قال المصنف رحمه الله تعالى : وقول الله تعالى : # 51: 56 # -وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون-
 
ش: بالجر عطف على التوحيد . ويجوز الرفع على الابتداء .
قال شيخ الإسلام : العبادة هى طاعة الله بامتثال ما أمر الله به على ألسنة الرسل .
وقال أيضاً : العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .
قال ابن القيم : ومدارها على خمس عشرة قاعدة . من كملها كمل مراتب العبودية .
وبيان ذلك : أن العبادة منقسمة على القلب واللسان والجوارح . والأحكام التى للعبودية خمسة : واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح . وهن لكل واحد من القلب واللسان والجوارح .
وقال القرطبى : أصل العبادة التذلل والخضوع . وسميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات . لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين لله تعالى .
ومعنى الآية : أن الله تعالى أخبر أنه ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته . فهذا هو الحكمة في خلقهم .
قلت : وهي الحكمة الشرعية الدينية .
قال العماد ابن كثير : وعبادته هى طاعته بفعل المأمور وترك المحظور . وذلك هو حقيقة دين الاسلام . لأن معنى الإسلام : الاستسلام لله تعالى ، المتضمن غاية الانقياد والذل والخضوع . انتهى .
وقال أيضا فى تفسير هذه الاية : ومعنى الآية أن الله خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له . فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء . ومن عصاه عذبه أشد العذاب . وأخبر أنه غير محتاج إليهم . بل هم الفقراء فى جميع أحوالهم وهو خالقهم ورازقهم . وقال علي بن
أبى طالب رضى الله عنه فى الآية إلا لآمرهم أن يعبدونى وأدعوهم إلى عبادتى وقال مجاهد : إلا لآمرهم وأنهاهم اختاره الزجاج وشيخ الإسلام . قال : ويدل على هذا قوله # 75 : 36 # -أيحسب الإنسان أن يترك سدى- قال الشافعى : لا يؤمر ولا ينهى وقال فى القرآن فى غير موضع -اعبدوا ربكم- -اتقوا ربكم- فقد أمرهم بما خلقوا له . وأرسل الرسل بذلك . وهذا المعنى هو الذى قصد بالآية قطعاً ، وهو الذى يفهمه جماهير المسلمين ويحتجون بالآية عليه .
قال وهذه الآية تشبه قوله تعالى : # 4 : 64 # -وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله- ثم قد يطاع وقد يعصى . وكذلك ما خلقهم إلا لعبادته . ثم قد يعبدون وقد لا يعبدون . وهو سبحانه لم يقل : إنه فعل الأول . وهو خلقهم ليفعل بهم كلهم . الثانى : وهو عبادته ولكن ذكر أنه فعل الأول ليفعلوا هم الثانى . فيكونوا هم الفاعلين له . فيحصل لهم بفعله سعادتهم ويحصل ما يحبه ويرضاه منه ولهم . انتهى .
ويشهد لهذا المعنى : ما تواترت به الأحاديث .
فمنها ما أخرجه مسلم فى صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : -يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذاباً : لو كانت لك الدنيا وما فيها ومثلها معها أكنت مفتدياً بها ؟ فيقول : نعم . فيقول : قد أردت منك أهون من هذا وأنت فى صلب آدم . أن لا تشرك - أحسبه قال : ولا أدخلك النار - فأبيت إلا الشرك- فهذا المشرك قد خالف ما أراده الله تعالى منه : من توحيده وأن لا يشرك به شيئاً . فخالف ما أراده الله منه فأشرك به غيره . وهذه هى الإرادة الشرعية الدينية كما تقدم .
فبين الإرادة الشرعية الدينية والإرادة الكونية القدرية عموم وخصوص مطلق .
يجتمعان فى حق المخلص المطيع . وتنفرد الإرادة الكونية القدرية فى حق العاصى . فافهم ذلك تنج من جهالات أرباب الكلام وتابعيهم .