ما جاء في منكري القدر
 

قوله : باب
( ما جاء في منكري القدر )
أي من الوعيد الشديد ونحو ذلك .
أخرج أبو داود عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : - القدرية مجوس هذه الأمة ، إن مرضوا فلا تعودوهم . وإن ماتوا فلا تشهدوهم - .
وعن عمر مولى غفرة عن رجل من الأنصار عن حذيفة ـ وهو ابن اليمان ـ رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : - لكل أمة مجوس ، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون : لا قدر ، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته ومن مرض منهم فلا تعودوه ، وهم شيعة الدجال ، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال - .
قوله : وقول ابن عمر : والذي نفسي بيده ... إلخ حديث ابن عمر أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن يحيى بن يعمر قال : كان أول من تكلم في القدر بالبصرة معبد الجهني ، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين ، أو معتمرين . فقلنا : لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر ؟ فوفق الله تعالى لنا عبد الله بن عمر داخلاً في المسجد ، فاكتنفته أنا وصاحبي ، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلى ، فقلت : أبا عبد الرحمن ، إنه قد ظهر قبلنا أناس يقرآون القرآن ، ويتقفرون العلم يزعمون أن لا قدر ، وأن الأمر أنف ، فقال : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني منهم بريء ، وأنهم مني برآء . والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه ، حتى يؤمن بالقدر . ثم قال حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : - بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد . حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه . وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً . قال : صدقت . فعجبنا له يسأله ويصدقه . قال : فأخبرني عن الإيمان . قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره ، قال : صدقت . قال : فأخبرني عن الإحسان ، قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . قال : فأخبرني عن الساعة ، قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل . قال : فأخبرني عن أماراتها قال : أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان . قال فانطلق . فلبث ثلاثاً ، وفي رواية ملياً ، ثم قال يا عمر أتدري من السائل ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنه جبريل أتاكم يعلكم دينكم - .
ففي هذا الحديث أن الإيمان بالقدر من أصول الإيمان الستة المذكورة ، فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره فقد ترك أصلاً من أصول الدين وجحده ، فيشبه من قال الله فيهم : # 2 : 85 # - أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض - الآية .
قوله : وعن عبادة قد تقدم ذكره في باب فضل التوحيد ، وحديثه هذا رواه أبو داود ورواه الإمام أحمد بكماله قال حدثنا الحسن بن سوار حدثنا ليث عن معاوية عن أيوب بن زياد ، حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة ثنى أبي قال : دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت ، فقلت : يا أبتاه أوصني واجتهد لي ، فقال : أجلسوني . قال : يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان ، ولن تبلغ حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره ، قلت : يا أبتاه فكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره ؟ قال : تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ، يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : - إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة . يا بني ، إن مت ولست على ذلك دخلت النار - . ورواه الترمذي بسنده المتصل إلى عطاء بن أبي رباح عن الوليد بن عبادة عن أبيه ، وقال : حسن صحيح وغريب .
وفي هذا الحديث ونحوه : بيان شمول علم الله تعالى وإحاطته بما كان ويكون في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى: # 65 : 12 # - الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما - .
وقد قال الإمام أحمد رحمه الله لما سئل عن القدر قال : القدر قدرة الرحمن واستحسن ابن عقيل هذا من أحمد رحمه الله .
والمعنى : أنه لا يمنع عن قدرة الله شئ . ونفاة القدر قد جحدوا كمال قدرة الله تعالى فضلوا سواء السبيل . وقد قال بعض السلف : ناظروهم بالعلم ، فإن أقروا به خصموا وإن جحدوه كفروا .
قوله : وفي المسند وسنن أبي داود عن ابن الديلمي وهو أبو بسر ـ بالسين المهملة ، وبالباء المضمومة . ويقال أبو بشر ـ بالشين المعجمة وكسر الباء ـ وبعضهم صحح الأول . وإسمه عبد الله بن فيروز . ولفظ أبي داود قال : لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه ، عذبهم وهو غير ظالم لهم . ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم . ولو أنفقت مثل أحد ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر ، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار . قال : فأتيت عبد الله بن مسعود فقال مثل ذلك ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك ، قال : ثم أتيت زيد بن ثابت ، قال : فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وأخرجه ابن ماجه .
وقال العماد ابن كثير رحمه الله : عن سفيان عن منصور عن ربعي بن حراش عن رجل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : - لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر خيره وشره - وكذا رواه الترمذي عن النضر بن شميل عن شعبة عن منصور به . ورواه من حديث أبي داود الطياليسي عن شعبة عن ربعي عن على فذكره .
وقد ثبت في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن وهب وغيره عن أبي هانئ الخولاني عن أبي عبد الرحمن الحبلى عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : - إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ـ زاد ابن وهب ـ : وكان عرشه على الماء - رواه الترمذي وقال : حديث حسن غريب .
وكل هذه الأحاديث وما في معناها فيها الوعيد الشديد على عدم الإيمان بالقدر وهي الحجة على نفاة القدر من المعتزلة وغيرهم . ومن مذهبهم : تخليد أهل المعاصي في النار . وهذا الذي اعتقدوه من أكبر الكبائر وأعظم المعاصي .
وفي الحقيقة إذا اعتبرنا إقامة الحجة عليهم بما تواترت به نصوص الكتاب والسنة من إثبات القدر فقد حكموا على أنفسهم بالخلود في النار إن لم يتوبوا . وهذا لازم لهم على مذهبهم هذا ، وقد خالفوا ما تواترت به أدلة الكتاب والسنة من إثبات القدر ، وعدم تخليد أهل الكبائر من الوحدين في النار .