حَكمُ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فى ثمن الكَلْبِ والسِّنَّورِ
 
فى ((الصحيحين)): عن أبى مسعود، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عَنْ ثَمَن الكَلْبِ وَمَهْرِ البَغِىِّ، وحُلْوَانِ الكَاهِنِ.
وفى صحيح مسلم: عن أبى الزبير، قال: سألتُ جابراً عن ثمن الكلب والسِّنور فقال: زَجَرَ النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
وفى سنن أبى داود: عنه أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكَلْبِ والسِّنَّوْرِ.
وفى صحيح مسلم: من حديث رافع بن خَديج، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: ((شَرُّ الكَسْبِ مَهْرُ البَغِىّ وثَمَنُ الكَلْبِ وكَسْبُ الحَجَّامِ)).
فتضمنت هذه السنن أربعة أمور.
( أحدُها: تحريمُ بيع الكلب، وذلك بتناولُ كل كلب صغيراً كانَ أو كبيراً للصيد، أو للماشية، أو للحرث، وهذا مذهبُ فقهاءِ أهلِ الحديثِ قاطبة، والنزاعُ فى ذلك معروف عن أصحاب مالك، وأبى حنيفة، فجوز أصحابُ أبى حنيفة بيعَ الكلاب، وأكل أثمانها، وقال القاضى عبد الوهَّاب: اختلف أصحابُنا فى بيع ما أذن فى اتخاذه من الكلاب، فمنهم من قال: يُكره، ومنهم من قال: يَحرم، انتهى.
وعقدَ بعضُهم فصلاً لما يصح بيعُه، وبنى عليه اختلافهم فى بيع الكلب، فقال: ما كانت منافعُه كلُّها محرمة لم يجز بيعه، إذ لا فرق بين المعدوم حساً، والممنوع شرعاً، وما تنوَّعَتْ منافِعُه إلى محللة ومحرمة، فإن كان المقصودُ مِن العين خاصة كان الاعتبارُ بها، والحكم تابع لها، فاعتُبِرَ نوعُها، وصار الآخر كالمعدوم. وإن توزعت فى النوعين، لم يَصِحَّ البيعُ، لأن ما يُقابل ما حرم منها أكل مال بالباطل، وما سواه من بقية الثمن يصير مجهولاً.
قال: وعلى هذا الأصل مسألةُ بيعِ كلب الصيد، فإذا بُنى الخلافُ فيها على هذا الأصل، قيل: فى الكلب من المنافع كذا وكذا، وعُددت جملة منافعه، ثم نظر فيها، فمن رأى أن جملتها محرمة، منع، ومن رأى جميعَها مُحَلَّلَة، أجاز، ومن رآها متنوعة، نظر: هل المقصودُ المحلل، أو المحرم، فجعل الحكمَ للمقصود، ومن رأى منفعة واحدة منها محرمة وهى مقصودة، منع أيضاً، ومن التبس عليه كونُها مقصودة، وقف أو كره، فتأمل هذا التأصيلَ والتفصيل، وطابق بينهما يظهر لك ما فيهما مِن التناقض والخلل، وأن بناءَ بيع كلب الصيد على هذا الأصل مِن أفسد البناء، فإن قوله: من رأى أن جملة منافع كلب الصيد محرمة بعد تعديدها، لم يجز بيعُه، فإن هذا لم يقله أحدٌ من الناس قط، وقد اتفقت الأمة على إباحة منافع كلب الصيد من الاصطياد والحراسة، وهما جُلُّ منافعه، ولا يُقتنى إلا لذلك، فمن الذى رأى منافعه كُلَّها محرمة، ولا يصح أن تراد منافعه الشرعية؟ فإن إعارتَه جائزة.
وقوله: ومن رأى جميعها محللة، أجاز، كلامٌ فاسِدٌ أيضاً، فإن منافعه المذكورة محللة اتفاقاً، والجمهور على عدم جواز بيعه.وقوله: ومن رآها متنوعة، نظر، هل المقصود المحلل أو المحرم؟ كلامٌ لا فائدة تحته البتة، فإن منفعةَ كلب الصيد هى الاصطيادُ دون الحراسة، فأين التنوعُ وما يُقدَّرُ فى المنافع من التحريم يُقدَّرُ مثلُه فى الحمار والبغل؟ وقوله: ومن رأى منفعة واحدة محرمة وهى مقصودة، منع. أظهرُ فساداً مما قبله، فإن هذه المنفعةَ المحرمة ليست هى المقصودةَ من كلب الصيد، وإن قُدِّرَ أن مشتريَه قصدها، فهو كما لو قصد منفعة محرمة من سائر ما يجوز بيعه، وتبين فساد هذا التأصيل، وأن الأصل الصحيح هو الذى دل عليه النصُّ الصريح الذى لا معارض له البتة من تحريم بيعه.
