لا يشتشفع بالله على خلقه
 

قوله : باب
( لا يستشفع بالله على خلقه )
وذكر الحديث وسياق أبي داود في سننه أتم مما ذكره المصنف رحمه الله ولفظه : عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال : - أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال : يا رسول الله ، جهدت الأنفس ، وضاعت العيال ، ونهكت الأموال ، وهلكت الأنعام ، فاستسق الله لنا ، فإنا نستشفع بك على الله ، ونستشفع بالله عليك ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويحك ، أتدري ما تقول ؟ وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ، ثم قال : ويحك ، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه ، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك أتدري ما الله . إن عرشه على سمواته لهكذا ـ وقال بأصابعه مثل القبة عليه ـ وإنه ليئط به أطيط الرجل بالراكب - قال ابن بشار في حديثه : - إن الله فوق عرشه فوق سماواته - .
قال الحافظ الذهبي : رواه أبو داود بإسناد حسن عنده في الرد على الجهمية من حديث محمد بن إسحاق بن يسار .
قوله : ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه فإنه تعالى رب كل شئ ومليكه ، والخير كله بيده ، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ، ولا راد لما قضى ، وما كان الله ليعجزه من شئ في السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً . إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون . والخلق وما في أيديهم ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء وهو الذي يشفع الشافع إليه ، ولهذا أنكر على الأعرابي .
قوله : وسبح لله كثيراً وعظمه لأن هذا القول لا يليق بالخالق سبحانه وبحمده إن شأن الله أعظم من ذلك .
وفي هذا الحديث : إثبات علو الله على خلقه ، وأن عرشه فوق سماواته. وفيه تفسير الاستواء بالعلو كما فسره الصحابة والتابعون والأئمة ، خلافاً للمعطلة والجهمية والمعتزلة ومن أخذ عنهم ، كالأشاعرة ونحوهم ممن ألحد في اسماء الله وصفاته وصرفها عن المعنى الذي وضعت له ودلت عليه من إثبات صفات الله تعالى التي دلت على كماله جل وعلا ، كما عليه السلف الصالح والأئمة ومن تبعهم ممن تمسك بالسنة ، فإنهم أثبتوا ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله من صفات كماله على ما يليق بجلاله وعظمته إثباتاً بلا تمثيل ، وتنزيهاً بلا تعطيل .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في مفتاح دار السعادة ـ بعد كلام سبق فيما يعرف العبد بنفسه وبربه من عجائب مخلوقاته . قال بعد ذلك :
والثاني : أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة فتفتح له أبواب السماء ، فيجول في أقطارها وملكوتها وبين ملائكتها ، ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن فينظر سعته وعظمته وجلاله ومده ورفعته ، ويرى السماوات السبع والأرضين السبع بالنسة إليه كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، ويرى الملائكة حافين من حول العرش لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير ، والأمر ينزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها إلا ربها ومليكها ، فينزل الأمر بإحياء قوم وإماتة آخرين ، وإعزاز قوم إذلال آخرين ، وإنشاء ملك وسلب ملك ، وتحويل نعمة من محل إلى محل وقضاء الحاجات على إختلافها وتبيانها وكثرتها : من جبر كسير ، وإغناء فقير ، وشفاء مريض ، وتفريج كرب ، ومغفرة ذنب ، وكشف ضر ، ونصر مظلوم ، وهداية حيران ، وتعليم جاهل ، ورد آبق ، وأمان خائف ، وإجارة مستجير ، ومدد لضعيف ، وإغاثة لملهوف ، وإعانة لعاجز ، وانتقام من ظالم ، وكف لعدوان ، فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل ، والحكمة والرحمة ، تنفذ في أقطار العوالم ، لا يشغله سمع شئ منها عن سمع غيره ، ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلاف لغاتها وتبيانها واتحاد قوتها ، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ، ولا تنقص ذرة من خزائنه ، لا إله إلا هو العزيز الحكيم . فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقاً لهيئته خاشعاً لعظمته عانياً لعزته ، فيسجد بين يدي الملك الحق المبين ، سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد ، فهذا سفر القلب ، وهو في وطنه وداره ومحل ملكه ، وهذا من أعظم آيات الله وعجائب صنعه ، فياله من سفر ما أبركه وأروحه ، وأعظم ثمرته وربحه ، وأجل منفعته وأحسن عاقبته ، سفر هو حياة الأرواح ، ومفتاح السعادة ، وغنيمة العقول والألباب ، لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب . ا هـ كلامه رحمه الله .
وأما الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم في حياته فالمراد به استجلاب دعائه ، وليس خاصاً به صلى الله عليه وسلم بل كل حي يرجى أن يستجاب له فلا بأس أن يطلب منه أن يدعو للسائل بالمطالب الخاصة والعامة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر لما أراد أن يعتمر من المدينة لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك وأما الميت فإنما يشرع في حقه الدعاء له على جنازته على قبره وفي غير ذلك . وهذ هو الذي يشرع في حق الميت ، وأما دعاؤه فلم يشرع ، بل قد دل الكتاب والسنة على النهي والوعيد عليه ، كما قال تعالى : # 35 : 13 ، 14 # - والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم - فبين الله تعالى أن دعاء من لا يسمع ولا يستجيب شرك يكفر به المدعو يوم القيامة أي ينكره ويعادي من فعله ، كما في آية الأحقاف : # 46 : 6 # - وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين - فكل ميت أو غائب لا يسمع ولا يستجيب ولا ينفع ولا يضر . والصحابة رضي الله عنهم ، لا سيما أهل السوابق منهم كالخلفاء الراشدين ، لم ينقل عن أحد منهم ولا عن غيره أنهم أنزلوا حاجتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ، حتى في أوقات الجدب ، كما وقع لعمر رضي الله عنه لما خرج ليستسقي بالناس خرج بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يستسقي لأنه حي حاضر يدعو ربه فلو جاز أن يستسقي بأحد بعد وفاته لاستسقى عمر رضي الله عنه والسابقون الأولون بالنبي صلى الله عليه وسلم . وبهذا يظهر الفرق بين الحي والميت ، لأن المقصود من الحي دعاءه إذا كان حاضراً . فإنهم في الحقيقة إنما توجهوا إلى الله بطلب دعاء من يدعوه ويتضرع إليه ، وهم يدعون ربهم ، فمن تعدى المشروع إلى ما لا يشرع ضل وأضل . ولو كان دعاء الميت خيراً لكان الصحابة إليه أسبق وعليه أحرص ، وبهم أليق ، وبحقه أعلم وأقوم . فمن تمسك بكتاب الله نجا ، ومن تركه واعتمد على عقله هلك . وبالله التوفيق .