ابن تيمية : كلامه على القدر
 

قال شيخ الإسلام رحمه الله : لما ذكر ما وقع من عبد الله بن أبي في غزوة أحد قال : فلما انخذل يوم أحد وقال : يدع رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان ؟ أو كما قال ... انخذل معه خلق كثير ، كان كثير منهم لم ينافق قبل ذلك . فأولئك كانوا مسلمين وكان معهم إيمان ، هو الضوء الذي ضرب الله به المثل . فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق لماتوا على الإسلام، ولم يكونوا من المؤمنين حقاً الذين امتحنوا فثبتوا على المحنة ، ولا من المنافقين حقاً الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة . وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم إذا ابتلوا بالمحنة التي يتضعضع فيها أهل الإيمان ينقص إيمانهم كثيراً وينافق كثير منهم . ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالباً ، وقد رأينا من هذا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة . وإذا كانت العافية ، أو كان المسلمون ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمين ، وهم مؤمنون بالرسل باطناً وظاهراً ، لكنه إيمان لا يثبت على المحنة ، ولهذا يكثر في هؤلاء ترك الفرائض وانتهاك المحارم وهؤلاء من الذين قالوا : آمنا ، فقيل لهم : - لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم - أي الإيمان المطلق الذي أهله هم المؤمنون حقاً ، فإن هذا هو الإيمان إذا أطلق في كتاب الله تعالى ، كما دل عليه الكتاب والسنة، فلم يحصل لهم ريب عند المحن التي تقلقل الإيمان في القلوب ، انتهى .
قوله : وقد رأينا من هذا ورأى غيرنا ما فيه عبرة .
قلت : ونحن كذلك رأينا من ذلك ما فيه عبرة عند غلبة العدو ، من إعانتهم العدو على المسلمين ، والطعن في الدين ، وإظهار العداوة والشماتة ، وبذل الجهد في إطفاء نور الإسلام ، وذهاب أهله ، وغير ذلك مما يطول ذكره . والله المستعان .
قوله : في الصحيح أي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : احرص ـ الحديث .
اختصر المصنف رحمه الله هذا الحديث ، وتمامه : عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : - المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير . اخرص على ما ينفعك - أي في معاشك ومعادك . والمراد الحرص على فعل الأسباب التي تنفع العبد في دنياه وأخراه مما شرعه الله تعالى لعباده من الأسباب الواجبة والمستحبة والمباحة ، ويكون العبد في حال فعله السبب مستعيناً بالله وحده دون كل ما سواه ليتم له سببه وينفعه . ويكون اعتماده على الله تعالى في ذلك ، لأن الله تعالى هو الذي خلق السبب والمسبب ، ولا ينفعه سبب إلا إذا نفعه الله به ، فيكون اعتماده في فعل السبب على الله تعالى . ففعل السبب سنة ، والتوكل على الله توحيد . فإذا جمع بينهما تم له مراده بإذن الله .
قوله : ولا تعجزن النون نون التأكيد الخفيفة . نهاه صلى الله عليه وسلم عن العجز وذمه ، والعجز مذموم شرعاً وعقلاً ، وفي الحديث : - الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني - فأرشده صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إذا أصابه ما يكره أن لا يقول : لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا . ولكن يقول : قدر الله وما شاء فعل ، أي هذا قدر الله والواجب التسليم للقدر ، والرضى به ، واحتساب الثواب عليه .
قوله : فإن لو تفتح عمل الشيطان أي ما فيه من التأسف على ما فات والتحسر ولوم القدر ، وذلك ينافي الصبر والرضى ، والصبر واجب ، والإيمان بالقدر فرض ، قال تعالى : # 57 : 22 ، 23 # - ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور - .
قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه : الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد وقال الإمام أحمد : ذكر الله الصبر في تسعين موضعاً من القرآن .
قال شيخ الإسلام رحمه الله ـ وذكر حديث الباب بتمامه ـ ثم قال في معناه : لا تعجز عن مأمور ، ولا تجزع عن مقدور ، ومن الناس من يجمع كلا الشرين ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحرص على النافع والاستعانة بالله ، والأمر يقتضي الوجوب ، وإلا فالاستحباب ، ونهى عن العجز وقال : إن الله يلوم على العجز والعاجز ضد الذين هم ينتصرون فالأمر بالصبر والنهي عن العجز مأمور به في مواضع كثيرة ، وذلك لأن الإنسان بين أمرين : أمر أمر بفعله ، فعليه أن يفعله ويحرص عليه ويستعين الله ولا يعجز ، وأمر أصيب به من غير فعله . فعليه أن يصبر عليه ولا يجزع منه ، ولهذا قال بعض العقلاء ـ ابن المقفع أو غيره ـ الأمور أمران : أمر فيه حيلة فلا تعجز عنه ، وأمر لا حيلة فيه فلا تجزع منه . وهذا في جميع الأمور لكن عند المؤمن : الذي فيه حيلة هو ما أمره الله به ، وأحبه له . فإن الله لم يأمره إلا بما فيه حيلة له ، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، وقد أمره بكل خير له فيه حيلة . وما لا حيلة له فيه ما أصيب به من غير فعله . واسم الحسنات والسيئات يتناول قسمين : فالأفعال مثل قوله تعالى : # 6 : 160 # - من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها - ومثل قوله تعالى : # 17 : 7 # - إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها - ومثل قوله تعالى : # 42 : 40 # - وجزاء سيئة سيئة مثلها - ومثل قوله تعالى : # 2 : 81 # - بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته - إلى آيات كثيرة من هذا الجنس والله أعلم .
والقسم الثاني : ما يجري على العبد بغير فعله من النعم والمصائب . كما قال تعالى : # 4 : 79 # - ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك - والآية قبلها ، فالحسنة في هاتين الآيتين : النعم، والسيئة : المصائب ، هذا هو الثاني من القسمين .
وأظن شيخ الإسلام رحمه الله ذكره في هذا الموضع ولعل الناسخ أسقطه والله أعلم .
ثم قال رحمه الله : فإن الإنسان ليس مأموراً أن ينظر إلى القدر عندما يؤمر به من الأفعال ولكن عندما يجري عليه المصائب التي لا حيلة له في دفعها ، فما أصابك بفعل الآدميين أو بغير فعلهم فاصبر عليه وارض وسلم . قال تعالى : # 64 : 11 # - ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه - ولهذا قال آدم لموسى : أتلومني على أمر قدره الله على قبل أن أخلق بأربعين سنة ؟ فحج أدم موسى لأن موسى قال له : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة فلامه على المصيبة التي حصلت بسبب فعله ، لا لأجل كونها ذنباً . وأما كونها لأجل الذنب ـ كما يظنه طوائف من الناس ـ فليس مراداً بالحديث ، فإن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب . والتائب من الذنب كمن لا ذنب له . ولا يجوز لوم التائب باتفاق الناس ، انتهى .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله : فتضمن هذا الحديث أصولاً عظيمة من أصول الإيمان . أحدها : أن الله سبحانه موصوف بالمحبة وأنه يحب حقيقة . الثاني : أنه يحب مقتضى أسمائه وصفاته وما يوافقها ، فهو القوي ويجب المؤمن القوي ، وهو وتر ويحب الوتر ، وجميل يحب الجمال ، وعليم يحب العلماء ، ونظيف يحب النظافة ، ومؤمن يحب المؤمنين ، ومحسن يحب المحسنين ، وصابر يحب الصابرين ، وشاكر يحب الشاكرين .
ومنها أن محبته للمؤمنين تتفاضل ، فيحب بعضهم أكثر من بعض .
ومنها : أن سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده ، والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع . فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محموداً وكماله كله في مجموع هذين الأمرين: أن يكون حريصاً وأن يكون حرصه على ما ينتفع به، فإن حرص على ما لا ينفعه أو فعل ما ينفعه من غير حرص فإنه من الكمال بقدر ما فاته من ذلك ، فالخير كله في الحرص على ما ينفع .
ولما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئته وتوفيقه أمره أن يستعين بالله ليجتمع له مقام : - إياك نعبد وإياك نستعين - فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله تعالى . ولا يتم إلا بمعونته فأمره أن يعبده وأن يستعين به . فالحريص على ما ينفعه ، المستعين بالله ضد العاجز ، فهذا إرشاد له قبل وقوع المقدور إلى ما هو أعظم أسباب حصوله ، وهو الحرص عليه مع الاستعانة بمن أزمة الأمور بيده ومصدرها منه ومردها إليه .
فإن فاته ما لم يقدر له فله حالتان : عجز . وهو مفتاح عمل الشيطان ، فيلقيه العجز إلى لو ولا فائدة من لو ههنا بل هي مفتاح اللوم والعجز والسخط والأسف والحزن ، وذلك كله من عمل الشيطان فنهاه صلى الله عليه وسلم عن افتتاح عمله بهذا الافتتاح ، وأمره بالحالة الثانية . وهي النظر إلى القدر وملاحظته وأنه لو قدر له لم يفته ولم يغلبه عليه أحد ، فلم يبق له ها هنا أنفع من شهود القدر ومشيئة الرب النافذة التي توجب وجوب المقدور ، وإن انتفت امتنع وجوده ، ولهذا قال : فإن غلبك أمر فلا تقل : لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين : حال حصول المطلوب ، وحالة فواته ، فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغنى عنه العبد أبداً ، بل هو أشد إليه ضرورة ، وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار والقيام بالعبودية ظاهراً وباطناً في حالتي المطلوب وعدمه ، وبالله التوفيق .