الزوج، ولهذا تَحدُّ المتوفى عنها فى عدة الوفاة رعاية لحق الزوج، فجعلت العِدة حريماً لحق هذا العقد الذى له خطر وشأن، فيحصُل بهذه فصل بين نكاح الأول ونكاح الثانى، ولا يتصل الناكحان، ألا ترى أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم لما عظم حقه، حرم نساؤُه بعده، وبهذا اختص الرسول، لأن أزواجه فى الدنيا هنَّ أزواجُه فى الآخرة بخلاف غيره، فإنه لو حرم على المرأة أن تتزوج بغيرِ زوجها، تضررت المتوفى عنها، وربما كان الثانى خيراً لها من الأول. ولكن لو تأيمت على أولاد الأول، لكانت محمودة على ذلك، مستحباً لها، وفى الحديث ((أنا وامْرَأةٌ سَفْعَاءُ الخدَّيْنِ، كهَاتَيْنِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وأوما بالوسطى والسَّبابة، امْرَأةٌ آمت مِنْ زَوْجِهَا ذَاتُ مَنْصِبٍ وجَمَالٍ، وحَبَسَتْ نَفْسَهَا عَلى يَتَامى لَهَا حَتَّى بَانُوا أو ماتُوا)).
وإذا كان المقتضى لتحريمها قائماً، فلا أقلَّ مِن مدة تتربَّصُها، وقد كانت فى الجاهلية تتربَّصُ سنة، فخففها اللَّه سبحانه بأربعةِ أشهر وعشر، وقيل لسعيد ابن المسيب: ما بال العشر؟ قال: فيها يُنفخ الروح، فيحصل بهذه المدة براءةَ الرحم حيث يحتاج إليه، وقضاءُ حق الزوج إذا لم يحتج إلى ذلك.


الموضوع التالي


فصل في عدة الطلاق

الموضوع السابق


فصل في عدة الآيسة