وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لقواد جيوشه بأن لا يغلوا ولا يغدروا ولا يقتلوا وليداً إلخ
 

قوله : - قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى - فيه من الفقه تأمير الأمراء ووصيتهم .
قال الحربي : السرية : الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها . والجيش ما كان أكثر من ذلك . وتقوى الله : التحرز بطاعته من عقوبته .
قلت : وذلك بالعمل بما أمر الله به والإنتهاء عما نهى عنه .
قوله : ومن معه من المسلمين خيراً أي ووصاه بمن معه أن يفعل معهم خيراً : من الرفق بهم ، والإحسان إليهم ، وخفض الجناح لهم ، وترك التعاظم عليهم .
قوله : اغزوا باسم الله هذا أي اشرعوا في فعل الغزو مستعينين بالله مخلصين له . قلت : فتكون الباء في بسم الله هنا للاستعانة والتوكل على الله .
قوله : قاتلوا من كفر بالله هذا العموم يشمل جميع أهل الكفر المحاربين وغيرهم . وقد خصص منهم من له عهد والرهبان والنسوان ، ومن لم يبلغ الحلم ، وقد قال متصلاً به : ولا تقتلوا وليداً وإنما نهى عن قتل الرهبان والنسوان لأنه لا يكون منهم قتال غالباً . وإن كان منهم قتال أو تدبير قتلوا .
قلت : وكذلك الذراري والأولاد .
قوله : ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا الغلو : الأخذ من الغنيمة من غير قسمتها . الغدر نقض العهد . والتمثيل هنا التشويه بالقتيل ، كقطع أنفه وأذنه والعبث به . ولا خلاف في تحريم الغلو والغدر . وفي كراهية المثلة .
قوله : وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال أو خصال الرواية بالشك وهو من بعض الرواة . ومعنى الخلال والخصال واحد .
قوله : فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم قيدناه عمن يوثق بعلمه وتقييده بنصب أيتهنعلى أن يعمل فيها أجابوك لا على إسقاط حرف الجر . وما زائدة . ويكون تقدير الكلام : فإلى أيتهن أجابوك فاقبل منهم . كما تقول : جئتك إلى كذا وفي كذا . فيعدى إلى الثاني بحرف جر .
قلت : فيكون في ناصب أيتهن وجهان : ذكرهما الشارح . الأول : منصوب على الاشتغال . والثاني : على نزع الخافض .
قوله : ثم ادعهم إلى الإسلام كذا وقعت الرواية في جميع نسخ كتاب مسلم ثم ادعهم بزيادة ثم والصواب إسقاطها . كما روى في غير كتاب مسلم . كمصنف أبي داود ، وكتاب الأموال لأبي عبيد . لأن ذلك هو إبتداء تفسير الثلاث خصال .
وقوله : ثم ادعهم إلى التحول إلى دار المهاجرين يعني المدينة . وكان في أول الأمر وجوب الهجرة إلى المدينة على كل من دخل في الإسلام . وهذا يدل على أن الهجرة واجبة على كل من آمن من أهل مكة وغيرهم .
قوله : فإن أبوا أن يتحولوا يعني أن من أسلم ولم يهاجر ولم يجاهد لا يعطي من الخمس ولا من الفيء شيئاً . وقد أخذ الشافعي رحمه الله بالحديث في الأعراب ، فلم ير لهم من الفيء شيئاً . إنما لهم الصدقة المأخوذة من أغنيائهم فترد على فقرائهم. كما أن أهل الجهاد وأجناد المسلمين لا حق لهم في الصدقة عنده ، ومصرف كل مال في أهله . وسوى مالك رحمه الله وأبو حنيفة رحمه الله بين المالين ، وجوزا صرفهما للضعيف .
قوله : فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فيه حجة لمالك وأصحابه والأوزاعي في أخذ الجزية من كل كافر : عربياً كان أو غيره ، كتابياً كان أو غيره . وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنها تؤخذ من الجميع إلا من مشركي العرب ومجوسهم . وقال الشافعي لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجماً . وهو قول الإمام أحمد في ظاهر مذهبه ، وتؤخذ من المجوس .
قلت : لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها منهم . وقال : - سنوا بهم سنة أهل الكتاب - .
وقد اختلفوا في القدر المفروض من الجزية : فقال مالك : أربعة دنانير على أهل الذهب ، وأربعون درهماً على أهل الورق . وهل ينقص منها الضعيف أو لا ؟ قولان . قال الشافعي : فيه دينار على الغني والفقير . وقال أبو حنيفة رحمه الله ، والكوفيون : على الغني ثمانية وأربعون درهماً والوسط أربعة وعشرون درهماً . والفقير اثنا عشر درهماً .
وهو قول أحمد بن حنبل رحمه الله .
قال يحيى بن يوسف الصرصري الحنبلي رحمه الله :
وقاتل يهودا والنصارى وعصبة المجـ ـوس ، فإن هم سلموا الجزية أصدد
على الأدون اثني عشر درهماً افرضن وأربعة من بعد عشرين زد
لأوسطهم حالاً ومن كان موسراً ثمانية مع أربعين لتنقد
وتسقط عن صبيانهم ونسائهم وشيخ لهم فان وأعمى ومقعد
وذي الفقر والمجنون أو عبد مسلم ومن وجبت منهم عليه فيهتدي
وعند مالك وكافة العلماء على الرجال الأحرار البالغين العقلاء دون غيرهم ، وإنما تؤخذ ممن كان تحت قهر المسلمين لا ممن نأى بداره ، ويجب تحويلهم إلى بلاد المسلمين أو حربهم .
قوله : وإذا حاصرت أهل حصن الكلام إلى آخره فيه حجة لمن يقول من الفقهاء وأهل الأصول : إن المصيب في مسائل الإجتهاد واحد . وهو المعروف من مذهب مالك وغيره ووجه الاستدلال به أنه صلى الله عليه وسلم قد نص على أن الله تعالى قد حكم حكماً معيناً في المجتهدات . فمن وافقه فهو المصيب ومن لم يوافقه فهو المخطىء .
قوله : وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه : الحديث الذمة العهد ، وتخفر تنقض يقال : أخفرت الرجل إذا نقضت عهده ، وخفرته : أجرته ، ومعناه أنه خاف من نقض من لم يعرف حق الوفاء بالعهد ، كجملة الأعراب : فكأنه يقول : إن وقع نقض من متعد معتد كان نقض عهد الخلق أهون من نقض عهد الله تعالى . والله أعلم .
قوله : وقول نافع وقد سئل عن الدعوة قبل القتال ، ذكر فيه أن مذهب مالك يجمع بين الأحاديث في الدعوة قبل القتال ، قال وهو أن مالكاً قال : لا يقاتل الكفار قبل أن يدعوا ولا تلتمس غرتهم إلا أن يكونوا قد بلغتهم الدعوة . فيجوز أن تلتمس غرتهم وهذا الذي صار إليه مالك هو الصحيح لأن فائدة الدعوة أن يعرف العدو أن المسلمين لا يقاتلون للدنيا ولا للعصبية وإنما يقاتلون للدين فإذا علموا بذلك أمكن أن يكون ذلك سبباً مميلاً لهم إلى الإنقياد إلى الحق ، بخلاف ما إذا جهلوا مقصود المسلمين . فقد يظنون أنهم يقاتلون للملك وللدنيا فيزدادون عتواً وبغضاً . والله أعلم .