قال المصنف رحمه الله تعالى : وقوله # 16 : 36 # ـ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ـ .
 
ش: الطاغوت : مشتق من الطغيان ، وهو مجاوزة الحد . قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه : الطاغوت الشيطان . وقال جابر رضى الله عنه الطاغوت كهان كانت تنزل عليهم الشياطين رواهما ابن أبى حاتم . وقال مالك : الطاغوت كل ما عبد من دون الله .
قلت : وذلك المذكور بعض أفراده ، وقد حده العلامة ابن القيم حداً جامعاً فقال الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده : من معبود أو متبوع أو مطاع . فطاغوت كل قوم : من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله ، أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله . فهذه طواغيت العالم . إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها . رأيت أكثرههم أعرض عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الطاغوت وعن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طاعة الطاغوت ومتابعته .
وأما معنى الآية : فأخبر تعالى أنه بعث فى كل طائفة من الناس رسولاً بهذه الكلمة -أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت- أي اعبدوا الله وحده واتركوا عبادة ما سواه ، كما قال تعالى : # 2 : 256 # -فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها- وهذا معنى لا إله إلا الله فإنها هي العروة الوثقى .
قال العماد ابن كثير فى هذه الآية : كلهم - أى الرسل - يدعو إلى عبادة الله ، وينهى عن عبادة ما سواه ، فلم يزل سبحانه يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك فى بنى آدم فى قوم نوح الذين أرسل إليهم ، وكان أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، الذى طبق دعوته الإنس والجن فى المشارق والمغارب ، وكلهم كما قال الله تعالى : # 21 : 25 # -وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون- وقال تعالى فى هذه الآية الكريمة : - ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت - فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول : - لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء - ، فمشيئة الله تعالى الشرعية عنهم منفية ، لأنه نهاههم عن ذلك على ألسن رسله ، وأما مشيئته الكونية - وهى تمكينهم من ذلك قدراً - فلا حجة لهم فيها ، لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة ، وهو لا يرضى لعبادة الكفر ، وله فى ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة ، ثم إنه تعالى قد أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة فى الدنيا بعد إنذار الرسل ، فلهذا قال : # 16 : 36 # -فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة- انتهى .
قلت : وهذه الآية تفسير الآية التي قبلها . وذلك قوله : -فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة- فتدبر .
ودلت هذه الآية على أن الحكمة في ارسال الرسل ، دعوتهم أممهم إلى عبادة الله وحده ، والنهي عن عبادة ما سواه ، وأن هذا هو دين الأنبياء والمرسلين ، وإن اختلفت شريعتهم كما قال تعالى -لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً- وأنه لا بد في الإيمان من عمل القلب والجوارح .