لا يمسه إلا المطهرون
 

قوله : - لا يمسه إلا المطهرون - قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا يمسه إلا المطهرون . قال : الكتاب الذي في السماء وفي رواية لا يمسه إلا المطهرون يعني الملائكة وقال قتادة : لا يمسه عند الله إلا المطهرون فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس والمنافق الرجس واختار هذا القول كثيرون ، منهم ابن القيم رحمه الله ورجحه ، وقال ابن زيد : زعمت قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين ، فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون كما قال تعالى : # 26 : 210 ـ 212 # - وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغي لهم وما يستطيعون * إنهم عن السمع لمعزولون - قال ابن كثير : هذا قول جيد . وهو لا يخرج عن القول قبله . وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه في هذه الآية : لا يجد طعمه إلا من آمن به .
قال ابن القيم رحمه الله : هذا من إشارة الآية وتنبيهها ، وهو أنه لا يلتذ به وبقراءته وفهمه وتدبره إلا من يشهد أنه كلام الله تكلم به حقاً ، وأنزله على رسوله وحياً . لا ينال معانيه إلا من لم يكن في قلبه حرج منه بوجه من الوجوه .
وقال آخرون : - لا يمسه إلا المطهرون - أي من الجنابة والحديث . قالوا : ولفظ الآية خبر معناه الطلب . قالوا : والمراد بالقرآن ههنا المصحف . واحتجوا على ذلك بما رواه مالك في الموطأ عن عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم : إن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم : أن لا يمس القرآن إلا طاهر .
وقوله :- تنزيل من رب العالمين - قال ابن كثير : هذا القرآن منزل من رب العالمين وليس كما يقولون إنه سحر أو كهانة أو شعر، بل هو الحق الذي لا مرية فيه ، وليس وراءه حق نافع . وفي هذه الآية : أنه كلام الله تكلم به .
قال ابن القيم رحمه الله : ونظيره : # 32 : 13 # - ولكن حق القول مني - وقوله : # 16 : 102 # - قل نزله روح القدس من ربك بالحق - هو إثبات علو الله تعالى على خلقه . فإن النزول والتنزيل الذي تعقله العقول وتعرفه الفطر هو وصول الشئ من أعلى إلى أسفل ولا يرد عليه قوله : # 39 :6 # - وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج- لأنا نقول : إن الذي أنزلها فوق سماواته . فأنزلها لنا بأمره .
قال ابن القيم رحمه الله : وذكر التنزيل مضافاً إلى ربوبيته للعالمين المستلزمة لملكه لها وتصرفه فيهم ، وحكمه عليهم ، وإحسانه إليهم ، وإنعامه عليهم ، وأن من هذا شأنه مع الخلق كيف يليق به مع ربوبيته التامة أن يتكرهم سدى ، ويدعهم هملاً ، ويخلقهم عبثاً . لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يثيبهم ولا يعاقبهم ؟ فمن أقر بأنه رب العالمين أقر بأن القرآن تنزيله على رسوله . واستدل بكونه رب العالمين على ثبوت رسالة رسوله وصحة ما جاء به ، وهذا الاستدلال أقوى وأشرف من الاستدلال بالمعجزات والخوارق . وإن كانت دلالتها أقرب إلى أذهان عموم الناس . وذلك إنما تكون لخواص العقلاء .
قوله : - أفبهذا الحديث أنتم مدهنون - قال مجاهد : أتريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم ؟ .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : ثم وبخهم على وضعهم الإدهان في غير موضعه ، وأنهم يداهنون فيما حقه أن يصدع به ويعرف به ، ويعض عليه بالنواجذ ، وتثني عليه الخناصر ، وتعقد عليه القلوب والأفئدة ، ويحارب ويسالم لأجله ، ولا يلتوى عنه يمنة ولا يسرة ، ولا يكون للقلب التفات إلى غيره ، ولا محاكمة إلا إليه ، ولا مخاصمة إلا به ، ولا اهتداء في طرق المطالب العالية إلا بنوره، ولا شفاء إلا به ، فهو روح الوجود ، وحياة العالم ، ومدار السعادة ، وقائد الفلاح ، وطريق النجاة ، وسبيل الرشاد، ونور البصائر. فكيف تطلب المداهنة بما هذا شأنه ، ولم ينزل للمداهنة ، وإنما نزل بالحق وللحق ، والمداهنة إنما تكون في باطل قوى لا تمكن إزالته ، أو في حق ضعيف لا تمكن إقامته ، فيحتاج المداهن إلى أن يترك بعض الحق ويلتزم بعض الباطل ، فأما الحق الذي قام به كل حق فكيف يداهن به ؟
قوله : - وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون - تقدم الكلام عليها أول الباب ، والله تعالى أعلم .