باب بيان أن الدين النصيحة
 
( باب بيان أن الدين النصيحة [ 55 ] فيه ( عن تميم الدارى رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه و سلم قال الدين النصيحة قلنا لمن قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين عامتهم ) هذا حديث عظيم الشأن وعليه مدار الاسلام كما سنذكره من شرحه وأما ما قاله جماعات من العلماء أن أحد أرباع الاسلام أى أحد الاحاديث الاربعة التى تجمع أمور الاسلام فليس كما قالوه بل المدار على هذا وحده وهذا الحديث من أفراد مسلم وليس لتميم الدارى فى صحيح البخارى عن النبى صلى الله عليه و سلم شيء ولا له فى مسلم عنه غير هذا الحديث وقد تقدم فى آخر مقدمة الكتاب بيان الاختلاف فى نسبة تميم وأنه دارى أوديرى وأما شرح هذا الحديث فقال الامام أبو سليمان الخطابى رحمه الله النصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له قال ويقال هو من وجيز الاسماء ومختصر الكلام وليس فى كلام العرب كلمة مفردة يستوفى بها العبارة عن المعنى هذه الكلمة كما قالوا فى الفلاح ليس فى كلام العرب كلمة أجمع لخير الدنيا والآخرة منه قال وقيل النصيحة مأخوذة من نصح الرجل ثوبه اذا خاطه فشبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له بما يسده من خلل الثوب قال وقيل انها مأخوذة من نصحت العسل اذا صفيته من الشمع شبهوا تخليص القول من الغش بتخليص العسل من الخلط قال ومعنى الحديث عماد الدين وقوامه النصحية كقوله الحج عرفة أى عماده ومعظمه عرفة وأما تفسير النصيحة )
(2/37)

وأنواعها فقد ذكر الخطابى وغيره من العلماء فيها كلاما نفيسا أنا أضم بعضه إلى بعض مختصرا قالوا أما النصيحة لله تعالى فمعناها منصرف إلى الايمان به ونفى الشريك عنه وترك الالحاد في صفاته ووصفه بصفات الكمال والجلال كلها وتنزيهه سبحانه وتعالى من جميع النقائص والقيام بطاعته واجتناب معصيته والحب فيه والبغض فيه وموالاة من أطاعه ومعادة من عصاه وجهاد من كفر به والاعتراف بنعمته وشكره عليها والاخلاص في جميع الامور والدعاء إلى جميع الاوصاف المذكورة والحث عليها والتلطف في جميع الناس او من أمكن منهم عليها قال الخطابى رحمه الله وحقيقة هذه الاضافة راجعة إلى العبد في نصحه نفسه فالله تعالى غني عن نصح الناصح وأما النصيحة لكتابه سبحانه وتعالى فالإيمان بأن كلام الله تعالى وتنزيله لا يشبهه شيء من كلام الخلق ولا يقدر على مثله أحد من الخلق ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته وتحسينها والخشوع عندها واقامة حروفه في التلاوة والذب عنه لتأويل المحرفين وتعرض الطاعنين والتصديق بما فيه والوقوف مع أحكامه وتفهم علومه وأمثاله والاعتبار بمواعظه والتفكر في عجائبه والعمل بمحكمه والتسليم لمتشابهه والبحث عن عمومه وخصوصه وناسخه ومنسوخه ونشر علومه والدعاء إليه والى ما ذكرناه من نصيحته وأما النصيحة لرسول الله صلى الله عليه و سلم فتصديقه على الرسالة والايمان بجميع ما جاء به وطاعته فى امره ونهيه ونصرته حيا وميتا ومعاداة عن عاداه وموالاة من والاه واعظام حقه وتوقيره واحياء طريقته وسنته وبث دعوته ونشر شريعته ونفى التهمة عنها واستثارة علومها والتفقه في معانيها والدعاء اليها والتلطف في تعلمها وتعليمها واعظامها واجلالها والتأدب عند قراءتها والامساك عن الكلام فيها بغير علم واجلال أهلها لانتسابها اليها والتخلق باخلاقه والتأدب بآدابه ومحبة أهل بيته وأصحابه ومجانبة من ابتدع فى سنته أوتعرض لأحد من أصحابه ونحو ذلك وأما النصيحة لأئمة المسلمين فمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وأمرهم به وتنبيهم وتذكيرهم برفق ولطف واعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين وترك الخروج عليهم وتألف قلوب الناس لطاعتهم قال الخطابى رحمه الله ومن النصيحة لهم الصلاة خلفهم والجهاد معهم وأداء الصدقات اليهم وترك الخروج بالسيف عليهم اذا ظهر منهم حيف أو سوء عشرة وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم وأن يدعى لهم بالصلاح وهذا كله على ان المراد بأئمة المسلمين الخلفاء وغيرهم ممن يقوم بأمور المسملين من اصحاب الولايات وهذا هو
(2/38)

