باب من الشرك إرداة الإنسان بعمله الدنيا
 

قوله : ( باب : من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا )
فإن قيل : فما الفرق بين هذه الترجمة وبين ترجمة الباب قبله ؟
قلت : بينهما عموم وخصوص مطلق ، يجتمعان في مادة ، وهو ما إذا أراد الإنسان بعمله التزين عند الناس والتصنع لهم والثناء ، فهذا رياء كما تقدم بيانه ، كحال المنافقين . وهو أيضاً إرادة الدنيا بالتصنع عند الناس ، وطلب المدحة منهم والإكرام . ويفارق الرياء بكونه عمل عملاً صالحاً ، أراد به عرضاً من الدنيا ، كمن يجاهد ليأخذ مالاً ، كما في الحديث - تعس عبد الدينار - أو يجاهد للمغنم أو غير ذلك من الأمور التي ذكرها شيخنا عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره من المفسرين في معنى قوله تعالى : # 11 : 15 # - من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها - .
وأراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة وما بعدها أن العمل لأجل الدنيا شرك ينافي كمال التوحيد الواجب ، ويحبط الأعمال ، وهو أعظم من الرياء ، لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته تلك على كثير من عمله ، وأما الرياء فقد يعرض له في عمل دون عمل ، ولا يسترسل معه ، والمؤمن يكون حذراً من هذا وهذا .
قال : وقوله تعالى : # 11 : 15 ، 16 # - من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون - .
قال ابن عباس رضي الله عنه : - من كان يريد الحياة الدنيا - أي ثوابها . وزينتها ، أي مالها . نوف ، أي نوفر لهم ثواب أعمالهم بالصحة والسرور في المال والأهل والولد : - وهم فيها لا يبخسون - لا ينقصون ، ثم نسختها : # 17 : 18 ، 19 # - من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد - الآيتين . رواه النحاس في ناسخه .
قوله : ثم نسختها أي قيدتها . فلم تبق الآية على إطلاقها .
وقال قتادة : من كانت الدنيا همه وطلبته ونيته جازاه الله بحسناته في الدنيا ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطي بها جزاء ، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة ذكره ابن جرير بسنده ، ثم ساق حديث أبي هريرة عن ابن المبارك عن حيوة ابن شريح قال : حدثني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان أن عقبة بن مسلم حدثه أن شفى بن ماتع الأصبحي حدثه : ( أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس ، فقال : من هذا ؟ فقالوا : أبو هريرة . قال : فدنوت منه حتى قعدت بين يديه ، وهو يحدث الناس . فما سكت وخلا قلت : أنشدك بحق وبحق لما حدثتني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته . قال : فقال أبو هريرة : أفعل ، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ما فيه أحد غيري وغيره ثم نشغ أبو هريرة نشغة ، ثم أفاق فقال : لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ما فيه غيري أحد وغيره . ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى ، ثم مال خاراً على وجهه ، واشتد به طويلاً . ثم أفاق فقال : حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم : - إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة نزل إلى القيامة ليقضي بينهم ، وكل أمة جاثية . فأول من يدعو به رجل جمع القرآن ، ورجل قتل في سبيل الله ، ورجل كثير المال . فيقول الله تبارك وتعالى للقارىء : ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي ؟ قال : بلى يا رب . قال : فماذا عملت فيما علمت ؟ قال : كنت أقوم آناء الليل وآناء النهار . فيقول الله له : كذبت ، وتقول له الملائكة : كذبت ، ويقول الله له : بل أردت أن يقال فلان قارىء فقد قيل ذلك . ويؤتي بصاحب المال فيقول الله له : ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد ؟ قال : بلى يا رب ، قال : فما عملت فيما آتيتك ؟ قال : كنت أصل الرحم وأتصدق ، فيقول الله له : كذبت ، وتقول له الملائكة : كذبت ، ويقول الله : بل أردت أن يقال فلان جواد ، فقد قيل ذلك . ويؤتي بالذي قتل في سبيل الله فيقال له : فبماذا قتلت ؟ فيقول : أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت ، فيقول الله له : كذبت ، وتقول له الملائكة : كذبت ، ويقول الله له : بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك . ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال : يا أبا هريرة ، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة - .
وقد سئل شيخنا المصنف رحمه الله عن هذه الآية فأجاب بما حاصله : ذكر عن السلف فيها أنواع مما يفعله الناس اليوم ولا يعرفون معناه .
فمن ذلك : العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله : من صدقة وصلاة ، وصلة وإحسان إلى الناس ، وترك ظلم ، ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصاً لله ، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة ، إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته ، أو حفظ أهله وعياله ، أو إدامة النعمة عليهم ، ولا همة له في طلب الجنة والهرب من النار ، فهذا يعطي ثواب عمليه في الدنيا وليس له في الآخرة من نصيب . وهذا النوع ذكره ابن عباس .
النوع الثاني : وهو أكبر من الأول وأخوف ، وهو الذي ذكره مجاهد في الآية : أنها نزلت فيه وهو أن يعمل أعمالاً صالحة ونيته رياء الناس ، لا طلب ثواب الآخرة .
النوع الثالث : أن يعمل أعمالاً صالحة يقصد بها مالاً ، مثل أن يحج لمال يأخذه أو يهاجر لدنيا يصيبها ، أو امرأة يتزوجها ، أو يجاهد لأجل المغنم ، فقد ذكر أيضاً هذا النوع في تفسير هذه الآية ، كما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهله أو مكسبهم أو رياستهم ، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد ، كما هو واقع كثيراً .
النوع الرابع : أن يعمل بطاعة الله مخلصاً في ذلك لله وحده لا شريك له لكنه على عمل يكفره كفراً يخرجه عن الإسلام ، مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله ، أو تصدقوا أو صاموا إبتغاء وجه الله والدار الآخرة ، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك أكبر يخرجهم من الإسلام بالكلية ، إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة ؟ لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم ، فهذا النوع أيضاً قد ذكر في هذه الآية عن أنس بن مالك وغيره ، وكان السلف يخافون منها ، قال بعضهم : لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت لأن الله تعالى يقول : # 5 : 27 # - إنما يتقبل الله من المتقين - .
ثم قال : بقي أن يقال : إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج إبتغاء وجه الله ، طالباً ثواب الآخرة ، ثم بعد ذلك عمل أعمالاً قاصداً بها الدنيا ، مثل أن يحج فرضه لله ، ثم يحج بعده لأجل الدنيا كما هو واقع ، فهو لما غلب عليه منهما . وقد قال بعضهم : القرآن كثيراً ما يذكر أهل الجنة الخلص وأهل النار الخلص ، ويسكت عن صاحب الشائبتين ، وهو هذا وأمثاله ا هـ .

الموضوع التالي


تعس عبد الدينار

الموضوع السابق


باب ما جاء في الرياء