( باب بيان أن الاسناد من الدين وأن الرواية لا تكون الا عن الثقات )
 
وأن جرح الرواة بما هو فيهم جائز بل واجب وأنه ليس من الغيبة المحرمة بل من الذب عن الشريعة المكرمة قال رحمه الله ( حدثنا حسن بن الربيع قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب وهشام عن محمد وحدثنا فضيل عن هشام وحدثنا مخلد بن حسين عن هشام عن بن سيرين ) اما هشام أولا فمجرور معطوف على أيوب وهو هشام بن حسان القردوسى بضم القاف ومحمد هو بن سيرين والقائل وحدثنا فضيل وحدثنا مخلد هو حسن بن الربيع وأما فضيل فهو بن عياض أبو على الزاهد السيد الجليل رضى الله عنه وأما قوله ( وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم ) فهذه مسألة قد قدمناها في أول الخطبة وبينا المذاهب فيها قوله ( حدثنا إسحاق بن ابراهيم الحنظلى ) هوابن راهويه الامام المشهور حافظ أهل زمانه وأما الاوزاعى فهو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد
(1/84)

بضم المثناة من تحت وكسر الميم الشامى الدمشقى امام أهل الشام في زمنه بلا مدافعة ولا مخالفة كان يسكن دمشق خارج باب الفراديس ثم تحول إلى بيروت فسكنها مرابطا إلى أن مات بها وقد انعقد الاجماع على امامته وجلالته وعلو مرتبته وكمال فضيلته وأقاويل السلف كثيرة مشهورة في ورعه وزهده وعيادته وقيامه بالحق وكثرة حديثه وفقهه وفصاحته وأتباعه السنة واجلال أعيان أئمة زمانه من جميع الاقطار له واعترافهم بمزيته وروينا من غير وجه أنه أفتى في سبعين ألف مسألة وروى عن كبار التابعين وروى عنه قتادة والزهرى ويحيى بن أبى كثير وهم من التابعين وليس هو من التابعين وهذا من رواية الأكابر عن الاصاغر واختلفوا في الأوزاع التي نسب اليها فقيل بطن من حمير وقيل قرية كانت عند باب الفراديس من دمشق وقيل من اوزاع القبائل أى فرقهم وبقايا مجتمعة من قبائل شتى وقال أبو زرعة الدمشقى كان اسم الأوزاعى عبد العزيز فسمى نفسه عبد الرحمن وكان ينزل الاوزاع فغلب ذلك عليه وقال محمد بن سعد الأوزاع بطن من همدان والأوزاعي من أنفسهم والله اعلم قوله ( لقيت طاوسا فقلت حدثنى فلان كيت وكيت فقال ان كان مليا فخذ عنه ) قوله كيت وكيت هما بفتح التاء وكسرها لغتان نقلهما الجوهرى في صحاحه عن أبى عبيدة وقوله ان كان مليا يعنى ثقة ضابطا متقنا يوثق بدينه ومعرفته ويعتمد عليه كما يعتمد على معاملة الملى بالمال ثقة بذمته وأما قول مسلم ( وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمى ) فهذا الدارمى هو صاحب المسند المعروف كنيته أبو محمد السمرقندى منسوب إلى دارم بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم وكان أبو محمد الدارمى هذا أحد حفاظ المسلمين في زمانه قل من كان يدانيه في الفضيلة والحفظ قال رجاء بن مرجى ما أعلم أحدا هو أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم من الدارمى وقال أبو حاتم هو امام أهل زمانه وقال أبو حامد بن الشرقى انما أخرجت خراسان من أئمة الحديث خمسة
(1/85)

