فصل قد ذكرنا حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى المختلعة أنها تعتد بحيضة
 
قد ذكرنا حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى المختلعة أنها تعتد بحيضة، وأن هذا مذهب عثمان بن عفان، وابن عباس، وإسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل فى إحدى الروايتين عنه، اختارها شيخنا. ونحن نذكر الأحاديث بذلك بإسنادها.
قال النسائى فى ((سننه الكبير)): باب فى عدة المختلعة. أخبرنى أبو على محمد بن يحيى المروزى، حدثنا شاذان عبد العزيز بن عثمان أخو عَبْدان، حدثنا أبى، حدثنا على بن المبارك، عن يحيى بن أبى كثير، قال: أخبرنى محمد بن عبد الرحمن، أن رُبَيِّع بنتَ معوِّذ بنِ عفراء، أخبرته أن ثابتَ ابن قيس بن شماس ضرب امرأته، فكسرَ يدها وهى جميلة بنت عبد اللَّه ابن أبى، فجاء أخوها يشتكيه إلى رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأرسل رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى ثابت، فقال:
((خُذ الذى لها عليك، وخلِّ سبيلها)) فقال: نعم، فأرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن تتربص حيضة واحدة، وتلحق بأهلها.
أخبرنا عُبيدُ اللَّهِ بنُ سعد بن إبراهيم بن سعد، قال: حدثنى عمي، قال: أخبرنا أبى، عن ابن إسحاق، قال: حدثنى عُبادة بن الوليد بن عبادة ابن الصامت، عن رُبَيِّعِ بنتِ معوِّذ، قال: قلتُ لها: حدثينى حديثَك، قالت: اختلعتُ من زوجى، ثم جئتُ عثمان، فسألتُ ماذا علىَّ مِن العِدة، قال: لا عِدة عَلَيْك إلا أن يكونَ حديثَ عهد بك فتمكُثين حتى تحيضى حَيضة. قالت: وإنما تَبعَ فى ذلك قضاءَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى مريم المَغَالِيَّة، كانت تحتَ ثابتِ بنِ قيس بن شماس، فاختلعت منه.
وروى عكرمةُ عن ابن عباس رضى اللَّه عنه، أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه، فجعل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عِدَّتَها حيضة. رواه أبو داود عن محمد بن عبد الرحيم البزاز، عن على بن بحر القطان، عن هشام بن يوسف، عن معمر، عن عمرو بن مسلم، عن عكرمة. ورواه الترمذي: عن محمد بن عبد الرحيم بهذا السند بعينه. وقال: حديث حسن غريب.
وهذا كما أنه موجبُ السنة وقضاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وموافقٌ لأقوالِ الصحابة، فهو مقتضى القياس، فإنه استبراءٌ لمجرد العلم ببراءة الرحم، فكفت فيه حيضة، كالمسبية والأمة المستبرأة، والحرة، والمهاجرة، والزانية إذا أرادت أن تنكِحَ.
وقد تقدم أن الشارع مِن تمام حكمته جعل عِدة الرجعية ثلاثة قروء لمصلحة المطلق، والمرأة ليطول زمان الرجعة، وقد تقدم النقصُ على هذه الحكمة، والجواب عنه.
ذكر حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بإعتداد المتوفى عنها فى منزلها الذى توفى زوجها وهى فيه وأنه غيرُ مخالف لِحكمه بخروج المبتوتة واعتدادها حيث شاءت
ثبت فى ((السنن)): عن زينبَ بنتِ كعب بن عجرة، عن الفُريعة بنت مالك أخت أبى سعيد الخُدرى، أنها جاءت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجعَ إلى أهلها فى بنى خُدرة، فإن زوجها خرج فى طلب أَعْبُدٍ له أَبَقُوا، حتى إذا كانُوا بطرف القُدُوم، لحقهم فقتلُوه، فسألتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلى، فإنه لم يتركنى فى مسكن يَمِلكُه ولا نفقة، فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((نعم)) فخرجتُ حتى إذا كُنْتُ فى الحجرة أو فى المسجد، دعانى أو أمر بى فدعيتُ له، فقال:((كيف قُلتِ))؟ فرددتُ عليه القِصةَ التى ذكرتُ من شأن زوجى، قالت: فقال: ((امْكُثى فى بَيْتك حَتَّى يَبْلغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ))، قالت: فاعتددتُ فيه أربعةَ أشهر وعشراً، قالت: فلما كان عثمان، أرسل إلىَّ فسألنى عن ذلك، فأخبرته، فقضى به، واتبعه.
