باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم إلخ
 

قوله : باب
( ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينم هو الغلو في الصالحين )
قوله : تركهم بالجر عطفاً على المضاف إليه . وأراد المصنف رحمه الله تعالى بيان ما يؤول إله الغلو في الصالحين من الشرك بالله في الإلهية الذي هو أعظم ذنب عصى الله به ، وهو ينافي التوحيد الذي دلت عليه كلمة الإخلاص : شهادة أن لا إله إلى الله .
قوله وقول الله عز وجل # 4 : 171 # - يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه - الغلو هو الإفراط في التعظيم بالقول والاعتقاد ، أي لا ترفعوا المخلوق عن منزلته التي أنزله الله فتنزلوه المنزلة التي لا تنبغي إلا لله . والخطاب ـ وإن كان لأهل الكتاب ـ فإنه عام يتناول جميع الأمة ، تحذيراً لهم أن يفعلوا بنبيهم صلى الله عليه وسلم فعل النصارى في عيسى ، واليهود في العزير كما قال تعالى : # 57 : 16 # - ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون - ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم - لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم - ويأتي .
فكل من دعا نبياً أو ولياً من دون الله فقد اتخذ إلهاً ، وضاهأ النصارى في شركهم ، وضاهأ اليهود في تفريطهم . فإن النصارى غلوا في عيسى عليه السلام ، واليهود عادوه وسبوه وتنقصوه . فالنصارى أفرطوا ، واليهود فرطوا . وقال تعالى : # 5 : 57 # - ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام - ففي هذه الآية وأمثالها الرد على اليهود والنصارى .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : ومن تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى ، وغلا في الدين فإفراط فيه أو تفريط فقد شابههم. قال: وعلى رضى الله عنه حرق الغالية من الرافضة ، فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة فقذفهم فيها . واتفق الصحابة على قتلهم. لكن ابن عباس مذهبه أن يقتلوا بالسفق من غير تحريق . وهو قول أكثر العلماء .

معنى - وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا - إلخ
قوله في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى # 71 : 23 # - وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا - قال : هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم : أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم ، ففعلوا ، ولم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك ونسى العلم عبدت قوله وفي الصحيح أي صحيح البخاري .
وهذا الأثر اختصره المصنف . ولفظ ما في البخاري : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال صارت الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعد . أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل . وأما سواع فكانت لهذيل . وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبنى غطيف بالجرف عند سبأ . وأما يعوق فكانت لهمدان . وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع : أسماء رجال صالحين في قوم نوح ... إلى آخره .
وروى عكرمة والضحاك وابن إسحاق نحو هذا .
قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد قال حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد ابن قيس أن يغوث ويعوق ونسراً كانوا قوماً صالحين من بني آدم ، وكان لهم أتباع يقتدون بهم . فلما ماتوا قال أصحابهم : لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة ، فصوروهم ، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال : إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر . فعبدوهم .
قوله : أن انصبوا هو بكسر الصاد المهملة .
قوله : أنصاباً جمع نصب ، والمراد به هنا الأصنام المصورة على صور أولئك الصالحين التي نصبوها في مجالسهم ، وسموها بأسمائهم . وفي سياق حديث ابن عباس ما يدل على أن الأصنام تسمى أوثاناً . فاسم الوثن يتناول كل معبود من دون الله ، سواء كان ذلك المعبود قبراً أو مشهداً ، أو صورة أو غير ذلك .
قوله : حتى إذا هلك أولئك أي الذين صوروا تلك الأصنام .
قوله : ونسى العلم ورواية البخاري وينسخ وللكشميهني ونسخ العلم أي درست آثاره بذهاب العلماء ، وعم الجهل حتى صاروا لا يميزون بين التوحيد والشرك فوقعوا في الشرك ظناً منهم أنه ينفعهم عند الله .
قوله : عبدت لما قال لهم إبليس : إن من كان قبلكم كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر ، هو الذي زين لهم عبادة الأصنام وأمرهم بها ، فصار هو معبودهم في الحقيقة . كما قال تعالى : # 36 : 60 ـ 62 # - ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم * ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون - وهذا يفيد الحذر من الغلو ووسائل الشرك ، وإن كان القصد بها حسناً . فإن الشيطان أدخل أولئك في الشرك من باب الغلو في الصالحين والإفراط في محبتهم ، كما قد وقع مثل ذلك في هذه الأمة : أظهر لهم الغلو والبدع في قالب تعظيم الصالحين ومحبتهم ، ليوقعهم فيما هو أعظم من ذلك ، من عبادتهم لهم من دون الله وفي رواية أنهم قالوا : ما عظم أولنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله أي يرجون شفاعة أولئك الUالحين الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم وسموها بأسمائهم . ومن هنا يعلم أن اتخاذ الشفعاء ورجاء شفائهم بطلبها منهم : شرك بالله ، كما تقدم بيانه في الآيات المحكمات .