رجال محمد بن يحيى ومحمد بن إسماعيل وعبد الله بن عبد الرحمن ومسلم بن الحجاج وابراهيم بن أبى طالب وقال محمد بن عبد الله غلبنا الدارمى بالحفظ والورع ولد الدارمى سنة احدى وثمانين ومائة ومات سنة خمس وخمسين ومائتين رحمه الله قال مسلم رحمه الله ( حدثنا نصر بن على الجهضمى حدثنا الأصمعى عن بن أبى الزناد عن أبيه ) أما الجهضمى فبفتح الجيم واسكان الهاء وفتح الضاد المعجمة قال الامام الحافظ أبو سعد عبدالكريم بن محمد بن منصور السمعانى في كتابه الانساب هذه النسبة إلى الجهاضمة وهي محلة بالبصرة قال وكان نصر بن على هذا قاضى البصرة وكان من العلماء المتقنين وكان المستعين بالله بعث إليه ليشخصه للقضاء فدعاه أمير البصره لذلك فقال أرجع فأستخير الله تعالى فرجع إلى بيته نصف النهار فصلى ركعتين وقال اللهم ان كان لي عندك خير فاقبضنى اليك فنام فأنبهوه فاذا هو ميت وكان ذلك في شهر ربيع الآخر سنة خمسين ومائتين وأما الأصمعى فهو الامام المشهور من كبار أئمة اللغة والمكثرين والمعتمدين منهم واسمه عبد الملك بن قريب بقاف مضمومة ثم راء مفتوحة ثم ياء مثناة من تحت ساكنة ثم باء موحدة بن عبد الملك بن أصمع البصرى أبو سعيد نسب إلى جده وكان الاصمعى من ثقات الرواة ومتقنيهم وكان جامعا للغة والغريب والنحو والأخبار والملح والنوادر قال الشافعى رحمه الله تعالى ما رأيت بذلك العسكر أصدق لهجة من الاصمعى وقال الشافعي رحمه الله تعالى ايضا ما عبر أحد من العرب بأحسن من عبارة الأصمعي وروينا عن الاصمعى قال احفظ ست عشرة ألف أرجوزة وأما أبو الزناد بكسر الزاى فاسمه عبد الله بن ذكوان كنيته أبو عبد الرحمن وأبو الزناد لقب له كان يكرهه واشتهر به وهو قرشى مولاهم مدنى وكان الثورى يسمى أبا الزناد أمير المؤمنين في الحديث قال البخارى أصح أسانيد أبى هريرة
(1/86)

أبو الزناد عن الاعرج عن أبى هريرة وقال مصعب كان أبوالزناد فقيه أهل المدينة وأما بن أبى الزناد فهو عبد الرحمن ولأبى الزناد ثلاثة بنين يروون عنه عبد الرحمن وقاسم وأبو القاسم وأما مسعر فبكسر الميم وهو بن كدام الهلالى العامرى الكوفى أبو سلمة المتفق على جلالته وحفظه وإتقانه قوله مسعر فبكسر الميم وهو بن كدام الهلالي العامري الكوفي أبو سلمة المتفق على جلالته وحفظه واتقانه وقوله ( لا يحدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم الا الثقات ) معناه لايقبل الا من الثقات وأما قوله رحمه الله ( وحدثنى محمد بن عبد الله بن قهزاد من أهل مرو قال سمعت عبدان بن عثمان يقول سمعت بن المبارك يقول الاسناد من الدين ) ففيه لطيفة من لطائف الاسناد الغريبة وهو أنه اسناد خرسانى كله من شيخنا أبى إسحاق ابراهيم بن عمر بن مضر إلى آخره فانى قد قدمت ان الاسناد من شيخنا إلى مسلم خراسانيون نيسابوريون وهؤلاء الثلاثة المذكورون أعنى محمدا وعبدان وبن المبارك خراسانيون مروزيون وهذا قل أن يتفق مثله فى هذه الازمان أما قهزاذ فبقاف مضمومة ثم هاء ساكنة ثم زاى ثم ألف ثم ذال معجمة هذا هو الصحيح المشهور المعروف فى ضبطه وحكى صاحب مطالع الانوار عن بعضهم أنه قيده بضم الهاء وتشديد الزاى وهو أعجمى فلا ينصرف قال بن ماكولا مات محمد بن عبد الله بن قهزاد هذا يوم الأربعاء لعشر خلون من المحرم سنة اثنتين وستين ومائتين فتحصل من هذا أن مسلما رحمه الله مات قبل شيخه هذا بخمسة أشهر ونصف كما قدمناه أول هذا الكتاب من تاريخ وفاة مسلم رحمه الله وأما عبدان فبفتح العين وهو لقب له واسمه عبد الله بن عثمان بن جبلة العتكى مولاهم أبو عبد الرحمن المروزي قال البخارى فى تاريخه
(1/87)

