باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله
 

قوله : ( باب : من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله ، فقد اتخذهم أرباباً من دون الله )
قول الله تعالى : # 9 : 31 # - اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون- وتقديم تفسير هذا في أصل المصنف رحمه الله عند ذكر حديث عدي ابن حاتم رضي الله عنه .
قوله : وقال ابن عباس رضي الله عنهما : - يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء . أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون : قال أبو بكر وعمر ؟ - .
قوله : يوشك بضم أوله وكسر الشين المعجمة أي يقرب ويسرع .
وهذا القول من ابن عباس رضي الله عنهما جواب لمن قال : إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لا يريان التمتع بالعمرة إلى الحج، ويريان أن إفراد الحج أفضل : أو ما هو معنى هذا ، وكان ابن عباس يرى أن التمتع بالعمرة إلى الحج واجب ويقول : إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط فقد حل من عمرته شاء أم أبى- لحديث سراقة بن مالك حين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرة ويحلوا إذا طافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة ، فقال سراقة : يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد ؟ فقال : بل للأبد - والحديث في الصحيحين ، وحينئذ فلا عذر لمن استفى أن ينظر في مذاهب العلماء وما استدل به كل إمام ويأخذ من أقوالهم ما دل عليه الدليل إذا كان له ملكة يقتدر بها على ذلك . كما قال تعالى : # 4 : 59 # - فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا - .
وللبخاري ومسلم وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : - لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدى لأحللت - هذا لفظ البخاري في حديث عائشة رضي الله عنها . ولفظه في حديث جابر : - افعلوا ما أمرتكم به فلولا أني سقت الهدى لفعلت مثل الذي أمرتكم - في عدة أحاديث تؤيد قول ابن عباس .
وبالجملة فلهذا قال ابن عباس لما عارضوا الحديث برأي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء .... الحديث .
وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى : ما منا إلا راد ومردود عليه ، إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم .
وكلام الأئمة في هذا المعنى كثير .
وما زال العلماء رحمهم الله يجتهدون في الوقائع فمن أصاب منهم فله أجران ، ومن أخطأ فله أجر ، كما في الحديث ، لكن إذا استبان لهم الدليل أخذوا به وتركوا اجتهادهم . وأما إذا لم يبلغهم الحديث أو لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم عندهم فيه حديث ، أو ثبت وله معارض أو مخصص ونحو ذلك فحينئذ يسوغ للإمام أن يجتهد . وفي عصر الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى إنما كان طلب الأحاديث ممن هي عنده باللقى والسماع ، ويسافر الرجل في طلب الحديث إلى الأمصار عدة سنين . ثم اعتنى الأئمة بالتصانيف ودونوا الأحاديث ورووها بأسانيدها ، وبينوا صحيحها من حسنها من ضعيفها . والفقهاء صنفوا في كل مذهب ، وذكروا حجج المجتهدين . فسهل الأمر على طالب العلم . وكل إمام يذكر الحكم بدليله عنده ، وفي كلام ابن عباس رضي الله عنهما ما يدل على أن من يبلغه الدليل فلم يأخذ به ـ تقليداً لإمامه ـ فإنه يجب الإنكار عليه بالتغليظ لمخالفته الدليل .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن عمر البزار ، حدثنا زياد بن أيوب ، حدثنا أبو عبيدة الحداد عن مالك بن دينار عن عكرمة ابن عباس قال : ليس منا أحد إلا يؤخذ من قوله ويدع غير النبي صلى الله عليه وسلم .
وعلى هذا فيجب الإنكار على من ترك الدليل لقول أحد من العلماء كائناً من كان ، ونصوص الأئمة على هذا ، وأنه لا يسوغ التقليد إلا في مسائل الاجتهاد التي لا دليل فيها يرجع إليه من كتاب ولا سنة ، فهذا هو الذي عناه بعض العلماء بقوله : لا إنكار في مسائل الإجتهاد . وأما من خالف الكتاب والسنة فيجب الرد عليه كما قال ابن عباس والشافعي ومالك وأحمد ، وذلك مجمع عليه ، كما تقدم في كلام الشافعي رحمه الله تعالى .

