باب - ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك - الآيات
 

قوله : باب
قول الله تعالى : # 4 : 60 # - ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك - الآيات .
قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى : والآية ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل ، وهو المراد بالطاغوت ههنا .
وتقدم ما ذكره ابن القيم رحمه الله في حده للطاغوت ، وأنه كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع ، فكل من حاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد حاكم إلى الطاغوت الذي أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يكفروا به ، فإن التحاكم ليس إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن كان يحكم بهما ، فمن تحاكم إلى غيرهما فقد تجاوز به حده ، وخرج عما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأنزله منزلة لا يستحقها . وكذلك من عبد شيئاً دون الله فإنما عبد الطاغوت ، فإن كان المعبود صالحاً صارت عبادة العابد له راجعة إلى الشيطان الذي أمره بها ، كما قال تعالى : # 10 : 28 ـ 30 # - يوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون * فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين * هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون - وكقوله : # 34 : 40 ـ 41 # - ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون - وإن كان ممن يدعو إلى عبادة نفسه أو كان شجراً أو حجراً أو قبراً وغير ذلك مما يتخذه المشركون أصناماً على صور الصالحين والملائكة وغير ذلك ، فهي من الطاغوت الذي أمر الله تعالى عباده أن يكفروا بعبادته ، ويتبرأوا منه ، ومن عبادة كل معبود سوى الله كائناً من كان ، وهذا كله من عمل الشيطان وتسويله ، فهو الذي دعا إلى كل باطل وزينة لمن فعل ، وهذا ينافي التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله . فالتوحيد: هو الكفر بكل طاغوت عبده العابدون من دون الله ، كما قال تعالى : # 60 : 4 # - قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده - وكل من عبد غير الله فقد جاوز به حده وأعطاه من العبادة ما لا يستحقه .
قال الإمام مالك رحمه الله الطاغوت ما عبد من دون الله .
وكذلك من دعا إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد ترك ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ورغب عنه ، وجعل لله شريكاً في الطاعة وخالف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمره الله تعالى به في قوله : - وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك - وقوله تعالى : # 4 : 65 # - فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً - فمن خالف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله ، أو طلب ذلك أتباعاً لما يهواه ويريده فقد خلع ربقة الإسلام والإيمان في عنقه . وإن زعم أنه مؤمن ، فإن الله تعالى أنكر على من أراد ذلك ، وأكذبهم في زعمهم الإيمان لما في ضمن قوله : - يزعمون - من نفى إيمانهم ، فإن - يزعمون - إنما يقال غالباً لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب لمخالفته لموجبها وعمله بما ينافيها، يحقق هذا قوله: - وقد أمروا أن يكفروا به - لأن الكفر بالطاغوت ركن التوحيد ، كما في آية البقرة فإن لم يحصل هذا الركن لم يكن موحداً والتوحيد هو أساس الإيمان الذي تصلح به جميع الأعمال وتفسد بعدمه . كما أن ذلك بين في قوله تعالى : # 2 : 256 # - فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى - الآية . وذلك أن التحاكم إلى الطاغوت إيمان به .
وقوله : - ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً - يبين تعالى في هذه الآية أن التحاكم إلى الطاغوت مما يأمر به الشيطان ويزينه لمن أطاعه : ويبين أن ذلك مما أضل به الشيطان من أضله ، وأكده بالمصدر ، ووصفه بالبعد . فدل على أن ذلك من أعظم الضلال وأبعده عن الهدى .

ففي هذه الآية أربعة أمور . الأول : أنه إرادة الشيطان : الثاني : إنه ضلال . الثالث : تأكيده بالمصدر . الرابع : وصفه بالبعد عن سبيل الحق والهدى .
فسبحان الله ما أعظم هذا القرآن وما أبلغه ، وما أدله على أنه كلام رب العالمين ، أوحاه إلى رسوله الكريم ، وبلغه عبده الصادق الأمين . صلوات الله وسلامه عليه .
قوله : - وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً - بين تعالى أن هذه صفة المنافقين ، وأن من فعل ذلك أو طلبه ، وإن زعم أنه مؤمن فإنه في غاية البعد عن الإيمان .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى : هذا دليل على أن من دعى إلى تحكيم الكتاب والسنة فأبى أنه من المنافقين .
قوله : - ويصدون - لازم وهو بمعنى يعرضون ، لأن مصدره صدوداً فما أكثر من اتصف بهذا الوصف ، خصوصاً ممن يدعى العلم ، فإنهم صدوا عما توجبه الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أقوال من يخطىء كثيراً ممن ينتسب إلى الأئمة الأربعة في تقليدهم من لا يجوز تقليده ، واعتمادهم على قول من لا يجوز الاعتماد على قوله ، ويجعلون قوله المخالف لنص الكتاب والسنة وقواعد الشريعة هو المعتمد عندهم الذي لا تصح الفتوى إلا به . فصار المتبع للرسول صلى الله عليه وسلم بين أولئك غريباً ، كما تقدم التنبيه على هذا في الباب الذي قبل هذا .
فتدبر هذه الآيات وما بعدها يتبين لك ما وقع فيه غالب الناس من الإعراض عن الحق وترك العمل به في أكثر الوقائع . والله المستعان .