عقوبة النائحة إذا لم تتب
 

قوله : والنياحة أي رفع الصوت بالندب على الميت لأنها تسخط بقضاء الله ، وذلك ينافي الصبر الواجب ، وهي من الكبائر لشدة الوعيد والعقوبة .
قوله : والنائحة إذا لم تتب قبل موتها فيه تنبيه على أن التوبة تكفر الذنب وإن عظم ، هذا مجمع عليه في الجملة ، ويكفر أيضاً الحسنات الماحية والمصائب ، ودعاء المسلمين بعضهم لبعض ، وبالشفاعة بإذن الله ، وعفو الله عمن شاء ممن لا يشرك به شيئاً وفي الحديث عن ابن عمر مرفوعاً :- إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر- رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان .
قوله : تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب قال القرطبي : السربال واحد السرابيل ، وهي الثياب والقميص، يعني أنهن يلطخن بالقطران ، فيكون لهم كالقمص ، حتى يكون اشتعال النار بأجسادهن أعظم ، ورائحتهن أنتن ، وألمهن بسبب الجرب أشد . وروى عن ابن عباس : إن القطران هو النحاس المذاب .
قال : - ولهما عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال : صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : أتدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب - .
زيد بن خالد الجهني صحابي مشهور ، مات سنة ثمان وستين ، وقيل : غير ذلك ، وله خمس وثمانون سنة .
قوله : صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بنا ، فاللام بمعنى الباء . قال الحافظ : وفيه إطلاق ذلك مجازاً . وإنما الصلاة لله .
قوله : بالحديبية بالمهملة المضمومة وتخفيف يائها وتثقل .
قوله : على إثر سماء كانت من الليل بكسر الهمزة وسكون المثلثة على المشهور ، وهو ما يعقب الشئ .
قوله : سماء أي مطر . لأنه ينزل من السحاب ، والسماء يطلق على كل ما ارتفع .
قوله : فلما انصرف أي من صلاته ، أي التفت إلى المأمومين ، كما يدل عليه قوله : أقبل على الناس ويحتمل أنه أراد السلام .
قوله : هل تدرون لفظ استفهام ومعناه التنبيه . وفي النسائي : ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة ؟ وهذا من الأحاديث القدسية. وفيه إلقاء العالم على أصحابه المسألة ليختبرهم .
قوله : قالوا الله ورسوله أعلم فيه حسن الأدب للمسئول عما لا يعلم أن يكل العلم إلى عالمه . وذلك يجب .
قوله : أصبح من عبادي الإضافة هنا للعموم بدليل التقسيم إلى مؤمن وكافر كقوله تعالى : # 64 : 2 # - هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن - .
قوله : مؤمن بي وكافر إذا اعتقد أن للنوء تأثيراً في إنزال المطر فهذا كفر لأنه أشرك في الربوبية . والمشرك كافر . وإن لم يعتقد ذلك فهو من الشرك الأصغر ، لأنه نسب نعمة الله إلى غيره ، ولأن الله لم يجعل النوء سبباً لإنزال المطر فيه ، وإنما هو فضل من الله ورحمته يحبسه إذا شاء وينزله إذا شاء .
ودل هذا الحديث على أنه لا يجوز لأحد أن يضيف أفعال الله إلى غيره ولو على سبيل المجاز . وأيضاً الباء تحتمل معاني ، وكلها لا تصدق بهذا اللفظ ، فليست للسببية ولا للاستعانة ، لما عرفت من أن هذا باطل . ولا تصدق أيضاً على أنها للمصاحبة ، لأن المطر قد يجيء في هذا الوقت وقد لا يجيء فيه ، وإنما يجيء المطر في الوقت الذي أراد الله مجيئه فيه برحمته وحكمته وفضله . فكل معنى تحمل عليه الباء في هذا اللفظ المنهى عنه فاسد . فيظهر على هذا تحريم هذه اللفظة مطلقاً لفساد المعنى . وقد تقدم القطع بتحريمه في كلام صاحب الفروع والإنصاف .
قال المصنف رحمه الله : وفيه التفطن للإيمان في هذا الموضع يشير إلى أنه الإخلاص .
قوله : فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فالفضل والرحمة صفتان لله ، ومذهب أهل السنة والجماعة : أن ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله من صفات الذات : كالحياة والعلم ، وصفات الأفعال ، كالرحمة التي يرحم بها عباده . كلها صفات لله قائمة بذاته ليست قائمة بغيره ، فتفطن لهذا فقط غلط فيه طوائف .
وفي هذا الحديث : إن نعم الله لا يجوز أن تضاف إلا إليه وحده ، وهو الذي يحمد عليها ، وهذه حال أهل التوحيد .
قوله : وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا إلى أخره ، تقدم ما يتعلق بذلك .
قال المصنف رحمه الله : وفيه التفطن للكفر في هذا الموضع .
يشير إلى أنه نسبة النعمة إلى غير الله كفر ، ولهذا قطع بعض العلماء بتحريمه ، وإن لم يعتقد تأثير النوء بإنزال المطر ، فيكون من كفر النعم ، لعدم نسبتها إلى الذي أنعم بها ، ونسبتها إلى غيره ، كما سيأتي في قوله تعالى : # 16 : 83 # - يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها - .
قال القرطبي في شرح حديث زيد بن خالد : وكانت العرب إذا طلع نجم من الشرق وسقط آخر من المغرب فحدث عند ذلك مطر أو ريح ، فمنهم من ينسبه إلى الطالع ، ومنهم من ينسبه إلى الغارب نسبة إلى إيجاد واختراع ، ويطلقون ذلك القول المذكور في الحديث . فنهى الشارع عن إطلاق ذلك لئلا يعتقد أحد اعتقادهم ولا يتشبه بهم في نطقهم . انتهى .
قوله : فمنهم من ينسبه نسبة إيجاد ـ يدل على أن بعضهم كان لا يعتقد ذلك ، كما قال تعالى : # 29 : 63 # - ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون - فدل على أن منهم من يعرف ويقر بأن الله هو الذي أوجد المطر ، وقد يعتقد هؤلاء أن النوء فيه شيئاً من التأثير ، والقرطبي في شرحه لم يصرح أن العرب كلهم يعتقدون ذلك المعتقدالذي ذكره . فلا اعتراض عليه بلآية للاحتمال المذكور .
قوله : ولهما من حديث ابن عباس معناه ، وفيه : قال بعضهم : لقد صدق نوء كذا وكذا . فأنزل الله هذه الآيات : # 56 : 75 -82 # - فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين * أفبهذا الحديث أنتم مدهنون * وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون - . وبلفظه عن ابن عباس قال : مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم :- أصبح من الناس شاكر ، ومنهم كافر . قالوا : هذه رحمة الله . وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا وكذا - . فقال : فنزلت هذه الآية : - فلا أقسم بمواقع النجوم - .
هذا قسم من الله عز وجل ، يقسم بما شاء من خلقه على ما شاء . وجواب القسم : - إنه لقرآن كريم - فتكون لا صلة لتأكيد النفي ، فتقدير الكلام ، ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر ، أو كهانة ، بل هو قرآن كريم . قال ابن جرير : قال بعض أهل العربية : معنى قوله : فلا أقسم فليس الأمر كما تقولون ، ثم استؤنف القسم بعد فقيل : أقسم بمواقع النجوم . قال ابن عباس : يعني نجوم القرآن ، فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء الدنيا ، ثم نزل مفرقاً في السنين بعد ، ثم قرأ ابن عباس هذه الآية . ومواقعها : نزولها شيئاً بعد شئ . وقال مجاهد : مواقع النجوم مطالعها ومشارقها . واختاره ابن جرير . وعلى هذه فتكون المناسبة بين المقسم به والمقسم عليه ـ وهو القرآن ـ من وجوه : أحدها : أن النجوم جعلها الله يهتدي بها في ظلمات البر والبحر ، وآيات القرآن يهتدي بها في ظلمات الغي والجهل . فتلك هداية في الظلمات الحسية ، والقرآن هداية في الظلمات المعنوية . فجمع بين الهدايتين مع ما في النجوم من الزينة الظاهرة . وفي القرآن من الزينة الباطنة ، ومع ما في النجوم من الرجوم للشياطين ، وفي القرآن من رجوم شياطين الجن والإنس. والنجوم آياته المشهودة العيانية ، والقرآن آياته المتلوة السمعية ، مع ما في مواقعها عند الغروب من العبرة والدلالة على آياته القرآنية ومواقعها عند النزول ذكره ابن القيم رحمه الله .
وقوله : - وإنه لقسم لو تعلمون عظيم - قال ابن كثير : أي وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم لو تعلمون عظمته لعظمتم المقسم به عليه .
وقوله : - إنه لقرآن كريم - هذا هو المقسم عليه ، وهو القرآن ، أي إنه وحي الله وتنزيله وكلامه ، لا كما يقول الكفار : إنه سحر أو كهانة ، أو شعر . بل هو قرآن كريم أي عظيم كثير الخير لأنه كلام الله .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : فوصفه بما يقتضي حسنه وكثرة خيره ومنافعه وجلالته ، فإن الكريم هو البهي الكثير الخير العظيم ، وهو من كل شئ أحسنه وأفضله . والله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالكرم ووصف به كلامه ، ووصف به عرشه ، ووصف به ما كثر خيره وحسن منظره من النبات وغيره ولذلك فسر السلف الكريم بالحسن قال الأزهري: الكريم اسم جامع لما يحمد، والله تعالى كريم جميل الفعال ، وإنه لقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة .
وقوله : - في كتاب مكنون - أي في كتاب معظم محفوظ موقر ، قاله ابن كثير .
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : اختلف المفسرون في هذا ، فقيل : هو اللوح المحفوظ والصحيح أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة ، وهو المذكور في قوله : # 80 : 13 ـ 16 # - في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة * كرام بررة - ويدل على أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة قوله : - لا يمسه إلا المطهرون - فهذا يدل على أنه بأيديهم يمسونه .

الموضوع التالي


لا يمسه إلا المطهرون

الموضوع السابق


الاستسقاء بالنجوم