معنى واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً
 

قال : (وقوله تعالى - اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله - . . . الآية) .
الأحبار : هم العلماء والرهبان هم العباد . وهذه الاية قد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم ، وذلك أنه لما جاء مسلماً دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه هذه الآية . قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم . فقال : بلى : إنهم حرموا عليهم الحلال وحللوا لهم الحرام فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم رواه أحمد والترمذي وحسنه ، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني من طرق .
قال السدي : استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم . ولهذا قال تعالى : - وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون - فإن الحلال ما أحله الله ، والحرام ما حرمه الله ، والدين ما شرعه الله .
فظهر بهذا أن الآية دلت على أن من أطاع غير الله ورسوله ، وأعرض عن الأخذ بالكتاب والسنة فى تحليل ما حرم الله ، أو تحريم ما أحله الله ، وأطاعه فى معصية الله ، واتبعه فيما لم يأذن به الله ، فقد اتخذه رباً ومعبوداً وجعله لله شريكاً ، وذلك ينافي
التوحيد الذي هو دين الله الذي دلت عليه كلمة الإخلاص (لا إله إلا الله) فإن الإله هو المعبود ، وقد سمى الله تعالى طاعتهم عبادة لهم ، وسماهم أرباباً كما قال تعالى # 3 : 80 # - ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً - أي شركاء لله تعالى في العبادة - أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون - وهذا هو الشرك . فكل معبود رب ، وكل مطاع ومتبع على غير ما شرعه الله ورسوله فقد اتخذا المطيع المتبع رباً ومعبوداً ، كما قال تعالى في آية الأنعام : # 6 : 121 # - وإن أطعتموهم إنكم لمشركون - وهذا هو وجه مطابقة الآية للترجمة ، ويشبه هذه الآية في المعنى قوله تعالى # 42 : 21 # - أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله - والله أعلم .
قال شيخ الإسلام في معنىقوله - اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله - وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين : أحدهما : أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على هذا التبديل ، فيعتقدون تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله ، اتباعاً لرؤسائهم ، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل . فهذا كفر ، وقد جعله الله ورسوله شركاً ، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم . فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف للدين ، واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله ، مشركاً مثل هؤلاء .
الثاني : أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتاً ، لكنهم أطاعوهم في معصية الله ، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص ، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب ، كما قد ثبت - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنما الطاعة في المعروف - .
ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام إن كان مجتهداً قصده اتباع الرسل لكن خفى عليه الحق في نفس الأمر وقد اتقى الله ما استطاع ، فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه . ولكن من علم أن هذا أخطأ فيما جاء به الرسول ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول . فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله ، لا سيما إن اتبع ذلك هواه ونصره باليد واللسان مع علمه أنه مخالف للرسول . فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه ، ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه ، وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على الاستدلال . وإن كان عاجز عن إظهار الحق الذي يعلمه . فهذا يكون كمن عرف أن الدين الإسلام حق وهو بين النصارى ، فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق لا يؤاخذ بما عجز عنه ، وهؤلاء كالنجاشي وغيره . وقد أنزل الله في هؤلاء الآيات من كتابه كقوله تعالى : # 3 : 199 # - وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم - وقوله : # 5 : 83 # - وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق - الآية وقوله # 7 : 159 # - ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون - . وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزاً عن معرفة الحق على التفضيل وقد فعل ما يقدر عليه مثله : من الاجتهاد في التقليد فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة . وأما من قلد شخصاً دون نظيره بمجرد هواه ، ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق ، فهذا من أهل الجاهلية ، وإن كان متبوعه مصيباً لم يكن عمله صالحاً ، وإن كان متبوعه مخطئاً كان آثماً . كمن قال فى القرآن برأيه ، فإن أصاب فقد أخطأ ، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار ، وهؤلاء من جنس مانع الزكاة الذي تقدم فيه الوعيد ، ومن جنس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة ، فإن ذلك لما أحب المال منعه من عبادة الله وطاعته وصار عبداً له، وكذلك هؤلاء فيكون فيهم شرك أصغر ، ولهم من الوعيد بحسب ذلك ، وفي الحديث : - إن يسير الرياء شرك - وهذا مبسوط عند النصوص التى فيها إطلاق الكفر والشرك على كثير الذنوب . انتهى.