قال ابن القيم لما ماتوا عكفوا على قبورهم
قوله : وقال ابن القيم رحمه الله : قال غير واحد من السلف : لما ماتوا عكفوا على قبورهم ، ثم صوروا تماثيلهم ، ثم طال عليهم الأمد فعبدوا .
قوله : وقال ابن القيم رحمه الله هو الإمام العلامة محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المعروف بابن قيم الجوزية . قال الحافظ السخاوي : العلامة الحجة المتقدم في سعة العلم ومعرفة الخلاف وقوة الجنان ، المجمع عليه بين الموافق والمخالف ، صاحب التصانيف السائرة والمحاسن الجمة . مات سنة إحدى وخمسين وسبعمائة .
قوله : وقال غير واحد من السلف هو بمعنى ما ذكره البخاري وابن جرير إلا أنه ذكر عكوفهم على قبورهم قبل تصويرهم تماثيلهم . وذلك من وسائل الشرك بل هو الشرك ، لأن العكوف لله في المساجد عبادة . فإذا عكفوا على القبور صار عكوفهم تعظيماً ومحبة : عبادة لها .
قوله : ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم أي طال عليهم الزمان . وسبب تلك العبادة والموصل إليها هو ما جرى من الأولين من التعظيم بالعكوف على قبورهم ، ونصب صورهم في مجالسهم ، فصارت بذلك أوثاناً تعبد من دون الله ، كما ترجم به المصنف رحمه الله تعالى . فإنهم تركوا بذلك دين الإسلام الذي كان أولئك عليه قبل حدوث وسائل هذا الشرك ، وكفروا بعبادة تلك الصور واتخذوهم شفعاء . وهذا أول شرك حدث في الأرض .
قال القرطبي : وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بهم ويتذكروا أفعالهم الصالحة ، فيجتهدوا كاجتهادهم ، ويعبدوا الله عند قبورهم . ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم ، فوسوس لهم الشيطان أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها ا هـ .
قال ابن القيم رحمه الله : وما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور ويلقى إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين ، وأن الدعاء عندها مستجاب ، ثم ينقلها من هذه المرتبة إلى الدعاء بها ، والإقسام على الله بها ، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه .
فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعائه وعبادته ، وسؤاله الشفاعة من دون الله ، واتخاذ قبره وثناً تعلق عليه القانديل والستور، ويطاف به ويستلم ويقبل ، ويحج إليه ويذبح عنده ، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته ، واتخاذه عيداً ومنسكاً ، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم . وكل هذا مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من تجديد التوحيد ، وأن لا يعبد إلا الله .
فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل هذه الرتب العالية وحطهم عن منزلتهم ، وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر ، فغضب المشركون واشمأزت قلوبهم ، كما قال تعالى : # 39 : 45 # - وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون - وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام ، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين ، حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظائم ونفروا الناس عنهم ، ووالوا أهل الشرك وعظموهم ، وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله، ويأبي الله ذلك # 8 : 34 # - وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون - . اهـ كلام ابن القيم رحمه الله .
وفي القصة فوائد ذكرها المصنف رحمه الله .
ومنها : رد الشبه التي يسميها أهل الكلام عقليات ، ويدفعون بها ما جاء به الكتاب والسنة من توحيد الصفات ، وإثباتها على ما يليق بجلال الله وعظمته وكبريائه .
ومنها : مضرة التقليد .
ومنها : ضرورة الأمة إلى ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم علماً وعملاً بما يدل عليه الكتاب والسنة فإن ضرورة العبد إلى ذلك فوق كل ضرورة .
قوله : وعن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم . إنما أعبد عبد ، فقولوا عبد الله ورسوله - أخرجاه .
قوله عن عمر هو ابن الخطاب بن نفيل ـ بنون وفاء مصغراً ـ العدوى أمير المؤمنين وأفضل الصحابة بعد الصديق رضي الله عنهم . ولي الخلافة عشر سنين ونصفا . فامتلأت الدنيا عدلاً ، وفتحت في أيامه ممالك كسرى وقيصر . واستهشد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين رضي الله عنه .

لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى
قوله : لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم الإطراء مجاوزة الحد في المدح والكذب عليه . قاله أبو السعادات . وقال غيره : أي لا تمدحوني بالباطل ، ولا تجاوزوا الحد في مدحي .
قوله : إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله أي لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام فادعوا فيه الإلهية . وإنما أنا عبد الله ورسوله ، فصفوني بذلك كما وصفني ربي ، فقولوا عبد الله ورسوله ، فأبى المشركون إلا مخالفة أمره وارتكاب نهيه ، وعظموه بما نهاهم عنه وحذرهم منه ، وناقضوه أعظم مناقضة ، وضاهوا النصارى في غلوهم وشركهم ، ووقعوا في المحذور ، وجرى منهم من الغلو والشرك شعراً ونثراً ما يطول عده ، وصنفوا فيه مصنفات .
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عن بعض أهل زمانه أنه جوز الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث فيه بالله ، وصنف في ذلك مصنفاً رده شيخ الإسلام ، ورده موجود بحمد الله . ويقول : إنه يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلهما إلا الله . وذكر لهم أشياء من هذا النمط . نعوذ بالله من عمى البصيرة وقد اشتهر في نظم البوصيري قوله :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم
وما بعده من الأبيات التي مضمونها إخلاص الدعاء واللياذ والرجاء والاعتماد في أضيق الحالات ، وأعظم الاضطرار لغير الله ، فناقضوا الرسول صلى الله عليه وسلم بارتكاب ما نهى عنه أعظم مناقضة ، وشاقوا الله وروسوله أعظم مشاقة ، وذلك أن الشيطان أظهر لهم هذا الشرك العظيم في قالب محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه ، وأظهر لهم التوحيد والإخلاص الذي بعثه الله به في قالب تنقيصه ، وهؤلاء المشركون هم المتنقصون الناقصون ، أفرطوا في تعظيمه بها نهاهم عنه أشد النهي ، وفرطوا في متابعته ، فلم يعبأوا بأقواله وأفعاله ، ولا رضوا بحكمه ولا سلموا له . وإنما يحصل تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بتعظيم أمره ونهيه ، والاهتداء بهديه ، واتباع سنته ، والدعوة إلى دينه الذي دعا إليه ونصرته ، وموالاة من عمل به ، ومعاداة من خالفه . فعكس أولئك المشركون ما أراد الله ورسوله علماً وعملاً ، وارتكبوا ما نهى عنه ورسوله . فالله المستعان .