الاستسقاء بالنجوم
 

قوله : ( ما جاء في الاستسقاء بالأنواء )
أي من الوعيد ، والمراد : نسبة السقيا ومجيء المطر إلى الأنواء . جمع نوء وهي منازل القمر . قال أبو السعادات : وهي ثمان وعشرون منزلة . ينزل القمر كل ليلة منها . ومنه قوله تعالى : # 36 : 39 # - والقمر قدرناه منازل - يسقط في الغرب كل ثلاث عشرة ليلة منزلة طلوع الفجر ، وتظلع أخرى مقابلتها ذلك الوقت من المشرق ، فتقضي جميعها مع انقضاء السنة . وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنزلة وطلوع رقيبها يكون مطر ، وينسبونه إليها ، ويقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وإنما سمى نوءاً لأنه إذا سقط الساقط منها ناء الطالع بالمشرق ، أي نهض وطلع .
قال : وقوله تعالى # 56 : 82 # - وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون - روى الإمام أحمد والترمذي ـ وحسنه ـ وابن جرير وابن أبي حاتم والضياء في المختارة عن علي رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : - - وتجعلون رزقكم - يقول : شكركم - أنكم تكذبون - تقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا : بنجم كذا وكذا - وهذ أولى ما فسرت به الآية . وروى ذلك عن علي وابن عباس وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني وغيرهم وهو قول جمهور المفسرين وبه يظهر وجه استدلال المصنف رحمه الله بالآية .
قال ابن القيم رحمه الله : أي تجعلون حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم : التكذيب به ، يعني القرآن . قال الحسن : تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون قال : وخسر عبد لا يكون حظه من القرآن إلا التكذيب .
قوله : عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : - أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة - . وقال : - النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب - رواه مسلم . أبو مالك اسمه الحرث بن الحرث الشامي . صحابي تفرد عنه بالرواية أبو سلام . وفي الصحابة أبو مالك الأشعري اثنان غير هذا .
قوله : أربع في أمتي من أمر بالجاهلية لا يتركونهن ستفعلها هذه الأمة إما مع العلم بتحريمها أو مع الجهل بذلك ، مع كونها من أعمال الجاهلية المذمومة المكروهة المحرمة . والمراد بالجاهلية هنا : ما قبل المبعث ، سموا ذلك لفرط جهلهم . وكل ما يخالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو جاهلية ، فقد خالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من أمورهم أو أكثرها . وذلك يدرك بتدبر القرآن ومعرفة السنة . ولشخنا رحمه الله مصنف لطيف ذكر فيه ما خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أهل الجاهلية ، بلغ مائة وعشرين مسألة .

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : أخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذماً لمن لم يتركه ، وهذا يقتضي أن كل ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم فهو مذموم في دين الإسلام ، وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها ، ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم ، وهذا كقوله تعالى : # 33 : 33 # - ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى - فإن في ذلك ذماً للتبرج وذماً لحال الجاهلية الأولى ، وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة .
قوله : الفخر بالأحساب أي التعاظم على الناس بالآباء ومآثرهم ، وذلك جهل عظيم ، إذ لا كرم إلا بالتقوى ، كما قال تعالى : # 49 : 13 # - إن أكرمكم عند الله أتقاكم - وقال تعالى : # 34 : 37 # - وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون - .
ولأبي داود عن أبي هريرة مرفوعاً : - إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء ، إنما هو مؤمن تقي ، أو فاجر شقي ، الناس بنو آدم وآدم من تراب ، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما فحم من فحم جهنم ، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان - .
قوله : والطعن في الأنساب أي الوقوع فيها بالعيب والتنقص . ولما عير أبو ذر رضي الله عنه رجلاً بأمه قال له النبي صلى الله عليه وسلم :- أعيرته بأمه ؟ إنك امرؤ فيك جاهلية - متفق عليه . فدل على أن الطعن في الأنساب من عمل الجاهلية ، وأن المسلم قد يكون فيه شئ من هذه الخصال بجاهلية ويهودية ونصرانية ، ولا يوجب ذلك كفره ولا فسقه . قاله شيخ الإسلام رحمه الله.
قوله : والاستسقاء بالنجوم أي نسبة المطر إلى النوء وهو سقوط النجم . كما أخرج الإمام أحمد وابن جرير السوائي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :- أخاف على أمتي ثلاثاً : استسقاء بالنجوم . وحيف السلطان . وتكذيباً بالقدر - .
فإذا قال قائلهم : مطرنا بنجم كذا أو بنوء كذا . فلا يخلوا إما أن يعتقد أن له تأثيراً في إنزال المطر . فهذا شرك وكفر . وهو الذي يعتقده أهل الجاهلية كاعتقادهم أن دعاء الميت والغائب يجلب لهم نفعاً ، أو يدفع عنهم ضراً . أو أنه يشفع بدعائهم إياه ، فهذا هو الشرك الذي بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه وقتال من فعله . كما قال تعالى : # 8 : 39 # - وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله - والفتنة الشرك ، وإما أن يقول : مطرنا بنوء كذا مثلا ، لكن مع اعتقاده أن المؤثر هو الله وحده . لكنه أجرى العادة بوجود المطر عند سقوط ذلك النجم ، والصحيح : أنه يحرم نسبة ذلك إلى النجم ولو على طريق المجاز ، فقد صرح ابن مفلح في الفروع : بأنه يحرم قول مطرنا بنوء كذا وجزم في الإنصاف بتحريمه ولو على طريق المجاز ، ولم يذكر خلافاً . وذلك أن القائل لذلك نسب ما هو من فعل الله تعالى الذي لا يقدر عليه غيره إلى خلق مسخر لا ينفع ولا يضر ولا قدرة له على شئ ، فيكون ذلك شركاً أصغر . والله أعلم .