ومن الناس من يقول آمنا بالله - فإذا أوذي إلخ
 

قوله : # 29 : 10 # - ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله - .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى : يقول تعالى مخبراً عن صفات قوم من المكذبين يدعون الإيمان بألسنتهم ، ولم يثبت في قلوبهم : أنهم إذا جاءتهم محنة وفتنة في الدنيا اعتقدوا أنها من نقمة الله بهم ، فارتدوا عن الإسلام . قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني فتنة أن يرتد عن دينه إذا أوذي في الله .
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين : إما أن يقول أحدهم : آمنا ، وإما أن لا يقول ذلك . بل يستمر على السيئات والكفر ، فمن قال : آمنا امتحنه ربه وابتلاه وفتنه . والفتنة : الإبتلاء والاختبار ، ليتبين الصادق من الكاذب ، ومن لم يقل : آمنا . فلا يحسب أنه يعجر الله ويفوته ويسبقه . فمن آمن بالرسل وأطاعهم عاداه أعداؤهم وآذوه وابتلى بما يؤلمه ، ومن لم يؤمن بهم ولم يطعهم عوقب في الدنيا والآخرة وحصل له ما يؤلمه ، وكان هذا الألم أعظم وأدوم من ألم أتباعهم . فلا بد من حصول الألم لكل نفس ، آمنت أو رغبت عن الإيمان ، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة ، والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء ثم يصير في الألم الدائم ، والإنسان لا بد أن يعيش مع الناس ، والناس لهم إرادات وتصورات ، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها ، وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه ، وإن وافقهم حصل له العذاب تارة منهم وتارة من غيرهم ، كمن عنده دين وتقي حل بين قوم فجار ظلمة لا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم أو سكوته عنهم ، فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الإبتداء ، ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم وخالفهم ، وإن سلم منهم فلا بد أن يهان ويعاقب على يد غيرهم .
فالحزم كل الحزم بما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لمعاوية رضي الله عنه : - من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس . ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا من الله شيئاً - .
فمن هداه الله وألهمه رشده ووقاه شر نفسه امتنع من الموافقة على فعل المحرم وصبر على عداوتهم ، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة ، كما كانت للرسل وأتباعهم .
ثم أخبر تعالى عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة وأنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له ، وهي أذاهم ونيلهم إياه بالمكروه ، وهو الألم الذي لا بد أن ينال الرسل وأتباعهم ممن خالفهم ، جعل ذلك في فراره منه وتركه السبب الذي يناله به : كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالإيمان .
فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله إلى الإيمان ، وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قرب . وهذا لضعف بصيرته فر من ألم أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم ، ففر من ألم عذابهم إلى ألم عذاب الله . فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه بمنزلة عذاب الله . وغبن كل الغبن إذ استجار من الرمضاء بالنار . وفر من ألم ساعة إلى ألم الأبد ، وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال : إني كنت معكم ، والله أعلم بما انطوى عليه صدره من النفاق . انتهى .
وفي الآية رد على المرجئة والكرامية ، ووجهه : أنه لم ينفع هؤلاء قولهم : آمنا بالله . مع عدم صبرهم على أذى من عاداهم في الله ، فلا ينفع القول والتصديق بدون العمل . فلا يصدق الإيمان الشرعي على الإنسان إلا باجتماع الثلاثة : التصديق بالقلب وعمله ، والقول باللسان ، والعمل بالأركان . وهذا قول أهل السنة والجماعة سلفاً وخلفاً ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
وفيه الخوف من مداهنة الخلق في الحق . والمعصوم من عصمه الله .