باب ما جاء في الرياء
 

قوله : ( باب : ما جاء في الرياء )
أي من النهي والتحذير . قال الحافظ : هو مشتق من الرؤية . والمراد بها إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدون صاحبها . والفرق بينه وبين السمعة : أن الرياء لما يرى من العمل كالصلاة . والسمعة لما يسمع كالقراءة والوعظ والذكر ، ويدخل في ذلك التحدث بما عمله .

- قل إنما أنا بشر مثلكم - إلخ
قوله : وقول الله تعالى : # 18 : 110 # - قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد - أي ليس لي من الربوبية ولا من الإلهية شئ ، بل ذلك كله وحده لا شريك له أوحاه إلى - فمن كان يرجو لقاء ربه - أي يخافه - فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً - ، قوله أحداً نكرة في سياق النهي تعم ، وهذا العموم يتناول الأنبياء والملائكة والصالحين والأولياء وغيرهم .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : أما اللقاء فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة ، وقالوا : لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى يوم القيامة ، وذكر الأدلة على ذلك .
قال ابن القيم رحمه الله في الآية : أي كما أن الله واحد لا إله سواه ، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له ، فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية ، فالعمل الصالح : هو الخالص من الرياء المقيد بالسنة .
وفي الآية دليل على أن أصل الدين الذي بعث الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرسلين قبله ، هو إفراده تعالى بأنواع العبادة ، كما قال تعالى : # 21 : 25 # - وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون - والمخالف لهذا الأصل من هذه الأمة أقسام : إما طاغوت ينازع الله في ربوبيته وإلهيته ، ويدعو الناس إلى عبادته ، أو طاغوت يدعو الناس إلى عبادة الأوثان ، أو مشرك يدعو غير الله ويتقرب إليه بأنواع العبادة أو بعضها ، أو شاك في التوحيد : أهو حق أم يجوز أن يجعل لله شريك في عبادته ؟ أو جاهل يعتقد أن الشرك دين يقرب إلى الله ، وهذا هو الغالب على أكثر العوام لجلهم وتقليدهم من قبلهم ، لما اشتدت غربة الدين ونسى العلم بدين المرسلين .

الله أغنى الشركاء عن الشرك
قوله : وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : - قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك . من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه- رواه مسلم .
قوله : من عمل عملاً أشرك فيه غيري أي من قصد بعمله غيري من المخلوقين تركته وشركه . ولابن ماجه فأنا بريء وهو الذي أشرك قال الطيبي : الضمير المنصوب في قوله تركته يجوز أن يرجع إلى العمل .

أخوف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من الرياء
قال ابن رجب رحمه الله : واعلم أن العمل لغير الله أقسام فتارة يكون رياء محضاً كحال المنافقين . كما قال تعالى : # 4 :142 # - وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا - وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر عن مؤمن في فرض الصلاة أو التي يتعدى نفعها ، فإن الإخلاص فيها عزيز ، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط ، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة .
وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء ، فإن شاركه من أضله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه ـ وذكر أحاديث تدل على ذلك منها : هذا الحديث وحديث شداد بن أوس مرفوعاً - من صلى يرائى فقد أشرك ، ومن صام يرائي فقد أشرك ، ومن تصدق يرائي فقد أشرك ، وإن الله عز وجل يقول : أنا خير قسم لمن أشرك بي ، فمن أشرك بي شيئاً فإن جدة عمله وقليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به . أنا عنه غني - رواه أحمد ، وذكر أحاديث في المعنى ثم قال : فإن خالط نية الجهاد مثلاً نية غير الرياء ، مثل أخذ أجرة الخدمة أو أخذ من الغنيمة أو التجارة نقص بذلك أجر جهاده ولم يبطل بالكلية .
قال ابن رجب : وقال الإمام أحمد رحمه الله : التاجر والمستأجر والمكرى أجرهم على قدر ما يخلص من نياتهم في غزواتهم ، ولا يكون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره .
وقال أيضاً فيمن يأخذ جعل الجهاد : إذا لم يخرج لأجل الدراهم فلا بأس كأنه خرج لدينه إن أعطى شيئاً أخذه . وروى عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : - إذا أجمع أحدكم على الغزو فعوضه الله رزقاً فلا بأس بذلك ، وأما إن أحدكم أعطى دراهم غزا وإن لم يعط لم يغز فلا خير في ذلك - . وروى عن مجاهد رحمه الله أنه قال في حج الجمال وحج الأجير ، وحج التاجر : هو تام لا ينقص من أجرهم شئ أي لأن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون التكسب . قال : وأما إن كان أصل العمل لله ثم طرأ عليه نية الرياء ، فإن كان خاطراً ثم دفعه فلا يضره بغير خلاف ، وإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا فيجازى على أصل نيته ؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير ، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك ، وأنه يجازي بنيته الأولى ، وهو مروى عن الحسن وغيره . وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم : - أنه سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه ، فقال : تلك عاجل بشرى المؤمن - رواه مسلم . انتهى ملخصاً .
قلت : وتمام هذا المقام يتبين في شرح حديث أبي سعيد إن شاء الله تعالى .
قوله : وعن أبي سعيد مرفوعاً - ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : الشرك الخفي : يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل - رواه أحمد .
وروى ابن خزيمة في صحيحه عن محمود بن لبيد قال : - خرج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أيها الناس ، إياكم وشرك السرائر ، قالوا يا رسول الله وما شرك السرائر ؟ قال : يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه . فذلك شرك السرائر - .
قوله : عن أبي سعيد الخدري وتقدم .
قوله : الشرك الخفي سماه خفياً لأن صاحبه يظهر أن عمله لله وقد قصد به غيره ، أو شركه فيه بتزيين صلاته لأجله . وعن شداد بن أوس قال : كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص ، وابن جرير في التهذيب ، والطبراني والحاكم وصححه .
قال ابن القيم : وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتصنع للخلق والحلف بغير الله ، وقول الرجل للرجل ماشاء الله وشئت ، وهذا من الله ومنك ، وأنا بالله وبك ، وما لي إلا الله وأنت ، وأنا متوكل على الله وعليك ، ولولا الله وأنت لم يكن كذا وكذا . وقد يكون هذا شرك أكبر بحسب حال قائله ومقصده ، انتهى .
ولا خلاف أن الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله ، وكذلك المتابعة ، كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله في قوله تعالى : # 67 : 2 # - ليبلوكم أيكم أحسن عملاً - قال : أيكم أخلصه ولم يكن صواباً لم يقبل ، وإذا كان صواباً لم يقبل ، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً ، فالخالص ما كان لله ، والصواب ما كان على السنة .
وفي الحديث عن الفوائد : شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحه لهم ، وأن الرياء أخوف على الصالحين من فتنة الدجال . فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يخافه على سادات الأولياء مع قوة إيمانهم وعلمهم فغيرهم ممن هو دونهم بأضعاف أولى بالخوف من الشرك أصغره وأكبره .