قول الإمام أحمد : عجبت لقوم عرفوا الإسناد ويذهبون إلى رأي سفيان إلخ
قوله : وقال الإمام أحمد : عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ، ويذهبون إلى رأي سفيان . والله تعالى يقول : # 24 : 63 # - فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم - أتدرون ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك ، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شئ من الزيغ فيهلك .
هذا الكلام من الإمام أحمد رحمه الله رواه عنه الفضل بن زياد وأبو طالب . قال الفضل عن أحمد : نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاث وثلاثين موضعاً ، ثم جعل يتلو : - فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة - الآية ، فذكر من قوله : الفتنة الشرك ـ إلى قوله ـ فيهلك . ثم جعل يتلو هذه الآية : # 4 : 65 # - فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً - .
وقال أبو طالب عن أحمد وقيل له : إن قوماً يدعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره ، فقال : أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره ، قال الله تعالى : - فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم - أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة : الكفر . قال الله تعالى : # 2 : 217 # - والفتنة أكبر من القتل - فيدعون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي ذكر ذلك عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى .
قوله : عرفوا الإسناد أي إسناد الحديث وصحته ، فإن صح إسناد الحديث فهو صحيح عند أهل الحديث وغيرهم من العلماء .
وسفيان : هو الثوري الإمام الزاهد العابد الثقة الفقيه ، وكان له أصحاب يأخذون عنه ، ومذهبه مشهور يذكره العلماء رحمهم الله في الكتب التي يذكر فيها مذاهب الأئمة ، كالتمهيد لابن عبد البر ، والاستذكار له ، وكتاب الإشراف على مذاهب الأشراف لابن المنذر ، والمحلى لابن حزم ، والمغنى لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة الحنبلي . وغير هؤلاء .
فقول الإمام أحمد رحمه الله : عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ... إلخ إنكار منه لذلك . وأنه يؤول إلى زيع القلوب الذي يكون به المرء كافراً . وقد عمت البلوى بهذا المنكر خصوصاً ممن ينتسب إلى العلم ، نصبوا الحبائل في الصد عن الأخذ بالكتاب والسنة ، وصدوا عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيم أمره ونهيه ، فمن ذلك قولهم : لا يستدل بالكتاب والسنة إلا المجتهد . والاجتهاد قد انقطع ويقول : هذا الذي قلدته أعلم منك بالحديث وبناسخه ومنسوخه ، ونحو ذلك من الأقوال التي غايتها ترك متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى ، والاعتماد على قول من يجوز عليه الخطأ ، وغيره من الأئمة يخالفه ، ويمنع قوله بدليل ، فما من إمام إلا والذي معه بعض العلم لا كله . فالواجب على كل مكلف إذا بلغه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله وفهم معنى ذلك : أن ينتهي إليه ويعمل به ، وإن خالفه من خالفه ، كما قال تعالى : # 7 : 3 # - اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون - وقال تعالى # 29 : 51 # - أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون - وقد تقدم حكاية الإجماع على ذلك ، وبيان أن المقلد ليس من أهل العلم ، وقد حكى أيضاً أبو عمر ابن عبد البر وغيره الإجماع على ذلك .