قال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح، وقال أبو عمر بن عبد البر: هذا حديثٌ مشهور معروف عند علماء الحجاز والعراق. وقال أبو محمد ابن حزم: هذا الحديث لا يثبت، فإن زينب هذه مجهولة، لم يروِ حديثَها غير سعد بن إسحاق بن كعب وهو غير مشهور بالعدالة، ومالك رحمه اللَّه وغيره يقول فيه: سعد بن إسحاق، وسفيان يقول: سعيد. وما قاله أبو محمد غيرُ صحيح، فالحديث حديث صحيح مشهور فى الحجاز والعراق، وأدخله مالك فى ((موطئه))، واحتج به، وبنى عليه مذهبه.
وأما قوله: إن زينب بنت كعب مجهولة، فنعم مجهولةٌ عنده، فكان ماذا؟ وزينبُ هذه من التابعيات، وهى امرأة أبى سعيد، روى عنها سعد بن إسحاق بن كعب، وليس بسعيد، وقد ذكرها ابن حبان فى كتاب الثقات. والذى غر أبا محمد قولُ على بن المدينى: لم يرو عنها غيرُ سعد بن إسحاق وقد روينا فى مسند الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبى، عن ابن إسحاق، حدثنى عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن معمر ابن حزم، عن سليمان بن محمد بن كعب بن عُجرة، عن عمته زينبَ بنتِ كعب بن عُجرة وكانت عند أبى سعيد الخُدرى، عن أبى سعيد، قال: اشتكى الناسُ علياً رضى اللَّه عنه، فقام النبىُّ صلى الله عليه وسلم خطيباً، فسمعتُه يقول: ((يَا أيُّها النَّاسُ لا تَشْكُوا عَلِيًّا، فَواللَّهِ لأَخْشَنٌ فى ذَاتِ اللَّهِ أو فى سَبِيلِ اللَّهِ))، فهذه امرأة تابعية كانت تحتَ صحابى، وروى عنها الثقات، ولم يُطعن فيها بحرف، واحتج الأئمة بحديثها وصححوه.وأَما قولُه: إن سعد بن إسحاق غير مشهور بالعدالة، فقد قال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ثقة. وقال النسائى أيضاً، والدارقطنى أيضاً: ثقة وقال أبو حاتم: صالح، وذكره ابن حيان فى كتاب الثقات، وقد روى عنه الناس: حمادُ بن زيد، وسفيانُ الثورى، وعبدُ العزيز الدراوردى، وابنُ جريج، ومالكُ بن أنس، ويحيى ابن سعيد الأنصارى، والزهرى، وهو أكبرُ منه، وحاتمُ بن إسماعيل وداودُ بن قيس، وخلق سواهم من الأئمة، ولم يُعلم فيه قدح ولا جرح البتة، ومثل هذا يُحتج به اتفاقاً.
وقد اختلف الصحابةُ رضى اللَّه عنهم ومَنْ بعدهم فى حكم هذه المسألة.
فروى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، عن عروة بن الزبير. عن عائشة رضى اللَّه عنها. أنها كانت تُفتى المتوفى عنها بالخروج فى عدتها، وخرجت بأختها أمِّ كلثُوم حين قُتِلَ عنها طلحة بن عبيد اللَّه إلى مكة فى عمرة.ومن طريق عبد الرزاق أخبرنا ابنُ جريج، أخبرنى عطاء، عن ابن عباس أنه قال: إنما قالَ اللَّهُ عز وجل: تعتد أربعَة أشهر وعشراً، ولم يقل: تعتد فى بيتها، فتعتد حيث شاءت وهذا الحديث سمعه عطاء من ابن عباس، فإن على بن المدينى: قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: سمعتُ ابنَ عباس يقول: قال اللَّه تعالى: {والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُم ويَذرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234]، ولم يقل: يَعْتَدِدْنَ فى بيوتهن، تعتَدُّ حيث شاءت. قال سفيان: قاله لنا ابن جريج كما أخبرنا.
وقال عبد الرازق: حدثنا ابن جريج، أخبرنى أبو الزبير، أنه سمع جابرَ بن عبد اللَّه يقول: تعتدُّ المتوَّفى عنها حيثُ شاءت. وقال عبد الرزاق عن الثورى، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، أن على بن أبى طالب رضى اللَّه عنه، كان يُرحِّلُ المتوفَّى عنهن فى عدتهن. وذكر عبد الرزاق أيضاً، عن محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن طاووس وعطاء، قالا جميعاً: المبتوتة والمتوفى عنها تَحُجَّانِ وتعتمِرَان، وتنتقلان وتبيتان.
وذكر أيضاً عن ابن جريج، عن عطاء قال: لاَ يَضرُّ المتوفَّى عنها أينَ اعتدت.
وقال ابنُ عُيينة: عن عمرو بن دينار، عن عطاء وأبى الشعثاء، قالا جميعاً: المتوفَّى عنها تخرُج فى عدتها حيث شاءت.
وذكر ابنُ أبى شيبة، حدثنا عبد الوهَّاب الثقفى، عن حبيب المعلم، قال: سألتُ عطاء عن المطلقة ثلاثاً، والمتوفَّى عنها، أتَحُجَّان فى عِدتهما؟ قال: نعم. وكان الحسن يقولُ بمثل ذلك.
وقال ابن وهب: أخبرنى ابن لهيعة، عن حنين بن أبى حكيم، أن امرأة مُزاحم لما توفى عنها زوجها بخناصرة، سألت عمر بن عبد العزيز، أأمكث حتى تنقضىَ عِدتى؟ فقال لها: بل الحقى بقرارك ودار أبيك، فاعتدى فيها.
قال ابن وهب: وأخبرنى يحيى بنُ أيوب، عن يحيى بن سعيد الأنصارى أنه قال فى رجل توفى بالاسكندرية ومعه امرأتُه، وله بها دار، وله بالفُسطاط دار، فقال: إن أحبَّت أن تعتدَّ حيثُ توفِّىَ زوجُها فلتعتد، وإن أحبَّتْ أن ترجِعَ إلى دار زوجها وقراره بالفُسطاط، فتعتد فيها فلترجع.
قال ابن وهب: وأخبرنى عمرو بن الحارث، عن بُكير بن الأشج، قال: سألتُ سالم بن عبد اللَّه بن عمر عن المرأة يخرج بها زوجُها إلى بلد فيتوفى؟ قال: تعتد حيث توفى عنها زوجها، أو ترجعُ إلى بيت زوجها حتى تنقضى عدتها وهذا مذهبُ أهل الظاهر كُلِّهم.ولأصحاب هذا القولِ حُجتان، احتج بهما ابنُ عباس،وقد حكينا إحداهما، وهى: أن اللَّه سبحانه إنما أمرها بإعتداد أربعة أشهر وعشر، ولم يأمرها بمكان معين.
والثانية: ما رواه أَبو داود: حدثنا أحمد بن محمد المروزى، حدثنا موسى بن مسعود، حدثنا شِبل، عن ابن أبى نجيح، قال: قال عطاء: قال ابن عباس: نسخت هذه الآية عدتَها عندَ أهلها، فتعتد حيثُ شاءت، وهو قولُ اللَّه عز وجل: {غيرَ إخراجٍ} [البقرة: 240] قال عطاء: إن شاءت اعتدت عند أهله، وسكنت فى وصيتها، وإن شاءت، خرجت لِقول اللَّه عز وجل: {فَإنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فَيما فعَلْنَ} [البقرة: 234]، قال عطاء: ثم جاء الميراثُ، فنسخ السكنى، تعتدُّ حيث شاءت.
وقالت طائفة ثانية مِن الصحابة والتابعين بعدهم: تعتدُّ فى منزلها التى تُوفى زوجها وهى فيه، قال وكيع: حدثنا الثورىُّ، عن منصور، عن مجاهد، عن سعيد بن المسيب ان عمر ردَّ نِسوة من ذى الحُليفة حاجَّاتٍ أو معتمراتٍ توفى عنهن أزواجهن.
وقال عبدُ الرزاق: حدثنا ابنُ جُريج، أخبرنا حُميدُ الأعرج، عن مجاهد قال: كان عمر وعثمان يرجعانهن حاجَّاتٍ ومعتمراتٍ من الجُحفة وذى الحُليفة.
وذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن يوسف بن ماهك عن أمه مُسيكة، أن امرأة متوفَّى عنها زارت أهلها فى عِدتها، فضربها الطلق، فأتوْا عثمان، فقال: احمِلُوها إلى بيتها وهى تُطْلَقُ.
وذكر أيضاً عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أنه كانت له ابنة تعتدُّ مِن وفاة زوجها، وكانت تأتيهم بالنَّهار، فَتَتَحدَّثُ إليهم، فإذا كان الليل، أمَرها أن ترجعَ إلى بيتها.
وقال ابنُ أبى شيبة: حدثنا وكيع، عن على بن المبارك، عن يحيى بن أبى كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، أن عُمر رخَّص للمتوفى عنها أن تأتى أهلها بياض يومها، وأن زيدَ بن ثابت لم يُرَخِّص لها إلا فى بياض يومها أو ليلها.
وذكر عبد الرزاق عن سفيان الثورى، عن منصور بن المعتمِر، عن إبراهيم النَّخَعى، عن علقمة، قال: سأل ابنَ مسعود نساء من همدان نُعِىَ إليهن أزواجُهن، فَقُلْنَ: إنا نَستَوحِشُ، فقال ابنُ مسعود: تجتمِعْنَ بالنهارِ، ثم ترجعُ كلُّ امرأة منكن إلى بيتها بالليل.
وذكر الحجاج بن المنهال، حدثنا أبو عَوانة، عن منصور، عن إبراهيم، أن امرأة بعثت إلى أمِّ سلمة أمِّ المؤمنين رضى اللَّه عنها: إن أبى مريض، وأنا فى عِدة، أفآتيه أُمرضه؟ قالت: نعم ولكن بيتى أحدَ طرفى الليل فى بيتك.
وقال سعيد بن منصور: حدثنا هُشيم، أنبأنا إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، أنه سُئِلَ عن المتوفَّى عنها: أتخرج فى عدتها؟ فقال: كانَ أكثرُ أصحاب ابن مسعود أشدَّ شىء فى ذلك، يقولون: لا تخرُج، وكان الشيخ يعنى على بن أبى طالب رضى اللَّه عنه يُرحلها.
وقال حمَّادُ بنُ سلمة: أخبرنا هِشام بن عُروة، أن أباه قال: المتوفَّى عنها زوجُها تعتدُّ فى بيتها إلا أن ينتوى أهلُها فتنتوى معهم.
وقال سعيد بن منصور: حدثنا هُشيم، أخبرنا يحيى بن سعيد هو الأنصارى، أن القاسم بن محمد، وسالم بن عبد اللَّه، وسعيد بن المسيِّب قالوا فى المتوفَّى عنها: لا تبَرحُ حتى تنقضى عِدتُها.
وذكر أيضاً عن ابن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء وجابر، كِلاهما قال فى المتوفَّى عنها: لا تخرُجُ.
وذكر وكيع، عن المحسن بن صالح، عن المغيرة، عن إبراهيم فى المتوفَّى عنها: لا بأس أن تخُرجَ بالنهار، ولا تبيتُ عن بيتها.
وذكر حماد بن زيد، عن أيوب السَّختيانى، عن محمد بن سيرين، أن امرأة تُوفى عنها زوجُها وهى مريضة، فنقلها أهلُها، ثم سألوا، فَكُلٌُّهم يأمرهم أن تُرد إلى بيت زوجها، قال ابنُ سيرين: فرددناها فى نَمَطٍ، وهذا قولُ الإمام أحمد. ومالك. والشافعى. وأبى حنيفة رحمهم اللَّه، وأصحابهم، والأوزاعى، وأبى عُبيد، وإسحاق.
قال أبو عُمر بن عبد البر: وبه يَقول جماعةُ فقهاء الأمصار بالحجاز والشام، والعراق، ومصر. وحجة هؤلاء حديث الفُريعة بنت مالك، وقد تلقاه عثمانُ بنُ عفان رضى اللَّه عنه بالقبول، وقضى به بمحضر المهاجرين والأنصار، وتلقاه أهل المدينة والحجاز والشام والعراق ومصر بالقبول، ولم يُعْلَمْ أن أحداً منهم طعن فيه، ولا فى رواته، وهذا مالك مع تحريه وتشدُّدِهِ فى الرواية. وقوله للسائلِ له عن رجل: أثقة هو؟ فقال: لو كان ثقة لرأيته فى كتبى: قد أدخله فى ((موطئه))، وبنى عليه مذهبَه.
قالوا: ونحن لا نُنكر النزاعَ بين السلف فى المسألة، ولكن السنة تفصِلُ بين المتنازعين. قال أبو عمر بن عبد البر: أما السنة، فثابتة بحمد اللَّه. وأما الإجماع، فمستغنى عنه مع السنة، لأن الإختلاف إذا نزل فى مسألة كانت الحجة فى قول من وافقته السنة.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن الزهرى، قال أَخَذَ المترخِّصون فى المتوفِّى عنها بقول عائشة رضى اللَّه عنها، وأخذ أهل العزم والورع بقول ابن عمر.
فإن قيل: فهل ملازمة المنزل حقٌّ عليها، أو حق لها؟ قيل: بل هو حَق عليها إذا تركه لها الورثة، ولم يكن عليها فيه ضررٌ أو كان المسكن لها، فلو حَّولها الوراث، أو طَلَبوا منها الأجرة، لم يلزمها السكن، وجاز لها التحولُ.
ثم اختلف أصحابُ هذا القول: هل لها أن تتحول حيثُ شاءت، أو يلزمُها التحولُ إلى أقرب المساكن إلى مسكن الوفاة؟ على قولين. فإن خافت هدماً أو غَرَقاً، أو عدواً أو نحو ذلك، أو حوّلها صاحبُ المنزل لكونه عارِيَّة رجع فيها، أو بإجارة انقضت مدتُها، أو منعها السكنى تعديًا، أو امتنع من إجارته، أو طلب به أكثر من أجر المثل، أو لم تَجِدْ ما تكترى به، أو لم تجِدْ إلا من مالها، فلها أن تنتقِلَ، لأنها حالُ عذر، ولا يلزمها بذلُ أجر المسكن، وإنما الواجبُ عليها فِعل السُّكنى لا تحصيلُ المسكن، وإذا تعذرت السُّكنى، سقطت، وهذا قول أحمد والشافعى.
فإن قيل: فهل الإسكان حقٌّ على الورثةِ تُقدَّمُ الزوجة به على الغرماء، وعلى الميراث، أم لا حق لها فى التركة سوى الميراث؟ قيل:
هذا موضوع اختلف فيه. فقال الإمام أحمد: إن كانت حائلاً، فلا سُكنى لها فى التركة، ولكن عليها ملازمة المنزل إذا بُذِلَ لها كما تقدم، وإن كانت حاملاً، ففيه روايتان إحداهما أن الحكم كذلك. والثانى: أن لها السُّكنى حق ثابت فى المال، تُقدَّمُ به على الورثة والغرماء، ويكون من رأس المال، لا تُباع الدار فى دينه بيعاً يمنعُها سكناها حتى تنقضي عدتها، وإن تعذر ذلك، فعلى الوارث أن يكترىَ لها سكناً من مال الميت. فإن لم يفعل، أجبره الحاكمُ، وليس لها أن تنتقِلَ عنه إلا لضرورة.
وإن اتفق الوارث والمرأة على نقلها عنه، لم يَجُزْ، لأنه يتعلق بهذه السكنى حقُّ اللَّه تعالى، فلم يجز اتفاقُهما على إبطالها، بخلاف سُكنى النكاح، فإنها حقٌّ للَّه تعالى، لأنها وجبت مِن حقوق العِدة، والعِدة فيها حقٌّ للزوجين. والصحيح المنصوص: أن سكنى الرجعية كذلك، ولا يجوز اتفاقهما على إبطالها، هذا متقضى نص الآية، وهو منصوص أحمد وعنه رواية ثالثة: أن للمتوفَّى عنها السُّكنى بكل حال، حاملاً كانت أو حائلاً، فصار فى مذهبه ثلاثُ روايات: وجوبها للحامل، والحائل، وإسقاطها فى حقهما ووجوبها للحامل دون الحائل، هذا تحصيلُ مذهب أحمد فى سكنى المتوفى عنها.
وأما مذهب مالك، فإيجاب السكنى لها حاملاً كانت أو حائلاً، وإيجابُ السكنى عليها مدة العِدة، قال أبو عمر: فإذا كان المسكن بكراءٍ؟ فقال مالك: هى أحقُّ بسكناه من الورثة والغرماء، وهو مِن رأس مال المتوفَّى، إلا أن يكونَ فيه عقد لزوجها وأراد أهل المسكن إخراجَها. وإذا كان المسكنُ لزوجها، لم يُبع فى دينه حتى تنقضى عدتها، انتهى كلامه.
وقال غيرُه من أصحاب مالك: هى أحقُّ بالسكنى من الورثة والغرماء إذا كان الملك للميت، أو كان قد أدَّى كِراءه، وإن لم يكن قد أدى، ففى ((التهذيب)): لا سُكنى لها فى مال الميت، وإن كان موسِراً. وَرَوَى محمد، عن مالك: الكراء لازم للميت فى ماله، ولا تكون الزوجةُ أحقَّ به، وتُحاصُّ الورثة فى السكنى، وللورثة إخراجُها إلا أن تُحِبَّ أن تسكن فى حصتها، وتؤدى كِراء حصتهم.
وأما مذهب الشافعى: فإن له فى سكنى المتوفى عنها قولين، أحدُهما: لها السُّكنى حاملاً كانت أو حائلاً. والثانى: لا سُكنى لها حاملاً كانت أو حائلاً، ويجب عنده ملازمتُها للمسكن فى العِدة بائناً كانت أو متوفى عنها، وملازمة البائن للمنزل عنده آكدُ مِن ملازمة المتوفىَّ عنها، فإنه يجوز للمتوفَّى عنها الخروجُ نهاراً لقضاء حوائجها، ولا يجوزُ ذلك فى البائن فى أحد قوليه وهو القديمُ، ولا يُوجبه فى الرجعية بل يستحبه.
وأما أحمد، فعنده ملازمةُ المتوفَّى عنها آكدُ مِن الرجعية، ولا يُوجبه فى البائن. وأورد أصحاب الشافعى رحمه اللَّه على نصه بوجوب ملازمة المنزل على المتوفَّى عنها مع نصه فى أحد القولين، على أنه لا سكنى لها سؤالاً وقالوا: كيف يجتمع النَّصَّان، وأجابوا بجوابين. أحدهما: أنه لا تجِبُ عليها ملازمةُ المسكن على ذلك القول، لكن لو ألزم الوارثُ أجرة المسكن، وجبت عليها الملازمةُ حينئذ، وأطلق أكثرُ أصحابه الجواب هكذا.
