فصل في تحريم مهر البغي
 
والحكم الثالث: مهر البغى، وهو ما تأخذُه الزانية فى مقابل الزنى بها، فحكم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن ذلك خبيثٌ على أى وجه كان، حرةً كانت أو أمةً، ولا سيما فإن البغاء إنما كان على عهدهم فى الإماء دون الحرائر، ولهذا قالت هند: وقت البيعة: ((أو تزنى الحُرة؟)) ولا نزاع بين الفقهاء فى أن الحرة البالغة العاقلة إذا مكنت رجلاً من نفسها فزنى بها أنه لا مهرَ لها.
واختلف فى مسألتين. إحداهما: الحرة المكرهة. والثانية: الأمة المطاوعة، فأما الحرة المكرهة على الزنى، ففيها أربعة أقوال، وهى روايات منصوصات عن أحمد.
أحدها: أن لها المهر بكراً كانت أو ثيباً، سواء وطئت فى قبلها أو دبرها.
والثانى: أنها إن كانت ثيباً، فلا مهر لها، وإن كانت بكراً، فلها المهرُ، وهل يجب معه أرشُ البكارة؟ على روايتين منصوصتين، وهذا القولُ اختيارُ أبى بكر.
والثالث: أنها إن كانت ذاتَ محرم، فلا مهر لها، وإن كانت أجنبية، فلها المهر.
الرابع: أن من تحرم ابنتها كالأم والبنت والأخت، فلا مهر لها، ومن تحل ابنتها كالعمة والخالة، فلها المهر.
وقال أبو حنيفة رحمه اللَّه: لا مهر للمكرهة على الزنى بحال، بكراً كانت أو ثيباً.
فمن أوجب المهر. قال: إن استيفاء هذه المنفعة جعل مقوماً فى الشرع بالمهر، وإنما لم يجب للمختارة، لأنها باذلة للمنفعة التى عوضها لها، فلم يجب لها شىء، كما لو أذنت فى إتلاف عضو من أعضائها لمن أتلفه.
ومن لم يُوجبه قال: الشارعُ إنما جعل هذه المنفعة متقومة بالمهرِ فى عقد أو شبهة عقد، ولم يُقومها بالمهر فى الزنى البتة، وقياس السفاح على النكاح من أفسد القياس. قالوا: وإنما جعل الشارعُ فى مقابلة هذا الاستمتاع الحدَّ والعُقوبة، فلا يجمع بينَه وبينَ ضمان المهر. قالوا: والوجوب إنما يُتلقى من الشرع من نص خطابه أو عمومه، أو فحواه، أو تنبيهه، أو معنى نصِّه، وليس شىء من ذلك ثابتاً متحققاً عنه. وغاية ما يُدعى قياسُ السفاح على النكاح، ويا بُعد ما بينهما. قالوا: والمهر إنما هو مِن خصائص النكاح لفظاً ومعنى، ولهذا إنما يُضاف إليه فيقال: مهر النكاح، ولا يُضاف إلى الزنى، فلا يقال: مهر الزنا، وإنما أطلق النبى صلى الله عليه وسلم المهر وأراد به العقد، كما قال: ((إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الخَمْرِ والميْتَةِ والخِنزِيرِ والأَصْنَامِ)). وكما قال: ((ورَجُلٌ بَاعَ حُراً فَأكَلَ ثَمَنَهُ)). ونظائرُه كثيرة.
والأولون يقولون: الأصلُ فى هذه المنفعة، أن تقوَّم بالمهر، وإنما أسقطه الشارعُ فى حق البغى، وهى التى تزنى بإختيارها، وأما المكرهة على الزنى فليست بغياً، فلا يجوز إسقاطُ بدلِ منفعتها التى أُكرهت على استيفائها، كما لو أُكرِهَ الحر على استيفاء منافعه، فإنه يلزمُه عوضها، وعوضُ هذه المنفعة شرعاً هو المهر، فهذا مأخذ القولين. ومن فرَّق بين البكر والثيب، رأى أن الواطىء لم يذهب على الثيب شيئاً، وحسبُه العقوبة التى ترتبت على فعله، وهذه المعصية لا يُقابلها شرعاً مال يلزم من أقدم عليها، بخلاف البكر، فإنه أزال بكارتها، فلا بُد من ضمان ما أزاله، فكانت هذه الجنايةُ مضمونةً عليه فى الجملة، فضمن ما أتلفه مِن جزء منفعة، وكانت المنفعة تابعة للجزء فى الضمان، كما كانت تابعة له فى عدمه من البكر المطاوعة.
ومن فرَّق بين ذوات المحارم وغيرهن، رأى أن تحريمهن لما كان تحريماً مستقراً، وأنهن غيرُ محل الوطء شرعاً، كان استيفاءُ هذه المنفعة منهن بمنزلة التلوط، فلا يوجب مهراً وهذا قولُ الشعبى، وهذا بخلاف تحريم المصاهرة، فإنه عارض يُمكن زوالُه.
قال صاحب ((المغنى)): وهكذا ينبغى أن يكون الحكم فيمن حرمت بالرضاع، لأَنَِّهُ طَارىءُ أيضاً. ومن فرَّق فى ذوات المحارم، بينَ مَنْ تحرم ابنتها، وبين من لا تحرُم، فكأنه رأى أن من لا تحرم ابنتها تحريمها أخف مِن تحريم الأخرى، فأشبه العارض.
فإن قيل: فما حكمُ المكرهة على الوطء فى دُبرها، أو الأمة المطاوعة على ذلك؟ قيل: هو أولى بعدم الوجوب، فهذا كاللواط لا يجب فيه المهر اتفاقاً.
وقد اختلف فى هذه المسألة الشيخانِ، أبو البركات ابن تيمية، وأبو محمد بن قدامة، فقال أبو البركات فى ((محرره)): ويجب مهرُ المثل للموطوءة بشبهة، والمكرَهَة على الزنى فى قبل أو دبر، وقال أبو محمد فى ((المغنى)): ولا يجب المهرُ بالوطء فى الدبر، ولا اللواط، لأن الشرع لم يَرِدُ ببَدَلِه، ولا هو إتلافٌ لشىء، فأشبه القبلة والوطءَ دونَ الفرج، وهذا القولُ هو الصوابُ قطعاً، فإن هذا الفعل لم يجعل له الشارعُ قيمة أصلاً، ولا قدَّر له مهراً بوجه من الوجوه، وقياسُه على وطء الفرج مِن أفسد القياس، ولازم من قاله إيجابُ المهر لمن فعلت به اللوطية مِن الذكور، وهذا لم يقل به أحد البتة.
فصل
وأما المسألة الثانية: وهى الأمة المطاوعة، فهل يجب لها المَهر؟ فيه قولان. أحدُهما: يِجبُ، وهو قولُ الشافعى، وأكثر أصحاب أحمد رحمه اللَّه. قالوا: لأن هذه المنفعة لغيرها، فلا يسقط بدلها مجاناً، كما لو أذنت فى قطع طرفها. والصوابُ المقطوع به: أنه لا مهر لها، وهذه هى البغىُّ التى نهى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن مهرها، وأخبر أنه خبيثٌ، وحكم عليه وعلى ثمنِ الكلب، وأجرِ الكاهن بحكم واحد، والأمة داخلة فى هذا الحكم دخولاً أولياً، فلا يجوز تخصيصُها مِن عمومه لأن الإماء هن اللاتى كُن يُعرفن بالبغاء، وفيهن وفى ساداتهن أنزل اللَّهُ تعالى: {ولا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُم عَلى البِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} [النور: 33]، فكيف يجوز أن تُخرج الإماء مِن نص أردن به قطعاً، ويُحمل على غيرهن.
وأما قولكم: إن منفعتها لسيدها، ولم يأذن فى استيفائها، فيقال: هذه المنفعةُ يملك السيدُ استيفاءها بنفسه، ويملِكُ المعاوضة عليها بعقد النكاحِ أو شبهته، ولا يملِكُ المعاوضَةَ عليها إلا إذا أذنت، ولم يجعل اللَّهُ ورسوله للزنى عوضاً قط غير العقوبة، فيفوت على السيد حتى يُقضى له، بل هذا تقويمُ مال أهدره اللَّهُ ورسولُه، وإثباتُ عِوض حكم الشارعُ بخبثه، وجعله بمنزلة ثمنِ الكلب، وأجرِ الكاهن، وإن كان عوضاً خبيثاً شرعاً، لم يجز أن يقضى به.
ولا يقال: فأجر الحجام خبيث، ويُقضى له به، لأن منفعة الحِجامة منفعة مباحة، وتجوز، بل يجبُ على مستأجره أن يُوفيه أجره، فأين هذا مِن المنفعة الخبيثة المحرمة التى عِوضها مِن جنسها، وحُكمه حكمها، وإيجابُ عوض فى مقابلة هذه المعصية، كإيجابِ عوض فى مقابلة اللواط، إذ الشارع لم يجعل فى مقابلة هذا الفعل عوضاً.
فإن قيل: فقد جعل فى مقابلة الوطء فى الفرج عوضاً، وهو المهرُ مِن حيث الجملة، بخلاف اللواطة.
قلنا: إنما جعل فى مقابلته عوضاً، إذا استوفى بعقد أو بشبهة عقد، ولم يجعل له عوضاً إذا استوفى بزنى محض لا شُبهة فيه، وباللَّه التوفيق. ولم يُعرف فى الإسلام قط أن زانياً قضى عليه بالمهر للمزنى بها، ولا ريبَ أن المسلمين يرون هذا قبيحاً، فهو عند اللَّه عز وجل قييح.