فإن قيل: كلبُ الصيد مستثنى من النوع الذى نهى عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بدليل ما رواه الترمذى، من حديث جابر رضى اللَّه عنه، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، إلا كلبَ الصَّيْدِ.
وقال النسائى: أخبرنى إبراهيم بن الحسن المصيصى، حدثنا حجاج ابن محمد، عن حماد بن سلمة، عن أبى الزبير، عن جابر رضى اللَّه عنه، أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن ثَمَنِ الكَلْبِ والسِّنَّورِ، إلا كلبَ الصيد.
وقال قاسم بن أصبغ: حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا ابنُ أبى مريم، أخبرنا يحيى بن أيوب، حدثنا المثَّنى بن الصبَّاح، عن عطاء بن أبى رباح، عن أبى هُريرة رضى اللَّه عنه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: ((ثَمَنُ الكَلْبِ سُحْتٌ إلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ)).
وقال ابن وهب عَمَّن أخبره، عن ابن شهاب، عن أبى بكر الصِّديق رضى اللَّه عنه، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((ثَلاثٌ هُنَّ سحْتٌ: حُلْوانُ الكاهِنِ، ومَهْرُ الزانِية، وثَمَنُ الكلبِ العَقُور)).
وقال ابن وهب: حدثنى الشِّمْرُ بن عبد اللّتَه بن ضميرة، عن أبيه، عن جده، عن على بن أبى طالب رضى اللَّه عنه، أنَّ النَبىَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ العَقُورِ. ويدل على صحة هذا الاستثناء أيضاً، أن جابراً أحد من روى عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم النهىَ عن ثمنِ الكلب، وقد رخَّص جابر نفسُه فى ثمن كلب الصيد، وقولُ الصحابى صالح لتخصيص عمومِ الحديث عند من جعله حجة، فكيف إذا كان معه النصُّ بإستثنائه والقياس؟ وأيضاً لأنه يُباح الانتفاع به، ويَصِحُّ نقلُ اليد فيه بالميراث، والوصية، والهبة، وتجوزُ إعارته وإجارته فى أحد قولى العلماء، وهما وجهان للشافعية، فجاز بيعه كالبغل والحمار.
فالجواب: أنه لا يَصِحُّ عن النبى صلى الله عليه وسلم استثناءُ كلب الصيد بوجه: أما حديث جابر رضى اللَّه عنه، فقال الإمام أحمد وقد سئل عنه: هذا مِن الحسن بن أبى جعفر، وهو ضعيف، وقال الدارقطنى: الصواب أنه موقوف على جابر. وقال الترمذى: لا يصح إسناد هذا الحديث.
وقال فى حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه: هذا لا يصح، أبو المهزِّم ضعيف، يريد روايه عنه. وقال البيهقى: روى عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم النهىَ عن ثمن الكلب جماعةٌ، منهم: ابن عباس، وجابر بن عبد اللَّه، وأبو هريرة، ورافع بن خديج، وأبو جُحيفة، اللفظ مختلف، والمعنى واحد. والحديث الذى روُى فى استثناء كلب الصيد لا يصح وكأن مَنْ رواه أراد حديث النهى عن اقتنائه، فَشُبِّهَ عليه، واللَّه أعلم.
وأما حديثُ حماد بن سلمة، عن أبى الزبير، فهو الذى ضعفه الإمام أحمد رحمه اللَّه بالحسن بن أبى جعفر، وكأنَّه لم يقع له طريق حجاج ابن محمد، وهو الذى قال فيه الدارقطنى: الصواب أنه موقوف، وقد أعله ابن حزم، بأن أبا الزبير لم يصرح فيه بالسماع من جابر، وهو مدلس، وليس من رواية الليث عنه. وأعلَّه البيهقىُّ بأن أحدَ رواته وهم من استثناء كلب الصيد مما نُهِىَ عن اقتنائه من الكلاب، فنقله إلى البيع. قلت: ومما يدل على بطلانِ حديثِ جابر هذا، وأنه خُلِّطَ عليه أنه صَحّ عنه، أنه قال: أربعٌ من السحت: ضِرَابُ الفَحْل، وثمنُ الكلب، ومَهْرُ البغىِّ، وكسب الحجام. وهذا علة أيضاً للموقوف عليه من استثناء كلب الصيد، فهو علة للموقوف والمرفوع.
وأما حديثُ المثَّنى بن الصبَّاح، عن عطاء، عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه، فباطل، لأن فيه يحيى بن أيوب، وقد شهد مالك عليه بالكذب، وجرَّحه الإمام أحمد. وفيه المثنى بن الصباح، وضعفه عندهم مشهور، ويدل على بطلان الحديث ما رواه النسائى، حدثنا الحسن بن أحمد بن حبيب، حدثنا محمدبن عبد اللَّه بن نمير حدثنا أسباط، حدثنا الأعمش، عن عطاء بن أبى رباح، قال: قال أبو هريرة رضى اللَّه عنه: أربعٌ مِن السُّحت، ضِرَابُ الفَحْلِ، وثَمَنُ الكَلْبِ، ومَهْرُ البَغىِّ، وكَسْبُ الحَجَّامِ.
