باب إنك لا تهدي من أحببت
 

قوله : باب
قول الله تعالى : # 28 : 56 # - إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين - .
سبب نزول هذه الآية ، موت أبي طالب على ملة عبد المطلب ، كما سيأتي بيان ذلك في حديث الباب .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى : يقول تعالى لرسوله : إنك يا محمد لا تهدي من أحببت ، أي ليس إليك ذلك ، إنما عليك البلاغ والله يهدي من يشاء . وله الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة ، كما قال تعالى : # 2 : 272 # - ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء - وقال تعالى : # 12 : 103 # - وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين - .
قلت : والمنفى هنا هداية التوفيق والقبول ، فإن أمر ذلك إلى الله ، وهو القادر عليه . وأما الهداية المذكورة في قول الله تعالى: # 42 : 52 # - وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم - فإنها هداية الدلالة والبيان ، فهو المبين عن الله والدال على دينه وشرعه .

حديث ابن المسيب في وفاة أبي طالب
وقوله : في الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه قال : - لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل ، فقال له : يا عم قل لا إله إلى الله ، كلمة أحاج بها عند الله . فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فأعاد . فكان أخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب . وأبي أن يقول لا إله إلى الله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأستغفرن لك مالم أنه عنك - . فأنزل الله عز وجل # 9 : 113 # - ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم - وأنزل الله في أبي طالب : - إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء - .
قوله : في الصحيح أي في الصحيحين . وابن المسيب هو سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمر بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي ، أحد العلماء والفقهاء الكبار السبعة من التابعين. اتفق أهل الحديث على أن مراسيله أصح المراسيل. وقال ابن المديني : لا أعلم في التابعين أوسع علماً منه . مات بعد التسعين وقد ناهز الثمانين .
وأبو المسيب صحابي ، بقى إلى خلافة عثمان رضي الله عنه ، وكذلك جده حزن ، صحابي استشهد باليمامة .
قوله : لما حضرت أبا طالب الوفاة أي علاماتها ومقدماتها .
قوله : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون المسيب حضر مع الإثنين فإنهما من بني مخزوم ، وهو أيضاً مخزومي ، وكان الثلاثة إذ ذاك كفاراً ، فقتل أبو جهل على كفره وأسلم الآخران .
قوله : يا عم منادي مضاف يجوز فيه إثبات الياء وحذفها ، حذفت الياء هنا ، وبقيت الكسرة دليلاً عليها .
قوله : قل لا إله إلا الله أمره أن يقولها لعلم أبي طالب بما دلت عليه من نفى الشرك بالله وإخلاص العبادة له وحده ، فإن من قالها عن علم ويقين فقد برىء من الشرك والمشركين ودخل في الإسلام . لأنهم يعلمون ما دلت عليه ، وفي ذلك الوقت لم يكن بمكة إلا مسلم أو كافر . فلا يقولها إلا من ترك الشرك وبرىء منه . ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة كان فيها المسلمون الموحدون والمنافقون الذين يقولونها بألسنتهم وهم يعرفون معناها ، لكن لا يعتقدونها ، لما في قلوبهم من العداوة والشك والريب ، فهم مع المسلمين بظاهر الأعمال دون الباطن ، وفيها اليهود ، وقد أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر ، ووادعهم بأن لا يظاهروا عليه عدواً كما هو مذكور في كتب الحديث والسير .
قوله : كلمة قال القرطبي : بالنصب على أنه بدل من لا إله إلى الله ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف .
قوله : أحاج لك بها عند الله هو بتشديد الجيم من المحاجة ، والمراد بها بيان الحجة بها لو قالها في تلك الحال . وفيه دليل على أن الأعمال بالخواتيم ، لأنه لو قالها في تلك الحال معتقداً ما دلت عليه مطابقة من النفي والإثبات لنفعته .
قوله : فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب ذكراه الحجة الملعونة التي يحتج بها المشركون على المرسلين ، كقول فرعون لموسى : # 20 : 51 # - فما بال القرون الأولى - وكقوله تعالى : # 43 : 23 # - وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون - .
