لا تجعلوا قبري عيداً وصلوا على حيث كنتم
 

قوله : وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبرى عيداً ، وصلوا فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم " رواه أبو داود بإسناد حسن . رواته ثقات .
قوله : لا تجعلوا بيوتكم قبوراً قال شيخ الإسلام : أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة ، فتكون بمنزلة القبور ، فأمر بتحري العبادة في البيوت ونهى عن تحريهما عند القبور ، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم من هذه الأمة .
وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعاً : " اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً " وفي صحيح مسلم عن ابن عمر مرفوعاً : " لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه " .
قوله : ولا تجعلوا قبرى عيداً قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد ، عائداً إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر ونحو ذلك .
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : العيد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان ، مأخوذ من المعاودة والاعتياد . فإذا كان اسماً للمكان فهو المكان الذي يقصد فيه الاجتماع وانتيابه للعبادة وغيرها ، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله عيداً للحنفاء ومثابة ، كما جعل أيام العيد فيها عيداً . وكان للمشركين أعياد زمنية ومكانية . فلما جاء الله بالإسلام أبطلها وعوض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر وأيام منى ، كما عوضهم من أعياد المشركين المكانية بالكعبة ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر .
قوله : وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : يشير بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم ، فلا حاجة لكم إلى اتخاذه عيداً .
قوله : لا تجعلوا بيوتكم قبوراً تقدم كلام شيخ الإسلام في معنى الحديث قبله ا هـ .
قوله : وعن علي بن الحسين رضي الله عنه : " أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو ، فنهاه وقال : ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا تتخذوا قبري عيداً ، ولا بيوتكم قبوراً ، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم " رواه في المختار .
هذا الحديث والذي قبله جيدان حسنا الإسنادين .
أما الأول : فرواه أبو داود وغيره من حديث عبد الله بن نافع الصائغ قال : أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة فذكره ، ورواته ثقات مشاهير ، لكن عبد الله بن نافع قال فيه أبو حاتم : ليس بالحافظ ، تعرف وتنكر . وقال ابن معين : هو ثقة وقال أبو زرعة : لا بأس به . قال شيخ الإسلام رحمه الله : ومثل هذا إذا كان لحديث شواهد علم أنه محفوظ ، وهذا له شواهد متعددة . وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي : هو حديث حسن جيد الإسناد ، وله شواهد يرتقى بها إلى درجة الصحة .
وأما الحديث الثاني : فرواه أبو يعلى والقاضي إسماعيل والحافظ الضياء محمد بن عبد الواحد المقدسي في المختارة .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدنية وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار ، لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم ، فكانوا له أضبط . ا هـ .
وقال سعيد بن منصور في سننه ، حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهل قال : رآني الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عند القبر ، فناداني ، وهو في بيت فاطمة رضي الله عنها يتعشى ، فقال : هلم إلى العشاء . فقلت : لا أريده . فقال : ما لي رأيتك عند القبر ؟ فقلت : سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم . فقال : إذا دخلت المسجد فسلم . ثم قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تتخذوا قبري عيداً ، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر ، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم ، لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، ما أنتم وبني بالأندلس إلا سواء " .
وقال سعيد أيضاً : حدثنا حبان بن علي ، حدثنا محمد عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً ، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني " .
قال شيخ الإسلام : فهذان المرسلان من هذين الموجين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث لا سيما وقد احتج به من أرسله . وذلك يقتضي ثبوته عنده هذا لو لم يرو من وجوه مسندة غير هذين ، فكيف وقد تقدم مسنداً .
قوله : على بن الحسين أي ابن علي بن أبي طالب ، المعروف بزين العابدين رضي الله عنه ، أفضل التابعين من أهل بيته وأعلمهم . قال الزهري : ما رأيت قرشياً أفضل منه . مات سنة ثلاث وتسعين على الصحيح . وأبوه الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته ، حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم واستشهد يوم عاشوراء سنة إحدى وستين وله ست وخمسون سنة رضي الله عنه .
قوله : أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة بضم الفاء وسكون الراء ، وهي الكوة في الجدار والخوخة ونحوهما .
قوله : فيدخل فيها فيدعو فنهاه هذا يدل على النهي عن قصد القبور والمشاهد لأجل الدعاء والصلاة عندها .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : ما علمت أحداً رخص فيه ، لأن ذلك نوع من اتخاذه عيداً ويدل أيضاً على أن قصد القبر للسلام إذا دخل المسجد ليصلي منهى عنه ، لأن ذلك لم يشرع ، وكره مالك لأهل المدينة كلما دخل الإنسان المسجد أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك ، قال : ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها وكان الصحابة والتابعون رضي الله عنهم يأتون إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فيصلون ، فإذا قضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا ، ولم يكونوا يأتون القبر للسلام ، لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل ، وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك ، أو للصلاة والدعاء فلم يشرعه لهم ، بل نهاهم عنه في قوله " لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني " فبين أن الصلاة تصل إليه من بعد وكذلك السلام ، ولعن من اتخذ قبور الأنبياء مساجد . وكانت الحجرة في زمانهم يدخل إليها من الباب ، إذا كانت عائشة رضي الله عنها فيها ، وبعد ذلك إلى أن بنى الحائط الآخر ، وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون عليه ، لا للسلام ولا للصلاة ، ولا للدعاء لأنفسهم ولا لغيرهم ، ولا لسؤال عن حديث أو علم ، ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمعهم كلاماً أو سلاماً فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم ، وبين لهم الأحاديث ، أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج ، كما طمع الشيطان في غيرهم فأضلهم عند قبره وقبر غيره ، حتى ظنوا أن صاحب القبر يأمرهم وينهاهم ويفتيهم ويحدثهم في الظاهر ، وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجاً من القبر ، ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت تكلمهم ، وأن روح الميت تجسدت لهم فرأوها كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج .
والمقصود : أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يعتادون والسلام عليه عند قبره كما يفعله من بعدهم من الخلوف ، وإنما كان بعضهم يأتي من خارج فيسلم عليه إذا قد من سفر . كما كان ابن عمر يفعله . قال عبيد الله بن عمر عن نافع كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : السلام عليك يا رسول الله . السلام عليك يا أبا بكر . السلام عليك يا أبتاه ثم ينصرف قال عبيد الله ما نعلم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر وهذا يدل على أنه لا يقف عند القبر للدعاء إذا سلم كما يفعله كثير .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : لأن ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة ، فكان بدعة محضة . وفي المبسوط : قال مالك : لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولكن يسلم ويمضى . ونص أحمد أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره .
وبالجملة فقد اتفق الأئمة على أنه إذا دعا لا يستقبل القبر ، وتنازعوا : هل يستقبله عند السلام عليه أم لا ؟ وفي الحديث دليل على منع شد الرحال إلى قبره وإلى غيره من القبور والمشاهد ، لأن ذلك من اتخاذها أعياداً . بل من أعظم أسباب الإشراك بأصحابها . وهذه هي المسألة التي أفتى بها شيخ الإسلام رحمه الله ـ أعني من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين ـ ونقل فيها اختلاف العلماء ، فمن مبيح لذلك . كالغزالي وأبي محمد المقدسي . ومن مانع لذلك ، كابن بطة وابن عقيل ، وأبي محمد الجويني ، والقاضي عياض . وهو قول الجمهور ، نص عليه مالك ولم يخالفه أحد من الأئمة ، وهو الصواب . لما في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى " فدخل في النهي شدها لزيارة القبور والمشاهد ، فإما أن يكون نهياً ، وإما أن يكون نفياً . وجاء في رواية بصيغة النهي ، فتعين أن يكون للنهي ، ولهذا فهم منه الصحابة رضي الله عنهم المنع ـ كما في الموطأ والمسند والسنن ـ عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري أنه قال لأبي هريرة ـ وقد أقبل من الطور ـ : لو أدركت قبل أن تخرج إليه لما خرجت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى " وروى الإمام أحمد وعمر بن شبة في أخبار المدينة بإسناد جيد عن قزعة قال : أتيت ابن عمر فقلت : إني أريد الطور . فقال : إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجد المدينة ، والمسجد الأقصى . فدع عنك الطور ولا تأته فابن عمر وبصرة بن أبي بصرة جعلاً الطور مما نهي عن شد الرحال إليه . لأن اللفظ الذي ذكراه فيه النهي عن شدها إلى غير الثلاثة مما يقصد به القربة ، فعلم أن المستنى منه عام في المساجد وغيرها ، وأن النهي ليس خاصاً بالمساجد ، ولهذا نهيا عن شدها إلى الطور مستدلين بهذا الحديث . والطور إنما يسافر من يسافر إليه لفضيلة البقعة . فإن الله سماه الوادي المقدس ، والبقعة المباركة وكلم كليمه موسى عليه السلام هناك ، وهذا هو الذي عليه الأئمة الأربعة وجمهور العلماء ، ومن أراد بسط القول في ذلك والجواب عما يعارضه فعليه بما كتبه شيخ الإسلام مجيباً لابن الاخنائي فيما أعترض به على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة وأخذ به العلماء وقياس الأولى . لأن المفسدة في ذلك ظاهرة .
وأما النهي عن زيارة غير المساجد الثلاثة فغاية ما فيها : أنها لا مصلحة في ذلك توجب شد الرحال ، ولا مزية تدعو إليه . وقد بسط القول في ذلك الحافظ محمد بن عبد الهادي في كتاب الصارم المنكي في رده السبكي ، وذكر فيه علل الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وذكر هو وشيخ الإسلام رحمهما الله تعالى أنه لا يصح منها حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه ، مع أنها لا تدل على محل النزاع . إذ ليس فيها إلا مطلق الزيارة ، وذلك لا ينكره أحد بدون شد الرحال ، فيحمل على الزيارة الشرعية التي ليس فيها شرك ولا بدعة .
قوله : رواه في المختارة المختارة : كتاب جمع فيه مؤلفه الأحاديث الجياد الزائدة عن الصحيحين .
ومؤلفه : هو أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ ضياء الدين الحنبلي أحد الأعلام . قال الذهبي : أفنى عمره في هذا الشأن مع الدين المتين ، والورع والفضيلة التامة والإتقان . فالله يرحمه ويرضى عنه .
وقال شيخ الإسلام : تصحيحه في مختاراته خير من تصحيح الحاكم بلا ريب . مات سنة ثلاث وأربعين وستمائة .
ما جاء في أن بعض هذه الأمة يعبدون الأوثان
قوله : باب ( ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان )
وقول الله تعالى : # 4 : 51 # " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت " .
الوثن يطلق على ما قصد بنوع من أنواع العبادة من دون الله من القبور والمشاهد وغيرها لقول الخليل عليه السلام : # 22 : 17 # " إنما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكاً " ومع قوله : # 21 : 17 # " قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين " وقوله : # 37 : 95 # " أتعبدون ما تنحتون " فبذلك يعلم أن الوثن يطلق على الأصنام وغيرها مما عبد من دون الله ، كما تقدم في الحديث .