باب الشفاعة
 

قوله : ( باب الشفاعة )
أي بيان ما أثبته القرآن منها وما نفاه . وحقيقة ما دل القرآن على إثباته .
قوله : وقول الله عز وجل : # 6 : 51 # - وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا - المخافة والتحذير منها .
قوله : به قال ابن عباس بالقرآن - الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم - وهم المؤمنون وعن الفضيل بن عياض ليس كل خلقه عاتب ، إنما عاتب الذين يعقلون ، فقال : - وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم - وهم المؤمنون أصحاب العقول الواعية .
قوله : - ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع - قال الزجاج : موضع ليس نصب على الحال ، كأنه قال : متخلين من كل ولي وشفيع . والعامل فيه يخافون .
قوله : لعلهم يتقون أي فيعملون في هذه الدار عملاً ينجيهم الله به من عذاب يوم القيامة .
وقوله : # 39 : 44 # - قل لله الشفاعة جميعاً - وقبلها - أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون - وهذه كقوله تعالى : # 10 : 18 # - ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون - فبين تعالى في هذه الآيات وأمثالها أن وقوع الشفاعة على هذا الوجه منتف وممتنع ، وأن اتخاذهم شفعاء شرك ، يتنزه الرب تعالى عنه . وقد قال تعالى : # 46 : 28 # - فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون - فبين تعالى أن دعواهم أنهم يشفعون لهم بتأليههم . إن ذلك منهم إفك وافتراء .
وقوله تعالى : - قل لله الشفاعة جميعاً - أي هو مالكها ، فليس لمن تطلب منه شئ منها ، وإنما تطلب ممن يملكها دون كل من سواه ، لأن ذلك عبادة وتأليه لا يصلح إلى لله .
قال البيضاوي : لعله رد لما عسى أن يجيبوا به ، وهو أن الشفعاء أشخاص مقربون .
وقوله تعالى : - له ملك السموات والأرض - تقرير لبطلان اتخاذ الشفعاء من دونه ، لأنه مالك الملك، فاندرج في ذلك ملك الشفاعة، فإذا كان هو مالكها بطل أن تطلب ممن لا يملكها # 2 : 255 # - من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه - # 21 : 28 # - ولا يشفعون إلا لمن ارتضى - .

قال # ابن جرير # : نزلت لما قال الكفار : ما نعبد أوثاننا هذه إلى ليقربونا إلى الله زلفى قال الله تعالى : - له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون - .
قال : وقوله # 2 : 255 # - من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه - قد تبين مما تقدم من الآيات أن الشفاعة التي نفاها القرآن هي التي تطلب من غير الله . وفي هذه الآية بيان أن الشفاعة إنما تقع في الدار الآخرة بإذنه ، كما قال تعالى : # 20 : 109 # - يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا - فبين أنه لا تقع لأحد إلا بشرطين : إذن الرب تعالى للشافع أن يشفع ، ورضاه عن المأذون بالشفاعة فيه ، وهو تعالى لا يرضى من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة إلا ما أريد به وجهه ، ولقى العبد به ربه مخلصاً غير شاك في ذلك ، كما دل على ذلك الحديث الصحيح . وسيأتي ذلك مقرراً أيضاً في كلام شيخ الإسلام رحمه الله .
وقوله : # 53 : 26 # - وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى - قال ابن كثير رحمه الله - وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى - كقوله - من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه - - ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له - فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين ، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأنداد عند الله ، وهو لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها ، بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله ، وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه ؟
قال : ( وقوله تعالى : # 34 : 22 ، 23 # - قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له - .

قول ابن القيم رحمه الله في الشفاعة
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على هذه الآيات : وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها . فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له من النفع ، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريد عابده منه، فإن لم يكن مالكاً كان شريكاً للمالك ، فإن لم يكن شريكاً له كان معيناً له وظهيراً ، فإن لم يكن معنياً ولا ظهيراً كان شفيعاً عنده . فنفى الله سبحانه المراتب الأربع نفياً مرتباً ، متنقلاً من الأعلى إلى الأدنى ، فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك ، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك ، وهي الشفاعة بإذنه . فكفى بهذه الآية نوراً وبرهاناً وتجريداً للتوحيد ، وقطعاً لأصول الشرك ومواده لمن عقلها . والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها ، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له ، ويظنونها في نوع وقوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثاً ، فهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن . ولعمر الله ، إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم ، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك .
ثم قال : ومن أنواعه ـ أي الشرك ـ طلب الحوائج من الموتى والإستغاثة بهم ، وهذا أصل شرك العالم . فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ، فضلاً عمن استغاث به وسأله أن يشفع له إلى الله . وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده . فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه ، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سبباً لإذنه ، فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه ، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سبباً لإذنه ، وإنما السبب كمال التوحيد ، فجاء هذا الشرك بسبب يمنع الإذن ، وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها . وهذه حالة كل مشرك ، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ، ومعاداة أهل التوحيد ، ونسبة أهله إلى التنقص بالأموات ، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك ، وأولياءه الموحدين بذمهم وعيبهم ومعاداتهم ، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص ، إذا ظنوا أنهم راضون منهم بهذا ، وأنهم أمروهم به ، وأنهم يوالونهم عليه ، وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان ، وما أكثر المستجيبين لهم ، وما نجى من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله ، وعادى المشركين في الله ، وتقرب بمقتهم إلى الله ، واتخذ الله وحده وليه وإلهه ومعبوده . فجرد حبه لله وخوفه لله ، ورجاءه لله ، وذله لله ، وتوكله على الله ، واستعانته بالله ، والتجاءه إلى الله ، واستغاثته بالله ، وقصده لله ، متبعاً لأمره متطلباً لمرضاته ، إذا سأل سأل الله ، وإذا استعان استعان بالله ، وإذا عمل عمل لله . فهو لله وبالله ومع الله . انتهى كلامه رحمه الله تعالى .
وهذا الذي ذكره هذا الإمام في معنى الآية هو حقيقة دين الإسلام ، كما قال تعالى : # 4 : 125 # - ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً واتخذ الله إبراهيم خليلاً - .
قوله : قال أبو العباس هذه كنية شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني إمام المسلمين رحمه الله .
نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون ، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه ، أو يكون عوناً لله . فلم يبق إلى الشفاعة . فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب ، كما قال تعالى : # 21 : 28 # - ولا يشفعون إلا لمن ارتضى - فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده ، لا يبدأ بالشفاعة أولاً . ثم يقال له : ارفع رأسك وقل يسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع . وقال له أبو هريرة - من أسعد الناس بشفاعتك ؟ قال : من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه - فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله ، ولا تكون لمن أشرك بالله ، وحقيقتها : أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص ، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود . فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك ، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص انتهى .