قوله : فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا فيه معرفتهما لمعنى لا إله إلا الله لأنهما عرفا أن أبا طالب لو قالها لبرىء من ملة عبد المطلب . فإن ملة عبد المطلب هي الشرك بالله في إلهيته . وأما الربوبية فقد أقروا بها كما تقدم . وقد قال عبد المطلب لأبرهة : أنا رب الإبل ، والبيت له رب يمنعه منك وهذه المقالة منهما عند قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمه : قل لا إله إلى الله استكباراً عن العمل بمدلولها . كما قال الله تعالى عنهما وعن أمثالهما من أولئك المشركين : # 37 : 35 ، 36 # - إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون * ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون - فرد عليهم بقوله : # 37 : 37 # - بل جاء بالحق وصدق المرسلين - فبين تعالى أن استكبارهم عن قوله لا إله إلا الله لدلالتها على نفي عبادتهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله . فإن دلالة هذه الكلمة على نفي ذلك دلالة تضمن ، ودلالتها عليه وعلى الإخلاص دلالة مطابقة .
ومن حكمة الرب تعالى في عدم هداية أبي طالب إلى الإسلام ليبين لعباده أن ذلك إليه ، وهو القادر عليه دون من سواه ، فلو كان عند النبي صلى الله عليه وسلم ـ الذي هو أفضل خلقه ـ من هداية القلوب وتفريج الكروب ، ومغفرة الذنوب ، والنجاة من العذاب ، ونحو ذلك شئ ، لكان أحق الناس بذلك وأولاهم به عمه الذي كان يحوطه ويحميه وينصره ويؤويه ، فسبحان من بهرت حكمته العقول ، وأرشد العباد إلى ما يدلهم على معرفته وتوحيده ، وإخلاص العمل له وتجريده .
قوله : فكان آخر ما قال الأحسن فيه الرفع على أنه اسم كان وجملة هو وما بعدها الخبر .
قوله : هو على ملة عبد المطلب الظاهر أن أبا طالب قال : أنا فغيره الراوى استقباحاً للفظ المذكور ، وهو من التصرفات الحسنة ، قاله الحافظ .
قوله : وأبى أن يقول لا إله إلا الله قال الحافظ : هذا تأكيد من الراوى في نفي وقوع ذلك من أبي طالب .
قال المصنف رحمه الله : وفيه الرد على من زعم إسلام عبد الطلب وأسلافه ومضرة أصحاب السوء على الإنسان ، ومضرة تعظيم الأسلاف .
أي إذا زاد على المشروع ، بحيث تجعل أقوالهم حجة يرجع إليها عند التنازع .
قوله : فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عنك قال النووي : وفيه جواز الحلف من غير استحلاف . وكان الحلف هنا لتأكيد العزم على الاستغفار تطييباً لنفس أبي طالب .
وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة بقليل .
قال ابن فارس : مات أبو طالب ولرسول الله صلى الله عليه وسلم تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوماً .
وتوفيت خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها بعد موت أبي طالب بثمانية أيام .
قوله : - ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى - الآية أي ما ينبغي لهم ذلك . وهو خبر بمعنى النهي ، والظاهر أن هذه الآية نزلت في أبي طالب . فإن الإتيان بالفاء المفيدة للترتيب في قوله : فأنزل الله بعد قوله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك يفيد ذلك .
وقد ذكر العلماء لنزول الآية الثانية فواضح في قصة أبي طالب . وأما نزول الآية التي قبلها ففيه نظر ، ويظهر أن المراد أن الآية المتعلقة بالإستغفار نزلت بعد أبي طالب بمدة ، وهي عامة في حقه وحق غيره ، ويوضح ذلك ما يأتي في التفسير ، فأنزل الله بعد ذلك : - ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين - الآية . ونزل في أبي طالب : - إنك لا تهدي من أحببت - كله ظاهر في أنه مات على غير الإسلام . ويضعف ما ذكره السهيلي أنه روى في بعض كتب # المسعودى # أنه أسلم ، لأن مثل ذلك لا يعارض ما في الصحيح . انتهى .
وفيه تحريم الإستغفار للمشركين وموالاتهم ومحبتهم ، لأنه إذا حرم الاستغفار لهم فموالتهم ومحبتهم أولى .