فصل في قوله إنَّ اللَّه إذا حَرَّم شَيْئاً أو حَرَّم أكل شَىءٍ حَرَّمَ ثمنه
 
وفى قوله: ((إنَّ اللَّه إذا حَرَّم شَيْئاً أو حَرَّم أكل شَىءٍ حَرَّمَ ثمنه))، يُراد به أمران، أحدهُما: ما هو حرام العين والانتفاع جملة، كالخمر، والميتة، والدم، والخنزير، وآلات الشرك، فهذه ثمنها حرام كيفما اتفقت.
والثانى: ما يُباح الانتفاعُ به فى غير الأكل، وإنما يحرم أكلُه، كجلد الميتة بعد الدباغ، وكالحمر الأهلية، والبغال ونحوها مما يحرم أكلُه دونَ الانتفاع به، فهذا قد يُقال: إنه لا يدخل فى الحديث، وإنما يدخل فيه ما هو حرام على الإطلاق. وقد يقال: إنه داخل فيه، ويكون تحريم ثمنه إذا بيع لأجل المنفعة التى حرمت منه، فإذا بيع البغل والحمار لأكلهما، حرم ثمنهما بخلاف ما إذا بيعا للركوب وغيره، وإذا بيع جلد الميتة للانتفاع به، حل ثمنه. وإذا بيع لأكله، حرم ثمنه، وطرد هذا ما قاله جمهور من الفقهاء، كأحمد، ومالك وأتباعهما: إنه إذا بيع العنب لمن يعصره خمراً، حرم أكل ثمنه. بخلاف ما إذا بيع لمن يأكله، وكذلك السلاحُ إذا بيع لمن يُقاتل به مسلماً، حرم أكل ثمنه، وإذا بيع لمن يغزو به فى سبيل اللَّه، فثمنه من الطيبات، وكذلك ثيابُ الحرير إذا بيعت لمن يلبسُها ممن يحرم عليه، حرم أكل ثمنها بخلاف بيعها ممن يحل له لبسها.
فإن قيل: فهل تُجوِّزون للمسلم بيعَ الخمر والخنزير مِن الذمى لاعتقاد الذمى حلهما، كما جوزتم بيعه الدهن المتنجس إذا بين حاله لاعتقاده طهارته وحله؟ قيل: لا يجوز ذلك، وثمنُه حرام، والفرقُ بينهما: أن الدهن المتنجس عين طاهرة خالطها نجاسة، ويسوغ فيها النزاعُ. وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أنه لا ينجس إلا بالتغير. وإن تغير، فذهب طائفة إلى إمكان تطهيره بالغسل، بخلاف العين التى حرمها اللَّه فى كُلِّ ملة، وعلى لسان كل رسول، كالميتة، والدم، والخنزير، فإن استباحته مخالفة لما أجمعت الرسلُ على تحريمه، وإن اعتقد الكافرُ حِلَّه، فهو كبيع الأصنام للمشركين، وهذا هو الذى حرَّمه اللَّه ورسولُه بعينه، وإلا فالمسلمُ لا يشترى صنماً.
فإن قيل: فالخمر حلال عند أهل الكتاب، فجوَّزوا بيعها منهم.
قيل: هذا هو الذى توهمه من توهمه من عمال عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه، حتى كتب إليهم عمر رضى اللَّه عنه ينهاهم عنه، وأمر عماله أن يُولوا أهل الكتاب بَيعها بأنفسهم، وأن يأخذوا ما عليهم من أثمانها، فقال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان بن سعيد، عن إبراهيم بن عبد الأعلى الجعفى، عن سويد بن غفلة، قال: بلغ عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه، أن ناساً يأخذون الجزية من الخنازير، فقام بلال، فقال: إنهم ليفعلون، فقال عمر رضى اللَّه عنه: لا تفعلُوا، ولُّوهم بيعها.
قال أبو عبيد: وحدثنا الأنصارى، عن إسرائيل، عن إبراهيم ابن عبد الأعلى، عن سويد بن غفلة، أن بلالاً قال لعمر رضى اللَّه عنه: إن عُماَلك يأخذون الخمر والخنازير فى الخراج، فقال: لا تأخذوا منهم، ولكن ولوهم بيعها، وخذوا أنتم من الثمن.
