قال المصنف رحمه الله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم .
 

ابتدأ كتابه بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز وعملاً بحديث - كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع- أخرجه ابن حبان من طريقين . قال ابن صلاح : والحديث حسن . ولأبى دواد وابن ماجه - كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أو بالحمد
فهو أقطع - ولأحمد - كل أمر ذى بال لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر أو أقطع - وللدارقطني عن أبى هريرة مرفوعاً - كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أقطع - .
والمصنف قد اقتصر فى بعض نسخه على البسملة ، لأنها من أبلغ الثناء والذكر للحديث المتقدم . وكان النبى صلى الله عليه وسلم يقتصر عليها فى مراسلاته ، كما فى كتابه لهرقل عظيم الروم ووقع لى نسخة بخطه رحمه الله تعالى بدأ فيها بالبسملة ، وثنى بالحمد والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم وآله . وعلى هذا فالابتداء بالبسملة حقيقى ، وبالحمدلة نسبى إضافى ، أى بالنسبة إلى ما بعد الحمد يكون مبدوءاً به .
والباء فى بسم الله متعلقة بمحذوف ، واختار كثير من المتأخرين كونه فعلاً خاصاً متأخراً .
أما كونه فعلا ، فلأن الأصل فى العمل للأفعال .
وأما كونه خاصاً ، فلأن كل مبتدىء بالبسملة فى أمر يضمر ما جعل البسملة مبدأ له .
وأما كونه متأخراً ، فلدلالته على الاختصاص ، وأدخل فى التعظيم ، وأوفق للوجود ، ولأن أهم ما يبدأ به ذكر الله تعالى .
وذكر العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى لحذف العامل فوائد ، منها أنه موطن لا ينبغى أن يتقدم فيه غير ذكر الله . ومنها : أن الفعل إذا حذف صح الابتداء بالبسملة في كل عمل وقول حركة . فكان الحذف أعم . إنتهى ملخصاً .
وباء بسم الله للمصاحبة . وقيل : للاستعانة . فيكون التقدير : بسم الله أؤلف حال كونى مستعيناً بذكره ، متبركاً به . وأما ظهوره فى - اقرأ باسم ربك - وفي - بسم الله مجريها - فلأن المقام يقتضى ذلك كما لا يخفى .
والاسم مشتق من السمو وهو العلو . وقيل : من الوسم وهو العلامة ، لأن كل ما سمى فقد نوه باسمه ووسم .
قوله ( الله ) قال الكسائي والفراء : أصله الإله ، حذفوا الهمزة ، وأدغموا اللام فى اللام ، فصارتا لاماً واحدة مشددة مفخمة . قال العلامة ابن القيم رحمه الله : الصحيح : أنه مشتق ، وأن أصله الإله ، كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ . وهو الجامع لمعانى الأسماء الحسنى والصفات العلى . والذين قالوا بالاشتقاق إنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى . وهى الإلهية كسائر أسمائه الحسنى ، كالعليم والقدير ، والسميع ، والبصير ، ونحو ذلك . فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب ، وهى قديمة ، ونحن لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها فى اللفظ والمعنى ، لا أنها متولدة منه تولد الفرع من أصله . وتسمية النحاة للمصدر والمشتقق منه : أصلاً وفرعاً . ليس معناه أن أحدهما متولد من الآخر . وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الأخر وزيادة .
قال أبو جعفر بن جرير الله أصله الإله أسقطت الهمزة التى هى فاء الاسم . فالتقت اللام التى هى عين الاسم واللام الزائدة وهى ساكنة فأدغمت فى الأخرى ، فصارتا فى اللفظ لاماً واحدة مشددة . وأما تأويلالله فإنه على معنى ما روى لنا عن عبد الله بن عباس قال : هو الذى يألهه كل شئ ويعبده كل خلق وساق بسنده عن الضحاك عن عبد الله بن عباس قال : الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين فإن قال لنا قائل : وما دل على أن الألوهية هى العبادة وأن الإله هو المعبود ، وأن له أصلاً فى فعل ويفعل ، وذكر بيت رؤية بن العجاج .