توفى عبدان سنة احدى أو اثنتين وعشرين ومائتين وأما بن المبارك فهو السيد الجليل جامع أنواع المحاسن أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلى مولاهم سمع جماعات من التابعين وروى عنه جماعات من كبار العلماء وشيوخه وأئمة عصره كسفيان الثورى وفضيل بن عياض وآخرين وقد أجمع العلماء على جلالته وامامته وكبر محله وعلو مرتبته روينا عن الحسن بن عيسى قال اجتمع جماعة من اصحاب بن المبارك مثل الفضل بن موسى ومخلد بن حسين ومحمد بن النضر فقالوا تعالوا حتى نعد خصال بن المبارك من أبواب الخير فقالوا جمع العلم والفقه والأدب والنحو واللغة والزهد والشعر والفصاحة والورع والانصاف وقيام الليل والعبادة والشدة في رأيه وقلة الكلام فيما لا يعنيه وقلة الخلاف على أصحابه وقال العباس بن مصعب جمع بن المبارك الحديث والفقه والعربية وأيام الناس والشجاعة والتجارة والسخاء والمحبة عند الفرق وقال محمد بن سعد صنف بن المبارك كتبا كثيرة في ابواب العلم وصنوفه واحواله مشهورة معروفة وأما مرو فغير مصروفة وهي مدينة عظيمة بخراسان وأمهات مدائن خراسان أربع نيسابور ومرو وبلخ وهراة والله اعلم قوله ( حدثنى العباس بن أبى رزمة قال سمعت عبد الله يقول بيننا وبين القوم القوائم يعنى الاسناد ) أما رزمة فبراء مكسورة ثم زاى ساكنة ثم مم ثم هاء وأما عبد الله فهو بن المبارك ومعنى هذا الكلام ان جاء باسناد صحيح قبلنا حديثه والا تركناه فجعل الحديث كالحيوان لا يقوم بغير اسناد كما لا يقوم الحيوان بغير قوائم ثم أنه وقع في بعض الاصول العباس بن رزمة وفي بعضها العباس بن أبى رزمة وكلاهما مشكل ولم يذكر البخارى في تاريخه وجماعه من أصحاب كتب أسماء الرجال العباس بن رزمة ولا العباس بن أبى رزمة وانما ذكروا عبد العزيز بن أبى رزمة أبا محمد المروزى سمع عبد الله بن المبارك ومات في المحرم سنة ست ومائتين واسم أبى رزمة غزوان والله اعلم قوله ( أبا إسحاق الطالقاني هو بفتح اللام قال قلت لابن
(1/88)

المبارك الحديث الذي جاء ان من البر بعد البر أن تصلى لأبويك مع صلاتك وتصوم لهما مع صومك قال بن المبارك عمن هذا قلت من حديث شهاب بن خراش قال ثقة عمن قلت عن الحجاج بن دينار قال ثقة عمن قال قلت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يا أبا إسحاق ان بين الحجاج بن دينار وبين النبي صلى الله عليه و سلم مفاوز تنقطع فيها أعناق المطى ولكن ليس في الصدقة اختلاف ) معنى هذه الحكاية أنه لا يقبل الحديث الا باسناد صحيح وقوله مفاوز جمع مفازة وهي الارض القفر البعيدة عن العمارة وعن الماء التي يخاف الهلاك فيها قيل سميت مفازة للتفاؤل بسلامة سالكها كما سموا اللديغ سليما وقيل لأن من قطعها فاز ونجا وقيل لأنها تهلك صاحبها يقال فوز الرجل اذا هلك ثم ان هذه العبارة التي استعملها هنا استعارة حسنة وذلك لأن الحجاج بن دينار هذا من تابعى التابعين فأقل ما يمكن أن يكون بينه وبين النبي صلى الله عليه و سلم اثنان التابعى والصحابى فلهذا قال بينهما مفاوز أي انقطاع كثير وأما قوله ليس في الصدقة اختلاف فمعناه ان هذا الحديث لا يحتج به ولكن من أراد بر والديه فليتصدق عنهما فان الصدقة تصل إلى الميت وينتفع بها بلا خلاف بين المسلمين وهذا هو الصواب وأما ما حكاه أقضى القضاة أبو الحسن الماوردى البصرى الفقيه
(1/89)