قال أبو عبيد: يريد أن المسلمين كانوا يأخذون من أهل الذمة الخمر والخنازير مِن جزية رؤوسهم، وخراج أرضهم بقيمتها، ثم يتولَّى المسلمون بيعها، فهذا الذى أنكره بلال، ونهى عنه عمرُ، ثم رخص لهم أن يأخذوا ذلك من أثمانها إذا كان أهلُ الذمة هم المتولين لبيعها، لأن الخمر والخنازير مالٌ من أموال أهل الذمة، ولا تكون مالاً للمسلمين.
قال: ومما يُبين ذلك حديثُ آخرُ لعمر رضى اللَّه عنه حدثنا على ابن معبد، عن عبيد اللَّه بن عمرو، عن ليث بن أبى سليم، أن عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه كتب إلى العمال يأمرهم بقتل الخنازير وقبض أثمانها لأهل الجزية مِن جزيتهم. قال أبو عُبيد: فهو لم يجعلها قِصاصاً من الجزية إلا وهو يراها من أموالهم. فأما إذا مر الذمى بالخمر والخنازير على العاشر، فإنه لا يطيبُ له أن يُعشِّرها، ولا يأخذ ثمن العشر منها. وإن كان الذمى هو المتولى لبيعها أيضاً، وهذا ليس مِن الباب الأول، ولا يشبهه، لأن ذلك حقٌ وجب على رقابهم وأرضيهم، وأن العشر ههنا إنما هو شىء يُوضع على الخمر والخنازير أنفسها، وكذلك ثمنها لا يطيبُ لقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((إن اللَّه إذا حرم شيئاً حرم ثمنه)). وقد روى عن عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه، أنه أفتى فى مثلِ هذا بغير ما أفتى به فى ذاك، وكذلك قال عمرُ بن عبد العزيز.
حدثنا أبو الأسود المصرى، حدثنا عبدُ اللَّه بن لهيعة، عن عبد اللَّه بن هُبيرة السَّبَائِى أن عُتبة بن فرقد بعث إلى عمرَ بنِ الخطاب بأربعينَ ألفَ درهم صدقة الخمر، فكتب إليه عمر رضى اللَّه عنه: بعثت إلىَّ بصدَقِة الخمر، وأنت أحقُّ بها من المهاجرين، وأخبرَ بذلك الناس، وقال: واللَّه لا استعملتُك على شىءِ بعدها، قال: فتركه.
حدثنا عبد الرحمن، عن المثنى بن سعيد الضبعى، قال: كتب عمرُ بن عبد العزيز إلى عدىِّ بن أرطاة، أن ابعث إلىَّ بتفصيل الأموال التى قِبلَك، من أين دخلت؟ فكتبَ إليه بذلك وصنفه له، وكان فيما كتب إليه من عشر الخمر أربعة آلاف درهم. قال: فلبثنا ما شاءَ اللَّه، ثم جاءه جوابُ كتابه: إنك كتبتَ إلىَّ تذكر من عشور الخمر أربعة آلاف درهم، وإن الخمر لا يُعشرها مسلم، ولا يشتريها، ولا يبيعُها، فإذا أتاك كتابى هذا، فاطلب الرجلَ، فاردُدْها عليه، فهو أولى بما كان فيها. فطلب الرجل، فَرَدَّتْ عليه.
قال أبو عُبيد: فهذا عندى الذى عليه العمل، وإن كان إبراهيم النخعى قد قال غير ذلك. ثم ذكر عنه فى الذمى يمرُّ بالخمر على العاشر، قال: يضاعف عليه العشور.
قال أبو عُبيد: وكان أبو حنيفة يقول: إذا مُرَّ على العاشر بالخمر والخنازير، عَشَّرَ الخمر، ولم يُعشِّرِ الخنازيرَ، سمعتُ محمد بن الحسن يُحدِّث بذلك عنه، قال أبو عبيد: وقول الخليفتين عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز رضى اللَّه عنهما أولى بالاتباع، واللَّه أعلم.