بعث معاذ الى اليمن يدعوهم الى التوحيد
 

قال : (وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال : - إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب . فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله الا الله - وفى رواية : إلى أن يوحدوا الله - فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات فى كل يوم وليلة . فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم . فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم . واتق دعوة المظلوم . فإنه ليس بينها وبين الله حجاب - أخرجاه) .
قال الحافظ : كان بعث معاذ إلى اليمن سنة عشر . قبل حج النبى صلى الله عليه وسلم كما ذكره المصنف - يعنى البخارى فى أواخر المغازي - وقيل : كان ذلك فى آخر سنة تسع عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من تبوك . رواه الواقدي بإسناد إلى كعب بن مالك . وأخرجه ابن سعد في لطبقات عنه واتفقوا على أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه ثم توجه إلى الشام فمات بها .
قال شيخ الإسلام : ومن فضائل معاذ رضى الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن مبلغاً عنه . ومفقهاً ومعلماً وحاكماً .
قوله (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب) قال القرطبي : يعني اليهود والنصارى ، لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب أو أغلب ، وإنما نبه على ذلك ليتهيأ لمناظرتهم .
وقال الحافظ : هو كالتوطئة للوصية لجمع همته عليها .
قوله (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله شهادة رفع على أنه اسم يكن مؤخر . و أول خبرها مقدم . ويجوز العكس .
قوله : (وفى رواية إلى أن يوحدوا الله) هذه الرواية ثابتة فى كتاب التوحيد من صحيح البخارى . وأشار المصنف بذكر هذه الرواية إلى التنبية على معنى شهادة أن لا إله إلا الله فإن معناها توحيد الله بالعبادة ونفي عبادة ما سواه . وفى رواية فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ، كما قال تعالى : # 2 : 256 # - فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها - والعروة الوثقى هى (لا إله إلا الله) وفى رواية للبخارى فقال: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله .
قلت : لا بد فى شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط ، لا تنفع قائلها إلا باجتماعها ، أحدها : العلم المنافي للجهل . الثانى : اليقين المنافي للشك . الثالث : القبول المنافي للرد . الرابع : الانقياد المنافي للترك . الخامس : الإخلاص المنافي للشرك. السادس: الصدق المنافي للكذب . السابع : المحبة المنافية لضدها .
وفيه دليل على أن التوحيد - الذي هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه - هو أول واجب . ولهذا كان أول ما دعت إليه الرسل عليهم السلام : - أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره - وقال نوح : - أن لا تعبدوا إلا الله - وفيه معنى (لا إله إلا الله) مطابقة .
قال شيخ الإسلام : وقد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، فبذلك يصير الكافر مسلماً ، والعدو ولياً ، والمباح دمه وماله : معصوم الدم والمال . ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل فى الإيمان وإن قاله بلسانه دون قلبه فهو فى ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان . قال : وأما إذا لم يتكلم بها مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين باطناً وظاهراً ، عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير العلماء ا هـ .
قال المصنف رحمه الله تعالى : (وفيه أن الإنسان قد يكون عالماً وهو لا يعرف معنى لا إله إلا الله أو يعرفه ولا يعمل به) .
قلت : فما أكثر هؤلاء - لا كثرهم الله تعالى .
قوله : (فإن هم أطاعوك لذلك) أي شهدوا وانقادوا لذلك (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات) فيه : أن الصلاة أعظم واجب بعد الشهادتين . قال النووى ما معناه : أنه يدل على أن المطالبة بالفرائض فى الدنيا لا تكون إلا بعد الإسلام . ولا يلزم من ذلك أن لا يكونا مخاطبين بها ، ويزاد فى عذابهم بسببها فى الآخرة . والصحيح أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به والمنهى عنه . وهذا قول الأكثرين ا هـ .
قوله : (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) .
فيه دليل على أن الزكاة أوجب الأركان بعد الصلوات ، وأنها تؤخذ من الأغنياء وتصرف إلى الفقراء ، وإنما خص النبى صلى الله عليه وسلم الفقراء لأن حقهم في الزكاة آكد من حق بقية الأصناف الثمانية .
وفيه : أن الإمام هو الذى يتولى قبض الزكاة وصرفها : إما بنفسه أو نائبه ، فمن امتنع عن آدائها إليه أخذت منه قهراً .
في الحديث دليل على أنه يكفي إخراج الزكاة فى صنف واحد ، كما هو مذهب مالك وأحمد .