وأما الأثر عن أبى بكر الصديق رضى اللَّه عنه، فلا يُدرى من أخبر ابنَ وهب عن ابن شهاب، ولا من أخبرَ ابنَ شهاب عن الصديق رضى اللَّه عنه، ومثل هذا لا يُحتج به.
وأما الأثرُ عن على رضى اللَّه عنه: ففيه ابن ضميرة فى غاية الضعف، ومثلُ هذه الآثار الساقطة المعلولة لا تُقدم على الآثار التى رواها الأئمة الثقاتُ الأثبات، حتى قال بعضُ الحفاظ: إن نقلها نقلُ تواتر، وقد ظهر أنه لم يَصِحَّ عن صحابى خلافها البتة، بل هذا جابر، وأبو هريرة، وابن عباس يقولون: ثمنُ الكلب خبيث.
قال وكيع: حدثنا إسرائيل، عن عبد الكريم، عن قيس بن حَبْتَرٍ، عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما يرفعه: ((ثَمَنُ الكَلْبِ، ومَهْرُ البَغِىِّ، وثَمَنُ الخَمْرِ حَرَامٌ)).
وهذا أقل ما فيه أن يكون قولَ ابن عباس.
وأما قياسُ الكلب على البغل والحمار، فمن أفسد القياس، بل قياسُه على الخنزير أصحُّ من قياسه عليهما، لأن الشبَه الذى بينه وبَين الخنزير أقربُ مِن الشبه الذى بينَه وبينَ البغل والحمار، ولو تعارض القياسانِ لكان القياسُ المؤيَّد بالنصِّ الموافق له، أصحَّ وأولى من القياس المخالف له.
فإن قيل: كان النهىُ عن ثمنها حينَ كان الأمر بقتلها، فلما حَرُمَ قتلُها، وأبيحَ اتخاذُ بعضها، نُسِخَ النهىُ، فنسخ تحريمُ البيع.
قيل: هذه دعوى باطلة ليس مع مدعيها لصحتها دليل، ولا شُبهة، وليس فى الأثر ما يدل على صحة هذه الدَعْوَى البتة بوجه من الوجوه، ويدل على بطلانها: أن أحاديثَ تحريمِ بيعها وأكل ثمنها مطلقة عامة كُلّها، وأحاديثُ الأمر بقتلها، والنهى عن اقتنائها نوعان: نوع كذلك وهو المتقدم، ونوع مقيَّد مخصص وهو المتأخر، فلو كان النهى عن بيعها مقيداً مخصوصاً، لجاءت به الآثارُ كذلك، فلما جاءت عامة مطلقة، عُلثمَ أن عمومَها وإطلاقَها مراد، فلا يجوز إبطالُه. واللَّه أعلم.
فصل
الحكم الثانى: تحريمُ بيع السِّنور، كما دل عليه الحديثُ الصحيح الصريح الذى رواه جابر، وأفتى بموجبه، كما رواه قاسم بن أصبغ، حدثنا محمد بن وضَّاح، حدثنا محمد بن آدم، حدثنا عبد اللَّه بن المبارك، حدثنا حماد بن سلمة، عن أبى الزبير، عن جابر بن عبد اللَّه، أنه كره ثمن الكلب والسنور. قال أبو محمد: فهذه فتيا جابر بن عبد اللَّه، أنه كره بما رواه، ولا يُعرف له مخالف مِن الصحابة، وكذلك أفتى أبو هريرة رضى اللَّه عنه، وهو مذهبُ طاووس، ومجاهد، وجابر بن زيد، وجميع أهل الظاهر، وإحدى الروايتين عن أحمد، وهى اختيارُ أبى بكر عبد العزيز، وهو الصواب لصحة الحديث بذلك، وعدم ما يُعارضه، فوجب القولُ به.
قال البيهقى: ومن العلماء من حمل الحديث على أن ذلك حين كان محكوماً بنجاستها، فلما قال النبى ُّ صلى الله عليه وسلم: ((الهِرَّةُ لَيْسَتْ بِنَجَسٍ)). صار ذلك منسوخاً فى البيع. ومنهم من حمله على السنور إذا توحَّش، ومتابعة ظاهر السنة أولى. ولو سمع الشافعى رحمه اللَّه الخبر الواقع فيه، لقال به إن شاء اللَّه، وإنما لا يقول به مَنْ توقَّف فى تثبيت روايات أبى الزبير، وقد تابعه أبو سفيان عن جابر على هذه الرواية من جهة عيسى بن يونس، وحفص بن غياث عن الأعمش، عن أبى سفيان انتهى كلامه.
ومنهم من حمله على الهرِّ الذى ليس بمملوك، ولا يخفى ما فى هذه المحامل مِن الوهن.