لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به
 

قوله : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : - لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به - قال النووي : حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح .
هذا الحديث رواه الشيخ أبو الفتح نضر بن إبراهيم المقدسي الشافعي في كتاب : الحجة على تارك الحجة بإسناد صحيح كما قاله المصنف رحمه الله عن النووي . ورواه الطبراني وأبو بكر بن عاصم، والحافظ أبو نعيم في الأربعين التي شرط لها أن تكون في صحيح الأخبار ، وشاهده في القرآن قوله تعالى : # 4 : 65 # - فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم - الآية . وقوله : # 33 : 36 # - وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم - وقوله : # 28 : 50 # - فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم - ونحو هذه الآيات .
قوله : لا يؤمن أحدكم أي لا يكون من أهل كمال الإيمان الواجب الذي وعد الله أهله عليه بدخول الجنة والنجاة من النار . وقد يكون في درجة أهل الإساءة والمعاصي من أهل الإسلام .
قوله : حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به . الهوى بالقصر ، أي ما يهواه وتحبه نفسه وتميل إليه ، فإن كان الذي تحبه وتميل إليه نفسه ويعمل به تابعاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج عنه إلى ما يخالفه . فهذه صفة أهل الإيمان المطلق ، وإن كان بخلاف ذلك أو في بعض أحواله أو أكثرها انتفى عنه من الإيمان كماله الواجب ، كما في حديث أبي هريرة : - لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن - يعني أنه بالمعصية ينتفي عنه كمال الإيمان الواجب وينزل عنه في درجة الإسلام وينقص إيمانه ، فلا يطلق عليه الإيمان إلا بقيد المعصية ، أو الفسوق ، فيقال : مؤمن عاص ، أو يقال : مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته ، فيكون معه مطلق الإيمان الذي لا يصح إسلامه إلا به . كما قال تعالى : # 5 : 92 # - فتحرير رقبة مؤمنة - والأدلة على ما عليه سلف الأمة وأئمتها : أن الإيمان قول وعمل ونية يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية : من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى ، فمن ذلك قوله تعالى : # 2 : 143 # - وما كان الله ليضيع إيمانكم - أي صلاتكم إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس : - آمركم بالإيمان بالله وحده ، أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ شهادة أن لا إله إلا الله - الحديث ، وهو في الصحيحين والسنن . والدليل على أن الإيمان يزيد قوله تعالى : # 74 : 31 # - ويزداد الذين آمنوا إيماناً - الآية . وقوله : # 9 : 124 # - فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا - الآية . خلافاً لمن قال : إن الإيمان هو القول ، وهم المرجئة ، ومن قال : إن الإيمان هو التصديق كالأشاعرة . ومن المعلوم عقلاً وشرعاً أن نية الحق تصديق ، والعمل به تصديق وقول الحق تصديق وليس مع أهل البدع ما ينافي قول أهل السنة والجماعة ولله الحمد والمنة . قال الله تعالى : # 2 : 177 # - ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر- ـ إلى قوله ـ - أولئك الذين صدقوا - أي فيما عملوا به في هذه الآية من الأعمال الظاهرة والباطنة . وشاهده في كلام العرب قولهم : حملة صادقة . وقد سمي الله تعالى الهوى المخالف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إلهاً ، فقال تعالى: # 25 : 43 # - أفرأيت من اتخذ إلهه هواه - قال بعض المفسرين : لا يهوى شيئاً إلا ركبه .
قال ابن رجب رحمه الله : أما معنى الحديث : فهو أن الإنسان لا يكون مؤمناً كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وغيرها . فيجب ما أمر به ويكره ما نهى عنه ، وقد ورد القرآن مثل هذا المعنى في غير موضع ، وذم سبحانه من كره ما أحبه الله أو أحب ما كرهه الله كما قال تعالى : # 47 : 28 # - ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم - فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله محبة توجب له الإتيان بما أوجب عليه منه ، فإن زادت المحبة حتى أتى بما ندب إليه منه كان ذلك فضلاً ، وأن يكره ما يكرهه الله كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه ، فإن زادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كراهه تنزيهاً كان ذلك فضلاً . فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب ذلك له أن يحب بقلبه ما يحب الله ورسوله ويكره ما يكرهه الله ورسوله ، فيرضي ما يرضي الله ورسوله ، ويسخط ما يسخط الله ورسوله ، ويعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض ، فإن عمل بجوارحه شيئاً يخالف ذلك ، بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله وترك ما يحبه الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه ، دل ذلك على نقص محبته الواجبة ، فعليه أن يتوب من ذلك ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة التي هي ركن العبادة إذا كملت فجميع المعاصي تنشأ عن تقديم هوى النفس على محبة الله ورسوله . وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه ، فقال تعالى : # 28 : 50 # - فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله - وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع . ولهذا سمي أهلها أهل الأهواء ، وكذلك المعاصي إنما تنشأ من تقديم الهوى على محبة الله ومحبة ما يحبه ، وكذلك حب الأشخاص : الواجب فيه أن يكون تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيجب على المؤمن محبة ما يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عموماً ، ولهذا كان من علامات وجود حلاوة الإيمان : أن يحب المرء لا يحبه إلا لله فتحرم موالاة أعداء الله ومن يكرهه الله عموماً ، وبهذا يكون الدين كله لله . ومن أحب لله وأبغض لله ، وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان ، ومن كان حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه كان ذلك نقصاً في إيمانه الواجب . فتجب التوبة من ذلك : انتهى ملخصاً .
ومناسبة الحديث للترجمة : بيان الفرق بين أهل الإيمان وأهل النفاق والمعاصي في أقوالهم وأفعالهم وإرادتهم .
قوله : وقال الشعبي هو عامر بن شراحيل الكوفي ، عالم أهل زمانه ، وكان حافظاً علامة ذا فنون . كان يقول : ما كتبت سوداء في بيضاء ، وأدرك خلقاً كثيراً من الصحابة وعاش بضعاً وثمانين سنة . قال الذهبي .
وفيما قاله الشعبي ما يبين أن المنافق يكون أشد كراهة لحكم الله ورسوله من اليهود والنصارى . ويكون أشد عداوة منهم لأهل الإيمان . كما هو الواقع في هذه الأزمنة وقبلها من إعانة العدو على المسلمين . وحرصهم على إطفاء نور الإسلام والإيمان : ومن تدبر ما في التاريخ وما وقع منهم من الوقائع عرف أن هذا حال المنافقين قديماً وحديثاً ، وقد حذر الله نبيه صلى الله عليه وسلم من طاعتهم والقرب منهم ، وحضه على جهادهم في مواضع من كتابه ، قال تعالى : # 66 : 9 # - يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم - الآية . وفي قصة عمر رضي الله عنه وقتله المنافق الذي طلب التحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي دليل على قتل من أظهر الكفر والنفاق ، وكان كعب بن الأشرف هذا شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم والأذى له والإظهار لعداوته فانتقض به عهده . وحل به قتله . وروى مسلم في صحيحه عن عمر : سمعت جابراً يقول : : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : - من لكعب ابن الأشرف ؟ فإنه قد آذى الله ورسوله ، قال محمد بن سلمة : يا رسول الله ، أتحب أن أقتله ؟ قال : نعم . قال : ائذن لي فلأقل ، قال : قل ، فأتاه فقال له ، وذكر ما بينهما وقال : إن هذا الرجل قد أراد صدقة وقد عنانا . فما سمعه قال : وأنا أيضاً والله لتملنه ، قال : إنا قد اتبعناه الآن ، ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شئ يصير أمره، قال : وقد أردت أن تسلفني سلفاً ، قال : فما ترهنني ؟ قال : ما تريد . قال : ترهنني نسائكم ؟ قالت : أنت أجمل العرب ، أنرهنك نسائنا ؟ قال : ترهنوني أولادكم ؟ قال : يسب ابن أحدنا فيقال : رهن في وسقين من تمر . ولكن نرهنك اللأمة ـ يعني السلاح ـ قال : فنعم : وواعده أن يأتيه بالحارث وأبي عبس بن جبر وعباد بن بشر . قال : فجاءوا فدعوه ليلاً فنزل إليهم ـ قال سفيان قال غير عمرو : قالت له أمرأته : إني أسمع صوتاً كأنه صوت دم ، قال : إنما هذا محمد بن مسلمة ورضيعه وأبو نائلة إن الكريم لو دعى إلى طعنة ليلاً لأجاب ، قال محمد إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه ، فإذا استمكنت منه فدونكم قال : فلما نزل وهو متوشح . فقالوا : نجد منك ريح الطيب ، قال : نعم ، تحتى فلانة أعطر نساء العرب ، قال : فتأذن لي أن أشتم منه ؟ قال : نعم فشم ، فتناول فشم ، ثم قال : أتأذن لي أن أعود ؟ قال : فاستمكن من رأسه . ثم قال : دونكم . قال : فقتلوه - .
وفي قصة عمر : بيان أن المنافق المغموض بالنفاق إذا أظهر نفاقه قتل ، كما في الصحيحين وغيرهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ترك قتل من أظهر نفاقه منهم تأليفاً للناس ، فإنه قال : - لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه - فصلوات الله وسلامه عليه .