وفيه : أنه لا يجوز دفعها إلى غني ولا إلى كافر غير المؤلف ، وإن الزكاة واجبة فى مال الصبى والمجنون ، كما هو قول الجمهور ، لعموم الحديث .
قلت : والفقير إذا أفرد فى اللفظ تناول المسكين وبالعكس ، كنظائره . كما قرره شيخ الإسلام .
قوله (إياك وكرائم أموالهم) بنصب كرائم على التحذير ، وجمع كريمة قال صاحب المطالع هي الجامعة للكمال الممكن في حقها ، من غزارة لبن ، وجمال صورة ، وكثرة لحم وصوف . ذكر النووي (قلت) وهي خيار المال وأنفسه وأكثره ثمناً .
وفيه : أنه يحرم على العامل فى الزكاة أخذ كرائم المال ، ويحرم على صاحب المال إخراج شرار المال . بل يخرج الوسط ، فإن طابت نفسه بالكريمة جاز .
قوله : (واتق دعوة المظلوم) أي اجعل بينك وبينها وقاية بالعدل وترك الظلم ، وهذان الأمران يقيان من رزقهما من جميع الشرور دنيا وأخرى .
وفيه تنبيه على التحذير من جميع أنواع الظلم .
قوله : (فإنه) أي الشأن (ليس بينها وبين الله حجاب) هذه الجملة مفسرة لضمير الشأن ، أي فإنها لا تحجب عن الله فيقبلها .
وفى الحديث أيضاً قبول خبر الواحد العدل ، ووجوب العمل به . وبعث الإمام العمال لجباية الزكاة . وأنه يعظ عماله وولاته ، ويأمرهم بتقوى الله تعالى ، ويعلمهم ، وينهاهم عن الظلم ويعرفهم سوء عاقبته . والتنبيه على التعليم بالتدريج . قاله المصنف .
قلت : ويبدأ بالأهم فالأهم .
واعلم أنه لم يذكر فى الحديث الصوم والحج ، فأشكل ذلك على كثير من العلماء . قال شيخ الإسلام : أجاب بعض الناس : أن بعض الرواة اختصر الحديث وليس كذلك . فإن هذا طعن فى الرواة . لأن ذلك إنما يقع فى الحديث الواحد ، مثل حديث وفد عبد القيس حيث ذكر بعضهم الصيام وبعضهم لم يذكره ، فأما الحديثان المنفصلان فليس الأمر فيها كذلك ، ولكن عن هذا جوابان :
أحدهما : أن ذلك بحسب نزول الفرائض ، وأول ما فرض الله الشهادتين ثم الصلاة . فإنه أمر بالصلاة فى أول أوقات الوحي ، ولهذا لم يذكر وجوب الحج ، كعامة الأحاديث ، إنما جاء فى الأحاديث المتأخرة .
الجواب الثانى : أنه كان يذكر فى كل مقام ما يناسبه . فيذكر تارة الفرائض التى يقاتل عليها : كالصلاة والزكاة . ويذكر تارة الصلاة والصيام لمن لم يكن عليه زكاة ، ويذكر تارة الصلاة والزكاة والصوم . فإما أن يكون قبل فرض الحج ، وإما أن يكون المخاطب بذلك لا حج عليه ، وأما الصلاة والزكاة فلهما شأن ليس لسائر الفرائض ولهذا ذكر الله تعالى فى كتابه القتال عليهما ، لأنهما عبادتان ظاهرتان ، بخلاف الصوم بأنه أمر باطن من جنس الوضوء والاغتسال من الجنابة ، ونحو ذلك مما يؤتمن عليه العبد فإن الإنسان يمكنه أن لا ينوي الصوم وأن يأكل سراً ، كما يمكنه أن يكتم حدثه وجنابته ، وهو يذاكر فى الأعمال الظاهرة التى يقاتل الناس عليها ويصيرون مسلمين بفعلها . فلهذا علق ذلك بالصلاة والزكاة دون الصوم ، وإن كان واجباً كما في آيتي براءة نزلت بعد فرض الصيام باتفاق الناس . وكذلك لما بعث معاذاً إلى اليمن لم يذكر فى حديث الصوم ، لأنه تبع وهو باطن ، ولا ذكر الحج لأن وجوبه خاص ليس بعام ، و لا يجب فى العمر إلا مرة . انتهى بمعناه .
قوله (أخرجاه) أي البخارى ومسلم ، وأخرجه أيضاً أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة .