الذين يبتغون إلى ربهم الوسيلة وقوله تعالى : - أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة - يبين أن هذا سبيل الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم من المؤمنين . قال قتادة : تقربوا إليه بطاعته والعمل فيما يرضيه وقرأ ابن زيد : - أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب - قال العماد ابن كثير : وهذا لا خلاف فيه بين المفسرين . وذكره عن عدة من أئمة التفسير .
 

قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى : في هذه الآية ذكر المقامات الثلاث : الحب ، وهو ابتغاء التقرب إليه . والتوسل إليه بالأعمال الصالحة . والرجاء والخوف . وهذا هو حقيقة التوحيد وحقيقة دين الإسلام كما في المسند عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال للنبى صلى الله عليه وسلم - والله يا رسول الله ما أتيتك إلا بعد ما حلقت عدد أصابعي هذه : أن لا آتيك . فبالذي بعثك بالحق ، ما بعثك به ؟ قال : الإسلام . قال : وما الإسلام ؟ قال : أن تسلم قلبك وأن توجه وجهك إلى الله ، وأن تصلي الصلوات المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة - وأخرج محمد بن نصر المروزى من حديث خالد بن معدان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق . من ذلك أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - وهذا معنى قوله تعالى : # 31 : 22 # - ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور - .
وقوله تعالى : # 43 : 26 - 28 # - وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية في عقبه - أي لا إله إلا الله .
فتدبر كيف عبر الخليل عليه السلام عن هذه الكلمة العظيمة بمعناها الذي دلت عليه . ووضعت له من البراءة من كل ما يعبد من دون الله من المعبودات الموجودة في الخارج : كالكواكب والهياكل والأصنام التى صورها قوم نوح على صور الصالحين : ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، وغيرها من الأوثان والأنداد التى كان يعبدها المشركون بأعيانها . ولم يستثن من جميع المعبودات إلا الذي فطره ، وهو الله وحده لا شريك له ، فهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص . كما قال تعالى : # 22 : 62 # - ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل - فكل عبادة يقصد بها غير الله : من دعاء وغيره فهي باطلة ، وهي الشرك الذي لا يغفره الله ، قال تعالى : # 40 : 73،74 # - ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون * من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين - .
وقوله تعالى : # 9 : 31 # - اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم - .
وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية على عدي بن حاتم الطائي فقال : - يارسول الله ، لسنا نعبدهم. قال : أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه ، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه ؟ قال : بلى . قال النبي صلى الله عليه وسلم : فتلك عبادتهم - .
فصارت طاعتهم في المعصية عبادة لغير الله وبها اتخذوهم أرباباً ، كما هو الواقع في هذه الأمة ، وهذا من الشرك الأكبر المنافي للتوحيد الذي هو مدلول شهادة لا إله إلا الله .
فتبين بهذه الآية أن كلمة الإخلاص نفت هذا كله لمنافاته لمدلول هذه الكلمة . فأثبتوا ما نفته من الشرك وتركوا ما أثبتته من التوحيد .
وقوله تعالى : # 2 : 165 # - ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله - فكل من اتخذ نداً لله يدعوه من دون الله ويرغب إليه ويرجوه لما يؤمله منه من قضاء حاجاته وتفريج كرباته - كحال عباد القبور والطواغيت والأصنام - فلا بد أن يعظموهم ويحبوهم لذلك ، فإنهم أحبوهم مع الله وإن كانوا يحبون الله تعالى .
ويقولون لا إله إلا الله ويصلون ويصومون ، فقد أشركوا بالله فى المحبة بمحبة غيره وعبادة غيره فاتخاذهم الأنداد يحبونهم كحب الله يبطل كل قول يقولونه وكل عمل يعملونه . لأن المشرك لا يقبل منه عمل ، ولا يصح منه . وهؤلاء وإن قالوا لا إله إلا الله فقد تركوا كل قيد قيدت به هذه الكلمة العظيمة : من العلم بمدلولها . لأن المشرك جاهل بمعناها ، ومن جهله بمعناها جعل الله شريكاً في المحبة وغيرها ، وهذا هو الجهل المنافي للعلم بما دلت عليه من الإخلاص : ولم يكن صادقاً في قولها : لأنه لم ينف ما نفته من الشرك ، ولم يثبت ما أثبتته من الإخلاص وترك اليقين أيضاً ، لأنه لو عرف معناها وما دلت عليه لأنكره أو شك فيه ، ولم يقبله وهو الحق ، ولم يكفر بما يعبد من دون الله ، كما في الحديث ، بل آمن بما يعبد من دون الله باتخاذه الند ومحبته له وعبادته إياه من دون الله كما قال تعالى - والذين آمنوا أشد حباً لله - لأنهم اخلصوا له الحب فلم يحبوا إلا إياه، ويحبون من أحب ويخلصون أعمالهم جميعاً لله ، ويكفرون بما عبد من دون الله . فبهذا يتبين لمن وفقه الله تعالى لمعرفة الحق وقبوله دلالة هذه الآيات العظيمة على معنى شهادة أن لا إله إلا الله ، وعلى التوحيد الذي هو معناها الذي دعا إليه جميع المرسلين . فتدبر .
قال : وقوله تعالى # 17 : 57 # - أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب - الآية، يتبين معنى هذه الآية بذكر ما قبلها ، وهو قوله تعالى - قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً - .
قال ابن كثير رحمه الله : يقول تعالى (قل) يا محمد للمشركين الذين عبدوا غير الله - ادعوا الذين زعمتم من دونه - من الأصنام والأنداد وارغبوا إليهم ، فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم أي بالكلية (ولا تحويلا) أي ولا يحولوه إلى غيركم .
والمعنى : أن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لا شريك له ، الذي له الخلق والأمر . قال العوفي عن ابن عباس فى الآية : كان أهل الشرك يقولون : نعبد الملائكة والمسيح وعزيراً ، وهم الذين يدعون . يعنى الملائكة والمسيح وعزيراً .
وروى البخاري فى الآية عن ابن مسعود رضى الله عنه قال : - ناس من الجن كانوا يعبدون فأسلموا - وفى رواية : - كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم - .
وقول ابن مسعود هذا يدل على أن الوسيلة هى الإسلام ، وهو كذلك على كلا القولين .
وقال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس فى الآية قال : عيسى وأمه وعزير وقال مغيرة عن إبراهيم : كان ابن عباس يقول فى هذه الآية : هم عيسى وعزير والشمس والقمر وقال مجاهد : عيسى وعزير والملائكة .
وقوله : - يرجون رحمته ويخافون عذابه - لا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء ، فكل داع دعا دعاء عبادة أو استغاثة لا بد له من ذلك ، فإما أن يكون خائفاً وإما أن يكون راجياً ، وإما أن يجتمع فيه الوصفان .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ، في هذه الآية الكريمة ، لما ذكر أقوال المفسرين : وهذه الأقوال كلها حق ، فإن الآية تعم من كان معبوده عابداً لله ، سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر ، والسلف في تفسيرهم يذكرون تفسير جنس المراد بالآية على نوع التمثيل ، كما يقول الترجمان لمن سأله : ما معنى الخبز ؟ فيريه رغيفاً ، فيقول هذا ، فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه ، وليس مرادهم من هذا تخصيص نوع من شمول الآية ، فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعواً ، وذلك المدعو يبتغي الى الله الوسيلة ويرجو رحمته ويخاف عذابه ، فكل من دعا ميتاً أو غائباً من الأولياء والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها فقد تناولته هذه الآية الكريمة ، كما تتناول من دعا الملائكة والجن ، فقد نهى الله تعالى من دعائهم ، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله ، ولا يرفعونه بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع ، كتغيير صفته أو قدره ، ولهذا قال : (ولا تحويلا) فذكر نكرة تعم أنواع التحويل ، فكل من دعا ميتاً أو غائباً من الأولياء والصالحين أو دعا الملائكة فقد دعا من لا يغيثه ولا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله اهـ .
وفى هذه الآية رد على من يدعو صالحاً ويقول : أنا لا أشرك بالله شيئاً ، الشرك عبادة الأصنام .