الشافعى فى كتابه الحاوى عن بعض أصحاب الكلام من أن الميت لا يلحقه بعد موته ثواب فهو مذهب باطل قطعا وخطأ بين مخالف لنصوص الكتاب والسنة واجماع الامة فلا التفات إليه ولا تعريج عليه وأما الصلاة والصوم فمذهب الشافعى وجماهير العلماء أنه لا يصل ثوابهما إلى الميت الا اذا كان الصوم واجبا على الميت فقضاه عنه وليه أو من أذن له الولي فان فيه قولين للشافعى أشهرهما عنه أنه لا يصح وأصحهما عند محققى متأخرى أصحابه أنه يصح وستأتى المسألة فى كتاب الصيام ان شاء الله تعالى وأما قراءة القرآن فالمشهور من مذهب الشافعى أنه لا يصل ثوابها إلى الميت وقال بعض أصحابه يصل ثوابها إلى الميت وذهب جماعات من العلماء إلى أنه يصل إلى الميت ثواب جميع العبادات من الصلاة والصوم والقراءة وغير ذلك وفى صحيح البخارى فى باب من مات وعليه نذر أن بن عمر أمر من ماتت أمها وعليها صلاة أن تصلى عنها وحكى صاحب الحاوى عن عطاء بن أبى رباح واسحاق بن راهويه أنهما قالا بجواز الصلاة عن الميت وقال الشيخ أبو سعد عبد الله بن محمد بن هبة الله بن أبى عصرون من أصحابنا المتأخرين فى كتابه الانتصار إلى اختيار هذا وقال الامام أبو محمد البغوى من أصحابنا فى كتابه التهذيب لا يبعد أن يطعم عن كل صلاة مد من طعام وكل هذه المذاهب ضعيفة ودليلهم القياس على الدعاء والصدقة والحج فانها تصل بالاجماع ودليل الشافعى وموافقيه قول الله تعالى وأن ليس للانسان الا ما سعى وقول النبى صلى الله عليه و سلم اذا مات بن آدم انقطع عمله الا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له واختلف أصحاب الشافعى فى ركعتى الطواف فى حج الأجير هل تقعان عن الأجير أم عن المستأجر والله أعلم وأما خراش المذكور فبكسر الخاء المعجمة وقد تقدم فى الفصول أنه ليس فى الصحيحين حراش بالمهملة الا والد ربعى وأما قول مسلم ( حدثنى أبو بكر بن النضر بن أبى النضر قال حدثنى أبو النضر هاشم بن القاسم قال حدثنا أبو عقيل صاحب بهية ) فهكذا وقع فى الاصول أبو بكر بن النضر
(1/90)

بن أبى النضر قال حدثنى أبو النضر وأبو النضر هذا هو جد أبى بكر هذا وأكثر ما يستعمل أبو بكر بن أبى النضر واسم أبى النضر هاشم بن القاسم ولقب أبى النضر قيصر وأبو بكر هذا الاسم له لا كنيته هذا هو المشهور وقال عبد الله بن أحمد الدورقى اسمه أحمد قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر قيل اسمه محمد وأما أبو عقيل فبفتح العين وبهية بضم الباء الموحدة وفتح الهاء وتشديد الياء وهى امرأة تروى عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قيل انها سمتها بهية ذكره أبو على الغسانى فى تقييد المهمل وروى عن بهية مولاها أبو عقيل المذكور واسمه يحيى بن المتوكل الضرير المدنى وقيل الكوفى وقد ضعفه يحيى بن معين وعلى بن المدنى وعمرو بن على وعثمان بن سعيد الدارمى وبن عمار والنسائى ذكر هذا كله الخطيب البغدادى فى تاريخ بغداد بأسانيده عن هؤلاء فان قيل فاذا كان هذا حاله فكيف روى له مسلم فجوابه من وجهين أحدهما أنه لم يثبت جرحه عنده مفسرا ولا يقبل الجرح الا مفسرا والثانى أنه لم يذكره أصلا ومقصودا بل ذكره استشهادا لما قبله وأما قوله فى الرواية الاولى للقاسم بن عبيد الله ( لأنك بن امامى هدى أبى بكر وعمر رضى الله عنهما وفى الرواية الثانية وأنت بن امامى الهدى يعنى عمر وبن عمر رضى الله عنهما ) فلا مخالفة بينهما فان القاسم هذا هو بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فهو ابنهما وأم القاسم هي أم عبد الله بنت القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق رضى الله عنه فابو بكر جده الأعلى لأمه وعمر جده الأعلى لأبيه وبن عمر جده الحقيقى لأبيه رضى الله عنهم أجمعين وأما قول سفيان فى الرواية الثانية ( أخبرونى عن أبى عقيل ) فقد يقال
(1/91)

فيه هذه رواية عن مجهولين وجوابه ما تقدم أن هذا ذكره متابعة واستشهادا والمتابعة والاستشهاد يذكرون فيهما من لايحتج به على انفراده لأن الاعتماد على ما قبلهما لا عليهما وقد تقدم بيان هذا فى الفصول والله أعلم