والثانى: أن ملازمة المنزل واجبة عليها ما لم يكن عليها فيه ضرر بأن تُطالب بالأجرة، أو يُخرجها الوارث، أو المالك، فتسقط حينئذ. وأما أصحاب أبى حنيفة، فقالوا: لا يجوزُ للمطلقة الرجعية، ولا للبائن الخروجُ مِن بيتها ليلاً ولا نهاراً، وأما المتوفى عنها، فتخرج نهاراً وبعض الليل، ولكن لا تبيتُ فى منزلها، قالوا: والفرقُ أن المطلقة نفقتُها فى مال زوجها. فلا يجوز لها الخروجُ كالزوجة، بخلاف المتوفى عنها، فإنها لا نَفَقَةَ لها، فلا بد أن تخْرُجَ بالنهار لإصلاح حالها، قالوا: وعليها أن تعتد فى المنزل الذى يُضاف إليها بالسكنى حالَ وقوع الفرقة، قالوا: فإن كان نصيبُها مِن دار الميت لا يكفيها، أو أخرجها الورثةُ من نصيبهم، انتقلت، لأن هذا عذر، والكونُ فى بيتها عبادة، والعبادةُ تسقط بالعذر قالوا: فإن عجزت عن كراء البيت الذى هى فيه لكثرته، فلها أن تنتقِلَ إلى بيت أقلَّ كراء منه، وهذا مِن كلامهم يدل على أن أجرة السكن عليها، وإنما يَسقط السكن عنها لعِجزها عن أجرته، ولهذا صرَّحوا بأنها تسكن فى نصيبها من التركة إن كفاها، وهذا لأنه لا سُكنى عندهم للمتوفى عنها حاملاً كانت أو حائلاً، وإنما عليها أن تلزم مسكنها الذى توفِّى زوجُها، وهى فيه ليلاً لا نهاراً، فإن بذله لها الورثةُ وإلاّ كانت الأجرة عليها، فهذا تحريرُ مذاهب الناس فى هذه المسألة، ومأخذُ الخلاف فيها وباللَّه التوفيق. ولقد أصاب فريعَة بنتَ مالك فى هذا الحديث نظيرُ ما أصاب فاطمة بنت قيس فى حديثها، فقال بعضُ المنازعين فى هذه المسألة: لا ندعُ كتابَ ربنا لقول امرأة، فإن اللَّه سبحانه إنما أمرها بالاعتداد أربعة أشهر وعشراً، ولم يأمرها بالمنزل. وقد أنكرت عائشةُ أمُّ المؤمنين رضى اللَّه عنها وجوبَ المنزل، وأفتت المتوفَّى عنها بالاعتداد حيث شاءت كما أنكرت حديثَ فاطمة بنت قيس، وأوجبت السكنى للمطلقة.
وقال بعضُ من نازع فى حديث الفُريعة: قد قُتِلَ مِن الصحابة رضى اللَّه عنهم على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خلقٌ كثير يوم أحد، ويومَ بئر مَعونة، ويومَ مؤتة وغيرِها، واعتدَّ أزواجُهم بعدهم، فلو كان كلُّ امرأة منهن تُلازم منزلها زمن العدة، لكان ذلك من أظهرِ الأشياء، وأبينها بحيثُ لا يخفى على من هو دونَ ابن عباس وعائشة، فكيف خفى هذا عليهما وعلى غيرهما من الصحابة الذين حكى أقوالهم، مع استمرار العمل به استمراراً شائعاً، هذا من أبعد الأشياء، ثم لو كانت السنَّةُ جارية بذلك، لم تأت الفُريعة تستأذنهُ صلى الله عليه وسلم أن تلحق بأهلها، ولمَا أذِنَ لها فى ذلك، ثم يأمرُ بردها بعد ذهابها، ويأمرها بأن تمكث فى بيتها فلو كان ذلك أمراً مستمراً ثابتاً، لكان قد نسخ بإذنه لها فى اللحاق بأهلها، ثم نسخ ذلك الإذن بأمره لها بالمُكث فى بيتها، فُيفضى إلى تغيير الحكم مرتين، وهذا لا عهد لنا به فى الشريعة فى موضع متيقن.
قال الآخرون: ليس فى هذا ما يوجب رد هذه السنة الصحيحة الصريحة التى تلقَّاها أميرُ المؤمنين عثمان بن عفان، وأكابرُ الصحابة بالقبول، ونفذها عثمان، وحكم بها، ولو كنا لا نقبلُ رواية النساء عن النبى صلى الله عليه وسلم، لذهبت سننٌ كثيرة مِن سُنن الإسلام لا يُعرف أنه رواها عنه إلا النساء، وهذا كتابُ اللَّه ليس فيه ما ينبغى وجوب الاعتداد فى المنزل حتى تكون السنةُ مخالفة له، بل غايتُها أن تكونَ بياناً لحكم سكت عنه الكتاب، ومثل هذا لا تُرد به السننُ، وهذا الذى حذَّر منه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بعينه أن تترك السنة إذا لم يكن نظيرُ حكمها فى الكتاب.
وأما تركُ أمِّ المؤمنين رضى اللَّه عنها لحديث الفُريعة، فلعله لم يَبلُغْها، ولو بلغها فلعلها تأولته، ولو لم تتأولْه، فلعله قام عندها معارض له، وبكل حال فالقائلون به فى تركهم لتركها لهذا الحديث أعذرُ من التاركين له لترك أمِّ المؤمنين له، فبين التركَين فرقٌ عظيم.وأما من قُتِلَ مع النبى صلى الله عليه وسلم، ومن مات فى حياته، فلم يأتِ قطُّ أن نساءكم كن يعتَدِدْنَ حيث شِئن، ولم يأت عنهن ما يُخالف حُكمَ حديثِ فُريعة البتة، فلا يجوز تركُ السنة الثابتة لأمر لا يُعلم كيف كان، ولو عُلِمَ أَنهن كن يَعتَدِدْنَ حيث شئن، ولم يأت عنهن ما يخالف حكم حديث الفريعة، فلعل ذلك قبل استقرار هذا الحكم وثبوته حيث كان الأصلُ براءة الذمة، وعدم الوجوب.
وقد ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عبد اللَّه بن كثير، قال: قال مجاهد: استشهد رجال يوم أحد، فجاء نساؤهم إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلن: إنا نستوحِشُ يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالليل، فنبيت عند إحدانا، حتى إذا أصبحنا تبددنا فى بيوتتنا فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((تَحَدَّثْنَ عِنْدَ إحْدَاكُنَّ مَا بَدَا لَكُنَّ، فَإذَا أَرَدْتُنَّ النَّوْمَ فَلتَؤُبْ كُلُّ امْرَأةٍ إلى بَيْتِها)) وهذا وإن كان مرسلاً، فالظاهِر أن مجاهداً إما أن يكون سمعه مِن تابعى ثقة، أو مِن صحابى، والتابعون لم يكن الكذبُ معروفاً فيهم، وهم ثانى القرون المفضلة، وقد شاهدُوا أصحابَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأخذوا العِلمَ عنهم، وهم خيرُ الأمة بعدهم، فلا يُظن بهم الكذبُ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا الروايةُ عن الكذابين، ولا سيما العالمُ منهم إذا جزمَ على رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالرواية، وشَهِدَ له بالحديث، فقال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفعلَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأمرَ ونهى، فيبعد كُلَّ البعد أن يُقْدِمَ على ذلك مع كون الواسطة بينه وبينَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم كذاباً أو مجهولاً، وهذا بخلاف مراسيل من بعدهم، فكلما تأخرت القرونُ ساء الظن بالمراسيل، ولم يشهد بها على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبالجملة فليس الاعتماد على هذا المرسل وحَده، وباللَّه التوفيق.