فصل في حلوان الكاهن
 
الحكم الخامس: حلوان الكاهن. قال أبو عمر بن عبد البر: لا خلاف فى حُلوان الكاهن أنه ما يُعطاه على كهانته، وهو مِن أكل المال بالباطل، والحلوان فى أصل اللغة: العطية. قال علقمةُ:
فَمَنْ رَجُلٌ أَحْلُوهُ رَحْلى ونَاقَتِى يُبَلِّغُ عنِّى الشِّعْرَ إذْ مَاتَ قَائِلُهُ
انتهى.
وتحريمُ حُلوان الكاهن تنبيه على تحريم حُلوان المنجم، والزاجر، وصاحب القُرعة التى هى شقيقة الأزلام، وضاربة الحصا، والعرَّاف، والرَّمَّال ونحوهم ممن تطلب منهم الأخبارُ عن المغيبات، وقد نهى النبىُّ صلى الله عليه وسلم عن إتيان الكهّانِ، وأخبر أن: ((مَنْ أَتَى عَرَّافاً فَصَدَّقه بما يَقُولُ، فَقَدْ كَفَر بِمَا أنزل عليه صلى الله عليه وسلم)) ولا ريبَ أن الإيمانَ بما جاء به محَّمدٌ صلى الله عليه وسلم، وبما يجىء به هؤلاء، لا يجتمعان فى قلب واحد، وإن كان أحدُهم قد يَصْدُقُ أيحاناً، فصِدقُه بالنسبة إلى كذبه قليلٌ من كثير، وشيطانُه الذى يأتيه بالأخبار لا بُد له أن يَصْدُقَه أحياناً لِيُغوىَ به الناس، ويفتنهم به.
وأكثرُ الناسِ مستجيبون لهؤلاء، مؤمنون بهم، ولا سيما ضعفاء العقول، كالسُّفهاء، والجُهَّالِ، والنِّساء، وأهل البوادى، ومن لا عِلْمَ لهم بحقائق الإيمان، فهؤلاء هم المفتونون بهم، وكثيرٌ منهم يُحْسِنُ الظنَّ بأحدهم، ولو كان مشركاً كافراً باللَّه مجاهراً بذلك، ويزوره، وينذر له، ويلتمِسُ دعاءه. فقد رأينا وسمِعْنَا من ذلك كَثيراً، وسببُ هذا كله خفاءُ ما بعث اللَّه به رسوله من الهدى ودين الحق على هؤلاء وأمثالهم، {ومَنْ لم يجعل اللَّهُ له نوراً فما له من نور} [النور: 40]، وقد قال الصحابة رضى اللَّه عنهم للنبى صلى الله عليه وسلم: إنَّ هؤلاءِ يُحدثوننا أحياناً بالأمر، فيكونُ كما قالوا، فأخبرهم أنَّ ذلِكَ مِنْ جِهَةِ الشَّيَاطِين، يُلْقُونَ إِلَيْهِم الكَلِمَةَ تكُونُ حَقاً فَيزِيدُون هُمْ مَعَها مائَة كَذْبَةٍ فَيُصَدَّقُونَ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الكَلِمَةِ.
وأما أصحابُ الملاحم، فركَّبُوا ملاحِمَهم من أشياء.
أحدها: من أخبارِ الكهان.
والثانى: من أخبارٍ منقولة عن الكتب السالفة متوارثة بينَ أهل الكتاب.
والثالث: من أمور أخْبَرَ نبيُّنا صلى الله عليه وسلم بها جملة وتفصيلاً.
والرابع: من أمور أخبر بها من له كشف مِن الصحابة ومَن بعدهم.
والخامس: من منامات متواطئة على أمر كُلى وجزئى. فالجزئى: يذكرونه بعينه والكُلى: يُفصلونه بحدس وقرائن تكون حقاً أو تقارب.
والسادس: مِن استدلال بآثار علوية جعلها اللَّه تعالى علامات وأدلة وأسباباً لحوادث أرضية لا يعلمُها أكثرُ الناس، فإن اللَّه سبحانه لم يخلق شيئاً سدى ولا عبثاً. وربط سبحانه العالمَ العُلوى بالسُّفلى، وجعل عُلويه مؤثراً فى سُفليه دون العكسِ، فالشمس، والقمرُ لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإن كان كسوفُهما لِسبب شر يحدث فى الأرض، ولهذا شرع سُبحانه تغييرَ الشرِ عند كُسوفهما بما يدفع ذلك الشرَّ المتوقَّعَ مِن الصلاة والذكر والدعاء والتوبة والاستغفار والعتق، فإن هذه الأشياء تُعارضُ أسباب الشر، وتُقاومها، وتدفع موجباتها إن قويت عليها.
وقد جعل اللَّهُ سبحانه حركةَ الشمس والقمر، واختلافَ مطالعهما سبباً للفصول التى هى سببُ الحر والبرد، والشتاء والصيف، وما يحدُث فيهما مما يليق بكُلِّ فصل منها، فمن له اعتناء بحركاتهما، واختلاف مطالعهما، يستدِلُّ بذلك على ما يحدث فى النبات والحيوان وغيرهما، وهذا أمر يعرفه كثيرٌ من أهل الفلاحة والزراعة، ونواتى السفن لهم استدلالاتٌ بأحوالهما وأحوالِ الكواكب على أسباب السلامةِ والعطبِ مِن اختلاف الرياح وقوتها وعُصوفها، لا تكاد تَخْتَلُّ.
والأطباءُ لهم استدلالات بأحوال القمر والشمس على اختلاف طبيعة الإنسان وتهيئها لِقبول التغير، واستعدادها لأمور غريبة ونحو ذلك.
وواضعو الملاحم لهم عناية شديدة بهذا، وأمور متوارثَة عن قدماء المنجمين، ثم يستنتجون مِن هذا كُلِّه قياسات وأحكاماً تشبه ما تقدم ونظيره. وسنة اللَّه فى خلقه جارية على سنن اقتضته حكمته، فحكم النظير حكمُ نظيره، وحكمُ الشىء حكم مثله، وهؤلاء صرفوا قوى أذهانهم إلى أحكام القضاءِ والقدر، واعتبار بعضه ببعض، والاستدلال ببعضه على بعض، كما صرف أئمة الشرع قوى أذهانهم إلى أحكام الأمر والشرع، واعتبار بعضه ببعض، والاستدلال ببعضه على بعض، واللَّه سبحانه له الخلق والأمر، ومصدر خلقه وأمره عن حكمه لا تختل ولا تتعطل ولا تنتقِضُ ومن صرف قوى ذهنه وفكره، واستنفد ساعاتِ عمره فى شىءٍ مِن أحكام هذا العالم وعلمه، كان له فيه من النفوذ والمعرفة والاطلاع ما ليس لغيره.
ويكفى الاعتبارُ بفرع واحدٍ من فروعه، وهو عبارة الرؤيا، فإن العبد إذا نفذ فيها، وكَمُل اطلاعه، جاء بالعجائب. وقد شاهدنا نحن وغيرُنا مِن ذلك أموراً عجيبةً، يحكم فيها المعبِّرُ بأحكام متلازمة صادقة، سريعة وبطيئة، ويقول سامعها: هذه علم غيب. وإنما هى معرفة ما غاب عن غيره بأسبابٍ انفرد هو بعلمها، وخفيت على غيره، والشارع صلوات اللَّه عليه حرم من تعاطى ذلك ما مضرتُه راجحة على منفعته، أو ما لا منفعة فيه، أو ما يُخشى على صاحبه أن يجرَّه إلى الشرك، وحرم بذل المال فى ذلك، وحرم أخذه به صيانة للأمة عما يُفسد عليها الإيمان أو يخدِشُه، بخلاف علم عبارة الرؤيا، فإنه حقٌ لا باطل، لأن الرؤيا مستندة إلى الوحى المنامى، وهى جزء من أجزاء النبوة، ولهذا كُلَّما كان الرائى أصدقَ، كانت رؤياه أصدقَ، وكلما كان المعبرُ أصدق، وأبر وأعلم، كان تعبيرُه أصحَّ، بخلاف الكاهن والمنجم وأضرابهما ممن لهم مدد من إخوانهم من الشياطين، فإن صناعتهم لا تَصِحُّ مِن صادق ولا بار، ولا متقيد بالشريعة، بل هم أشبهُ بالسحرة الذين كلما كان أحدُهم أكذبَ وأفجرَ، وأبعدَ عن اللَّه ورسوله ودينه، كان السحرُ معه أقوى وأشدَّ تأثيراً، بخلاف علم الشرع والحق، فإن صاحبَه كلما كان أبرَّ وأصدقَ وأدينَ، كان علمه به ونفوذه فيه أقوى، وباللَّه التوفيق.


الموضوع التالي


فصل في خبث كسب الحجام

الموضوع السابق


فصل في كسب الزانية