قلت : ولا يخالف في ذلك إلا جهال المقلدة ، لجهلهم بالكتاب والسنة ، ورغبتهم عنها ، وهؤلاء وإن ظنوا أنهم قد اتبعوا الأئمة فإنهم في الحقيقة قد خالفوهم ، واتبعوا غير سبيلهم . كما قدمنا من قول مالك والشافعي وأحمد ، ولكن في كلام أحمد رحمه الله إشارة إلى أن التقليد قبل بلوغ الحجة لا يذم وإنما ينكر على من بلغته الحجة وخالفهم لقول إمام من الأئمة ، وذلك إنما ينشأ عن الإعراض عن تدبر كتاب الله وسنة رسوله والإقبال على كتب من تأخروا والإستغناء بها عن الوحيين ، وهذا يشبه ما وقع من أهل الكتاب الذي قال الله فيهم : # 9 : 3 # - اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله - كما سيأتي بيان ذلك في حديث عدي بن حاتم ، فيجب على من نصح نفسه إذا قرأ كتب العلماء ونظر فيها وعرف أقوالهم أن يعرضها على ما في الكتاب والسنة ، فإن كل مجتهد من العلماء ومن تبعه وانتسب إلى مذهبه لا بد أن يذكر دليله ، والحق في المسألة واحد، والأئمة مثابون على اجتهادهم، فالمصنف يجعل النظر في كلامهم وتأمله طريقاً إلى معرفة المسائل واستحضارها ذهناً وتمييزاً للصواب من الخطأ بالأدلة التي يذكرها المستدلون ، ويعرف بذلك من هو أسعد بالدليل من العلماء فيتبعه ، والأدلة على هذا الأصل في كتاب الله أكثر وفي السنة كذلك ، كما أخرج أبو داود بسنده عن أناس من أصحاب معاذ : - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذاً إلى اليمن قال : كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ قال : أقضي بكتاب الله تعالى ، قال : فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال : فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله ؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو ، قال : فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله- وساق بسنده عن الحارث بن عمر عن أناس من أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن ـ بمعناه .
والأئمة رحمهم الله لم يقصروا في البيان ، بل نهوا عن تقليدهم إذا استبانت السنة ، لعلمهم أن من العلم شيئاً لم يعلموه ، وقد يبلغ غيرهم ، وذلك كثير كما لا يخفى على من نظر في أقوال العلماء .
قال أبو حنيفة رحمه الله : إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين ، وإذا جاء عن الصحابة رضي الله عنهم فعلى الرأس والعين ، وإذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال .
وقال : إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه فاتركوا قولي لكتاب الله . قيل : إذا كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالفه ؟ قال : اتركوا قولي لخبر الرسول صلى الله عليه وسلم . وقيل إذا كان قول الصحابة يخالفه ؟ قال : اتركوا قولي لصحابة .
وقال الربيع : سمعت الشافعي رحمه الله يقول : إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت .
وقال : إذا صح الحديث بما يخالف قولي فاضربوا بقولي الحائط .
وقال مالك : كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وتقدم له مثل ذلك ، فلا عذر لمقلد بعد هذا . ولو استقضينا كلام العلماء في هذا لخرج عما قصدناه من الاختصار ، وفيما ذكرناه كفاية لطالب الهدى .
قوله : لعله إذا رد بعض قوله أي قول الرسول صلى الله عليه وسلم أي يقع في قلبه شئ من الزيغ فيهلك نبه رحمه الله أن رد قول الرسول صلى الله عليه وسلم سبب لزيغ القلب ، وذلك هو الهلاك في الدنيا والآخرة كما قال تعالى : # 61 : 5 # - فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين - .
قال شيخ الإسلام رحمه الله في معنى قول الله تعالى : # 24 : 63 # - فليحذر الذين يخالفون عن أمره - فإن كان المخالف لأمره قد حذر من الكفر والشرك ، أو من العذاب الأليم ، دل على أنه قد يكون مفضياً إلى الكفر والعذاب الأليم ، ومعلوم أن إفضاءه إلى العذاب الأليم هو مجرد فعل المعصية ، فإفضاؤه إلى الكفر إنما هو لما يقترن به من الاستخفاف في حق الأمر ، كما فعل إبليس لعنه الله تعالى ا هـ .
وقال أبو جعفر ابن جرير رحمه الله تعالى عن الضحاك : - فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة - قال : يطبع على قلبه فلا يؤمن أن يظهر الكفر بلسانه فتضرب عنقه .
قال أبو جعفر بن جرير : أدخلت عن لأن معنى الكلام فليحذر الذين يلوذون عن أمره ويدبرون عنه معرضين .
قوله : أو يصيبهم في الدنيا عذاب من الله موجع على خلافهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .