قول الله - يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية
 

قوله : باب
قول الله تعالى : # 3 : 154 # - يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله - الآية .
وهذه الآية ذكرها الله في سياق قوله تعالى في ذكر وقعة أحد - ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم - يعني أهل الإيمان والثبات والتوكل الصادق ، وهم الجازمون بأن الله تعالى ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم وينجز له مأموله ، ولهذا قال: - وطائفة قد أهمتهم أنفسهم - يعني لا يغشاهم النعاس من الجزع والقلق والخوف - يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية - كما قال تعالى : # 48 : 12 # - بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوماً بوراً - وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة ظنوا أنها الفيصلة ، وأن الإسلام قد باد وأهله . وهذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الأمور الشنيعة ، عن ابن جريج قال : قيل لعبد الله بن أبي : قتل بنو الخزرج اليوم ؟ قال : وهل لنا من الأمور من شئ ؟ .

قول بن القيم : في ظن السوء بالله والذين يظنونه
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على ما تضمنته وقعة أحد : وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله سبحانه بأنه لا ينصر رسوله ، وأن أمره سيضمحل وأنه يسلمه للقتل ، وفسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضاء الله وقدره ولا حكمة له فيه . ففسر بإنكار الحكمة . وإنكار القدر ، وإنكار أن يتم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يظهره على الدين كله . وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح حيث يقول : # 48 : 6 # - ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيراً - وإنما كان هذا هو ظن السوء وظن الجاهلية ـ وهو المنسوب إلى أهل الجهل ـ وظن غير الحق ، لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وذاته المبرأة من كل عيب وسوء ، وخلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرده بالربوبية والإلهية ، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه ، وبكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم . ولجنده بأنهم هم الغالبون . فمن ظن به أنه لا ينصر رسله ولا يتم أمره ولا يؤيده ويؤيد حزبه ويعليهم ويظفرهم بأعدائهم ويظهرهم ، وأنه لا ينصر دينه وكتابه ، وأنه يديل الشرك على التوحيد ، والباطل على الحق إدالة مستقرة ، يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً . فقد ظن بالله ظن السوء ، ونسبه إلى خلاف ما يليق بجلاله وكماله وصفاته ونعوته ، فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك وتأبى أن يذل حزبه وجنده ، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به . فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ولا عرف صفاته وكماله . وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضاءه وقدره . فما عرفه ولاعرف ربوبيته وملكه وعظمته . وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحق الحمد عليها ، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمته وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فواتها . وأن تلك الأسباب المكروهة له المفضية إليها ، لا يخرج تقديرها عن الحكمة ، لإفضائها إلى ما يحب وإن كانت مكروهة له ، فما قدرها سدى ولا شاءها عبثاً ولا خلقها باطلاً : # 48 : 27 # - ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار - .
وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم ، وفيما يفعله بغيره ، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وعرف أسمائه وصفاته ، وعرف موجب حكمته وحمده . فمن قنط من رحمته وأيس من روحه فقد ظن به ظن السوء . ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم ويسوى بينهم وبين أعدائه فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أن يترك خلقه سدى معطلين عن الأمر والنهي ، لا يرسل إليهم رسله ولا ينزل عليهم كتبه بل يتركهم هملاً كالأنعام فقد ظن به ظن السوء ، ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازى المحسن فيها بإحسانه والمسيء بإساءته ، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله ، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصاً لوجهه على امتثال أمره ، ويبطله عليه بلا سبب من العبد ، وأنه يعاقب بما لا صنع له فيه ولا اختيار له ولا قدرة ولا إرادة له في حصوله ، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به ، أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله ويجريها على أيديهم ليضلوا بها عباده ، وأنه يحسن منه كل شئ حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته فيخلده في الجحيم في اسفل السافلين ، وينعم من استنفذ عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفعه إلى أعلى عليين ، وكلا الأمرين في الحسن عنده سواء ، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق ، وإلا فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما وحسن الآخر . فقد ظن به ظن السوء .
ومن ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل ، وترك الحق لم يخبر به وإنما رمز إليه رموزاً بعيدة ، وأشار إليه إشارة ملغزة ولم يصرح به وصرح دائماً بالتشبيه والتمثيل والباطل ، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه ، وتأويله على غير تأويله ، ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان ، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه . بل أراد منهم ألا يحملوا كلامه على ما يعرفونه من خطابهم ولغتهم ، مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به ، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل فلم يفعل ، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان . فقد ظن به ظن السوء ، فإنه إن قال : إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه فقد ظن بقدرته العجز ، وإن قال إنه قادر ولم يبين ، وعدل عن البيان وعن التصريح بالحق إلى ما يوهم ، بل يوقع في الباطل المحال والاعتقاد الفاسد . فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء .
ومن ظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله . وأن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم وأما كلام الله فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال وظاهر كلام المتهوكين والحيارى هو الهدى والحق فهذا أسوأ الظن بالله .
فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء ومن الظانين بالله غير الحق ظن الجاهلية .
ومن ظن به أن يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه ، فقد ظن بالله ظن السوء .
ومن ظن أنه كان معطلاً من الأزل إلى الأبد عن أن يفعل ، ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل ثم صار قادراً عليه بعد أن لم يكن قادراً ، فقد ظن به ظن السوء .
ومن ظن أنه لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم الموجودات ، ولا عدد السموات ولا النجوم ، ولا بني آدم وحركاتهم وأفعالهم ، ولا يعلم شيئاً من الموجودات في الأعيان ، فقد ظن بهم ظن السوء .
ومن ظن به أنه لا سمع له ولا بصر ولا علم ولا إرادة ، ولا كلام يقوم به ، وأنه لا يكلم أحداً من الخلق ولا يتكلم أبداً ، ولا قال ، ولا يقول ، ولا له أمر ولا نهي يقوم به ، فقد ظن بهم ظن السوء .
ومن ظن به أنه ليس فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه ، وأن نسبة ذاته إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل سافلين ، وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها ، وأنه أسفل كما أنه أعلى ، وأنه من قال : سبحان ربي الأسفل كان كمن قال : سبحان ربي الأعلى . فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه .
ومن ظن أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان ، ويحب الفساد كما يحب الإيمان والبر والطاعة والإصلاح ز فقد ظن به ظن السوء .
ومن ظن به أنه لا يحب ولا يرضى ، ولا يغضب ولا يسخط ، ولا يوالي ولا يعادي ، ولا يقرب من أحد من خلقه ، ولا يقرب منه أحد . وأن ذوات الشياطين في القرب من ذاته كذوات الملائكة المقربين وأوليائه المفلحين . فقد ظن به ظن السوء .
ومن ظن به أنه يسوي بين المتضادين ، أو يفرق بين المتساويين من كل وجه ، أو يحبط طاعات العمر المديد الخالصة الصواب بكبيرة واحدة تكون بعدها ، فيخلد فاعل تلك الطاعات في الجحيم أبد الآبدين بتلك الكبيرة ، ويحبط بها جميع طاعاته ويخلده في العذاب كما يخلد من لم يؤمن به طرفة عين ، واستنفذ ساعات عمره في مساخطة ومعاداة رسله ودينه ، فقد ظن به ظن السوء .
ومن ظن به أن له ولداً أو شريكاً ، أو أن أحداً يشفع عنده بدون إذنه ، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه ، وأنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه ، ويتوصلون بهم إليه ، ويجعلونهم وسائط بينه وبينهم ، فيدعونهم ويخافونهم ويرجونهم فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه .
ومن ظن به أنه ينال ما عنده بمعصيته ومخالفته ، كما يناله بطاعته والتقرب إليه ، فقد ظن به خلاف حكمته وخلاف موجب أسمائه وصفاته وهو من ظن السوء .
ومن ظن به أنه إذا ترك شيئاً من أجله لم يعوضه خيراً منه ، أو من فعل شيئاً لأجله لم يعطه أفضل منه ، فقد ظن به ظن السوء .
ومن ظن به أنه يغضب على عبده ويعاقبه ويحرمه بغير جرم ولا سبب من العبد إلا بمجرد المشيئة ومحض الإرادة فقد ظن به ظن السوء .
ومن ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة وتضرع إليه وسأله واستعان به وتوكل عليه أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله ، فقد ظن به ظن السوء . وظن به خلاف ما هو أهله .
ومن ظن أنه يثيبه إذا عصاه كما يثيبه إذا أطاعه ، وسأله ذلك في دعائه ، فقد ظن به خلاف ما تقتضيه حكمته وحمده ، وخلاف ما هو أهله وما لا يفعله .
ومن ظن به أنه إذا أغضبه وأسخطه وأوضع في معاصيه ثم اتخذ من دونه أولياء ودعا من دونه ملكاً أو بشراً حياً أو ميتاً يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه ويخلصه من عذابه ، فقد ظن به ظن السوء .
فأكثر الخلق بل كلهم ـ إلا من شاء الله ـ يظنون بالله غيره الحق وظن السوء ، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ ، وأنه يستحق فوق ما شاءه الله وأعطاه . ولسان حاله يقول : ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه ونفسه تشهد عليه بذلك ، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به . ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة طواياها رأي ذلك فيها كامناً كمون النار في الزناد ، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده ، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتاً وتعتباً على القدر وملامة له واقتراحاً عليه خلاف ما جرى به ، وإنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا . فمستقل ومستكثر ، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك ؟
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجياً
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع ، وليتب إلى الله ويستغفره في كل وقت من ظنه بربه ظن السوء ، وليظن السوء بنفسه التي هي مادة كل سوء ومنبع كل شر ، المركبة على الجهل والظلم . فهي أولى بظن السوء من أحكام الحاكمين ، وأعدل العادلين ، وأرحم الراحمين الغني الحميد ، الذي له الغني التام ، والحمد التام ، والحكمة التامة ، المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه ، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه وصفاته كذلك وأفعاله كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل ، وأسماؤه كلها حسنى .
فلا تظنن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل
ولا تظنن بنفسك قط خيراً فكيف بظالم جان جهول
وقل : يا نفس مأوى كل سوء أترجو الخير من ميت بخيل
وظن بنفسك السوأى تجدها كذاك وخيرها كالمستحيل
وما بك من تقي فيها وخير فتلك مواهب الرب الجليل
وليس لها ولا منها ولكن من الرحمن فاشكر للدليل
قوله : - الظانين بالله ظن السوء - قال ابن جرير في تفسيره - ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء - الظانين بالله أنه لن ينصرك وأهل الإيمان بك على أعدائك ، ولن يظهر كلمته فيجعلها العليا على كلمة الكافرين به . وذلك كان السوء من ظنونهم التي ذكرها الله في هذا الموضع . يقول تعالى ذكره : على المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الذين ظنوا هذا الظن دائرة السوء . يعني دائرة العذاب تدور عليهم به . واختلف القراء في قراءة ذلك : فقرأته عامة قراء الكوفة دائرة السوء بفتح السين . وقرأ بعض قراء البصرة دائرة السوء بالضم . وكان الفراء يقول : الفتح أفشى في السين . وقل ما تقول العرب دائرة السوء بضم السين .
وقوله : - وغضب الله عليهم ولعنهم - يعني ونالهم الله بغضب منه ولعنهم . يقول : وأبعدهم فأقصاهم من رحمته - وأعد لهم جهنم - يقول : وأعد لهم جهنم يصلونها يوم القيامة - وساءت مصيراً - يقول : وساءت جهنم منزلاً يصير إليه هؤلاء المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات .
وقال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى : - ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء - أي يتهمون الله في حكمه ويظنون بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية . ولهذا قال تعالى : - عليهم دائرة السوء - وذكر في معنى الآية الأخرى نحواً مما ذكره ابن جرير رحمهما الله تعالى :
قوله : قال ابن القيم رحمه الله تعالى الذي ذكره المصنف في المتن قدمته لاندراجه في كلامه الذي سقته من أوله إلى آخره.