لله در الغانيات المدة سبحن واسترجعن من تألهى
يعنى من تعبدى وطلبى الله بعملى . ولا شك أن التأله التفعل ، من أله يأله وأن معنى أله إذا نطق به : عبد الله . وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد نطقت منه بفعل يفعل بغير زيادة . وذلك ما حدثنا به سفيان بن وكيع - وساق السند إلى ابن عباس أنه قرأ - ويذرك وآلهتك - قال : عبادتك . ويقول : إنه كان يعبد ولا يعبد وساق بسند آخر عن ابن عباس ويذرك وإلاهتك . قال : إنما كان فرعون يعبد ولا يعبد وذكر مثله عن مجاهد ، ثم قال : فقد بين قول ابن عباس ومجاهد هذا : أن أله عبد وأن الإلهة مصدره وساق حديثاً عن أبى سعيد مرفوعاً أن عيسى أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه . فقال له المعلم : اكتب بسم الله . فقال عيسى : أتدرى ما الله ؟ الله إله الآلهة .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله : لهذا الاسم الثسريف عشر خصائص لفظية وساقها . ثم قال : وأما خصائصه المعنوية فقد قال أعلم الخلق صلى الله عليه وسلم : - لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك - وكيف نحصى خصائص اسم لمسماه كل كمال على الإطلاق ، وكل مدح وحمد ، وكل ثناء وكل مجد ، وكل جلال وكل كمال ، وكل عز وكل جمال ، وكل خير وإحسان ، وجود وفضل وبر فله ومنه ، فما ذكر هذا الاسم فى قليل إلا كثره ، ولا عند خوف إلا أزاله ، ولا عند كرب إلا كشفه ، ولا عند هم وغم إلا فرجه ، ولا عند ضيق إلا وسعه ، ولا تعلق به ضعيف إلا أفاده القوة ، ولا ذليل إلا أناله العز ، ولا فقير إلا أصاره غنياً ، ولا مستوحشاً إلا آنسه ، ولا مغلوب إلا أيده ونصره ، ولا مضطر إلا كشف ضره ، ولا شريد إلا آواه . فهو الاسم الذى تكشف به الكربات ، وتستنزل به البركات ، وتجاب به الدعوات ، وتقال به العثرات ، وتستدفع به السيئات ، وتستجلب به الحسنات . وهو الاسم الذى قامت به الأرض والسماوات ، وبه أنزلت الكتب ، وبه أرسلت الرسل ، وبه شرعت الشرائع . وبه قامت الحدود ، وبه شرع الجهاد ، وبه انقسمت الخليقة إلى السعداء والأشقياء ، وبه حقت الحاقة . ووقعت الواقعة . وبه وضعت الموازين القسط ونصب الصراط ، وقام سوق الجنة والنار . وبه عبد رب العالمين وحمد ، وبحقه بعثت الرسل ، وعنه السؤال في القبر ويوم البعث والنشور وبه الخصام وإليه المحاكمة ، وفيه الموالاة والمعاداة ، وبه سعد من عرفه وقام بحقه ، وبه شقى من جهله وترك حقه ، فهو سر الخلق والأمر . وبه قاما وثبتا ، وإليه انتهيا ، فالخلق به وإليه ولأجله . فما وجد خلق ولا أمر ولا ثواب ولا عقاب إلا مبتدئاً منه ومنتهياً إليه ، وذلك موجبه ومقتضاه # 3 : 191 # - ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار - إلى آخر كلامه رحمه الله .
قوله (الرحمن الرحيم) قال ابن جرير : حدثنى السري بن يحيى حدثنا عثمان بن زفر سمعت العزرمى يقول : الرحمن بجميع الخلق ، والرحيم بالمؤمنين . وساق بسنده عن أبى سعيد - يعنى الخدرى - -قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن عيسى ابن مريم قال : الرحمن : رحمن الآخرة والدنيا . والرحيم : رحيم الآخرة- .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : فاسمه الله دل على كونه مألوهاً معبوداً . يألهه الخلائق : محبة وتعظيماً وخضوعاً ، ومفزعاً إليه فى الحوائج والنوائب . وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته ، المتضمنين لكمال الملك والحمد ، وإلهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه ، مستلزم لجميع صفات كماله . إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحى ، ولا سميع ، ولا بصير ، ولا قادر ، ولا متكلم ، ولافعال لما يريد ، ولا حكيم فى أقواله وأفعاله . فصفات الجلال والجمال أخص باسم الله ، وصفات الفعل والقدرة والتفرد بالضر والنفع (العطاء والمنع ونفوذ المشيئة وكمال القوة وتدبر أمر الخليقة : أخص باسم الرب) ، وصفات الإحسان والجود والبر والحنان والمنة والرأفة والعطف أخص باسم الرحمن .
وقال رحمه الله أيضاً : الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم . واذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى : # 33 : 44 # -وكان بالمؤمنين رحيماً - # 9 : 117 # -إنه بهم رؤوف رحيم- ولم يجيء قط رحمان بهم .
وقال : إن أسماء الرب تعالى هي أسماء ونعوت ، فإنها دالة على صفات كماله . فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية ، فالرحمن اسمه تعالى ووصفه ، فمن حيث هو صفة جرى تابعاً لاسم الله ، ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع ، بل ورد الاسم العلم ، كقوله تعالى -الرحمن على العرش استوى - انتهى ملخصاً .