لعن الله زوارات القبور إلخ
 

قوله : وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج " رواه أهل السنن .
قلت : وفي الباب حديث عن أبي هريرة وحديث حسان بن ثابت . فأما حديث أبي هريرة فرواه أحمد والترمذي وصححه . وحديث حسان أخرجه ابن ماجه من رواية عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أبيه قال : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور " .
وحديث ابن عباس هذا في إسناده أبو صالح مولى أم هانيء ، وقد ضعفه بعضهم ووثقة بعضهم . قال على بن المديني ، عن يحيى القطان : لم أر أحداً من أصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هاني . وما سمعت أحداً من الناس يقول فيه شيئاً ، ولم يتركه شعبة ولا زائدة ولا عبد الله بن عثمان . قال ابن معين : ليس به بأس ولهذا أخرجه ابن السكن في صحيحه . انتهى من الذهب الإبريز عن الحافظ المزي .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريقين : فعن أبي هريرة رضي الله عنه : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور " وذكر حديث ابن عباس . ثم قال : ورجال هذا ليس رجال هذا . فلم يأخذه أحدهما عن الآخر . وليس في الإسنادين من يتهم بالكذب . ومثل هذا حجة بلا ريب . وهذا من أجود الحسن الذي شرطه الترمذي ، فإنه جعل الحسن ما تعددت طرقه ولم يكن فيه متهم ، ولم يكن شاذاً ، أي مخالفاً لما ثبت بنقل الثقات وهذا الحديث تعددت طرقه وليس فيها متهم ولا خالفه أحد من الثقات ، هذا لو كان عن صاحب واحد ، فكيف إذا كان رواه عن صاحب وذاك عن آخر ؟ فهذا كله يبين أن الحديث في الأصل معروف .
والذين رخصوا في الزيارة اعتمدوا على ما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن وقالت : لو شهدتك ما زرتك وهذا يدل على أن الزيارة ليست مستحبة للنساء كما تستحب الرجال . إذ لو كان كذلك لا ستحبت زيارته سواء شهدته أم لا .
قلت : فعلى هذا لا حجة فيه لمن قال بالرخصة .
وهذا السياق لحديث عائشة رواه الترمذي من رواية عبد الله بن أبي مليكة عنها ، وهو يخالف سياق الأثرم له عن عبد الله بن أبي مليكة أيضاً : أن عائشة رضي الله عنها أقبلت ذات يوم من المقابر . فقلت لها : يا أم المؤمنين ، أليس نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور ؟ قالت : نعم نهى عن زيارة القبور ، ثم أمر بزيارتها .
فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا وقال : ولا حجة في حديث عائشة فإن المحتج عليها احتج بالنهي العام ، فدفعت ذلك بأن النهي منسوخ ، ولم يذكر لها المحتج النهي الخاص بالنساء الذي فيه لعنهن على الزيارة . يبين ذلك قولها قد أمر بزيارتها فهذا يبين أنه أمر بها أمراً يقتضي الاستحباب ، والاستحباب إنما هو ثابت للرجال خاصة . ولو كانت تعتقد أن النساء مأمورات بزيارة القبور لكانت تفعل ذلك كما يفعله الرجال ولم تقل لأخيها لما زرتك واللعن صريح في التحريم ، والخطاب بالإذن في قوله فزوروها لم يتناول النساء فلا يدخلن في الحكم الناسخ ، والعام إذا عرف أنه بعد الخاص لم يكن ناسخاً له عند جمهور العلماء، وهو مذهب الشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه ، وهو المعروف عند أصحابه ، فكيف إذا لم يعلم أن هذا العام بعد الخاص ؟ إذ قد يكون قوله : لعن الله زوارات القبور بعد إذنه للرجال في الزيارة . يدل على ذلك أنه قرنه بالمتخذين عليها المساجد والسرج . ومعلوم أن اتخاذ المساجد والسرج المنهي عنها محكم ، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة وكذلك الآخر .
والصحيح : أن النساء لم يدخلن في الإذن في زيارة القبور لعدة أوجه :
أحدها : أن قوله صلى الله عليه وسلم فزوروها صيغة تذكير . وإنما يتناول النساء أيضاً على سبيل التغليب . لكن هذا فيه قولان ، قيل : إنه يحتاج إلى دليل منفصل ، وحينئذ فيحتاج تناول ذلك للنساء إلى دليل منفصل ، وقيل أنه يحتمل على ذلك عند الإطلاق . وعلى هذا فيكون دخول النساء بطريق العموم الضعيف ، والعام لا يعارض الأدلة الخاصة ولا ينسخها عند جمهور العلماء ، ولو كان النساء داخلات في هذا الخطاب لا ستحب لهن زيارة القبور . وما علمنا أحداً من الأئمة استحب لهن زيارة القبور ، ولا كان النساء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين يخرجن إلى زيارة القبور .
ومنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم علل الإذن للرجال بأن ذلك " يذكر الموت ، ويرقق القلب ، وتدمع العين " هكذا في مسند أحمد . ومعلوم أن المرأة إذا فتح بالها هذا الباب أخرجها إلى الجزع والندب والنياحة ، لما فيها من الضعف وقلة الصبر . وإذا كانت زيارة النساء مظنة وسبباً للأمور المحرمة فإنه لا يمكن أن يحد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك ، ولا التمييز بين نوع ونوع ، ومن أصول الشريعة : أن الحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بمظنتها . فيحرم هذا الباب سداً للذريعة ، كما حرم النظر إلى الزينة الباطنة ، وكما حرم الخلوة بالأجنبية وغير ذلك . وليس في ذلك من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة . فإنه ليس في ذلك إلى دعاؤها للميت وذلك ممكن في بيتها .
ومن العلماء من يقول : التشييع كذلك ، ويحتج بقوله صلى الله عليه وسلم " ارجعن مأزورات غير مأجورات ، فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت " ، وقوله لفاطمة : " أما إنك لو بلغت معهم الكدى لم تدخلي الجنة " ويؤيده ما ثبت في الصحيحين من أنه نهى النساء عن اتباع الجنائز ومعلوم أن قوله صلى الله عليه وسلم : " من صلى على جنازة فله قيراط ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان " وهو أدل على العموم من صيغة التذكير . فإن لفظ من يتناول الرجال والنساء باتفاق الناس ، وقد علم بالأحاديث الصحيحة أن هذا العموم لم يتناول النساء لنهي النبي صلى الله عليه وسلم لهن عن اتباع الجنائز ، فإذا لم يدخلن في هذا العموم فكذلك في ذلك بطريق الأولى . انتهى ملخصاً .
قلت : ويكون الإذن في زيارة القبور مخصوصاً للرجال ، خص بقوله : لعن الله زوارات القبور .... الحديث فيكون من العام المخصوص .
وعندما استدل به القائلون بالنسخ أجوبة أيضاً .
منها : أن ما ذكروه عن عائشة وفاطمة رضي الله عنهما معارض مما ورد عنهما في هذا الباب فلا يثبت به نسخ .
ومنها : أن قول الصحابي وفعله ليس حجة على الحديث بلا نزاع ، وأما تعليمه عائشة كيف تقول إذا زارت القبور ونحو ذلك ، فلا يدل على نسخ ما دلت عليه الأحاديث الثلاثة من لعن زائرات القبور ، لاحتمال أن يكون ذلك قبل هذا النهي الأكيد والوعيد الشديد والله أعلم .
قال محمد بن اسماعيل الصنعاني رحمه الله في كتابه تطهير الاعتقاد : فإن هذه القباب والمشاهد التي صارت أعظم ذريعة إلى الشرك والإلحاد ، وأكبر وسيلة إلى هدم الإسلام وخراب بنيانه : غالب ـ بل كل ـ من يعمرها هم الملوك والسلاطين والرؤساء والولاة ، إما على قريب لهم أو على من يحسنون الظن فيه من فاضل أو عالم أو صوفي أو فقير أو شيخ أو كبير ، ويزوره الناس الذي يعرفونه زيارة الأموات من دون توسل به ولا هتف بإسمه ، بل يدعون له ويستغفرون حتى ينقرض من يعرفه أو أكثرهم ، فيأتي من بعدهم فيجد قبراً قد شيد عليه البناء ، وسرجت عليه الشموع ، وفرش بالفراش الفاخر ، وأرخيب عليه الستور ، وألقيت عليه الأوراد والزهور ، فيعتقد أن ذلك لنفع أو دفع ضر ، وتأتيه السدنة يكذبون على الميت بأنه فعل وفعل ، وأنزل بفلان الضر النفع . حتى يغرسوا في جبلته كل باطل ، والأمر ما ثبت في الأحاديث النبوية من لعن من أسرج على القبور وكتب عليها وبنى عليها . وأحاديث ذلك واسعة معروفة فإن ذلك في نفسه منهى عنه . ثم هو ذريعة إلى مفسدة عظيمة . انتهى .
ومنه تعلم مطابقة الحديث للترجمة والله أعلم .
قوله : والمتخذين عليها المساجد تقدم شرحه في الباب قبله .
قوله : السرج قال أبو محمد المقدسي : لو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله ، لأن فيه تضييعاً للمال في غير فائدة ، وإفراطاً في تعظيم القبور أشبه بتعظيم الأصنام .
وقال ابن القيم رحمه الله : اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها من الكبائر .
قوله : رواه أهل السنن يعني أن أبا داود والترمذي وابن ماجه فقط ولم يروه النسائي .