المشهور وحكاه ايضا الخطابى ثم قال وقد يتأول ذلك على الائمة الذين هم علماء الدين وأن من نصيحتهم قبول ما رووه وتقليدهم في الاحكام واحسان الظن بهم وأما نصيحة عامة المسلمين وهم من عدا ولاة الامر فارشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم وكف الأذى عنهم فيعلمهم ما يجهلونه من دينهم ويعينهم عليه بالقول والفعل وستر عوراتهم وسد خلاتهم ودفع المضار عنهم وجلب المنافع لهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق واخلاص والشفقة عليهم وتوقير كبيرهم ورحمة صغيرهم وتخولهم بالموعظة الحسنة وترك غشهم وحسدهم وأن يحب لهم ما يجب لنفسه من الخير ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه والذب عن أموالهم وأعراضهم وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع النصيحة وتنشيط هممهم إلى الطاعات وقد كان في السلف رضى الله عنهم من تبلغ به النصيحة إلى الاضرار بدنياه والله اعلم هذا آخر ما تلخص في تفسير النصيحة قال بن بطال رحمه الله فى هذا الحديث ان النصيحة تسمى دينا واسلاما وان الدين يقع على العمل كما يقع على القول قال والنصيحة فرض يجزى فيه من قام به ويسقط عن الباقين قال والنصيحة لازمة على قدر الطاقة اذا علم الناصح انه يقبل نصحه ويطاع امره وامن على نفسه المكروه فان خشى على نفسه أذى فهو فى سعة والله اعلم [ 56 ] وأما حديث جرير رضى الله عنه ( قال بايعت رسول الله صلى الله عليه و سلم
(2/39)

على اقام الصلاة وايتاء الزكاة لكل مسلم وفى الرواية الاخرى على السمع والطاعة فلقننى فيما استطعت ) وانما اقتصر على الصلاة والزكاة لكونهما قرينتين وهما أهم أركان الاسلام بعد الشهادتين وأظهرها ولم يذكر الصوم وغيره لدخولها فى السمع والطاعة وقوله صلى الله عليه و سلم فيما استطعت موافق لقوله تعالى لا يكلف الله نفسا الا وسعها والرواية استطعت بفتح التاء وتلقينه من كمال شفقته صلى الله عليه و سلم اذ قد يعجز فى بعض الاحال فلو لم يقيده بما استطاع لأخل التزم فى بعض الاحال والله أعلم ومما يتعلق بحديث جرير منقبة ومكرمة لجرير رضى الله عنه رواها الحافظ أبو القاسم الطبرانى باسناده اختصارها أن جريرا أمر مولاه أن يشترى له فرسا فاشترى بثلثمائة درهم وجاء به وبصاحبه لينقده الثمن فقال جرير لصاحب الفرس فرسك خير من ثلاثمائة درهم أتبيعه بأربعمائة درهم قال ذلك اليك يا أبا عبد الله فقال فرسك خير من ذلك أتبيعه بخمسمائة درهم ثم لم يزل يزيده مائة فمائة وصاحبه يرضى وجرير يقول فرسك خير إلى أن بلغ ثمانمائة درهم فاشتراه بها فقيل له فى ذلك فقال انى بايعت رسول الله صلى الله عليه و سلم النصح لكل مسلم والله أعلم واما ما يتعلق بأسانيد الباب ففيه أمية بن بسطام وقد قدمنا في المقدمة الخلاف فى انه هل يصرف اولا يصرف وفى ان الباء مكسورة على المشهور وأن صاحب المطالع حكى أيضا فتحتها وفيه زياد بن علاقة بكسر العين وبالقاف وفيه سريج بن يونس بالسين المهملة وبالجيم وفيه الدور فى بفتح الدال وقد تقدم فى المقدمة بيان هذه النسبة والله اعلم وأما قول مسلم حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة حدثنا عبد الله بن نمير وأبو اسامة عن إسماعيل بن أبى خالد عن قيس عن جرير فهذا اسناد كله كوفيون وأما قوله حدثنا سريج ويعقوب قالا حدثنا هشيم عن سيار عن الشعبى عن جرير ثم قال مسلم في آخره قال يعقوب في روايته حدثنا سيار ففيه تنبيه على لطيفة وهى أن هشيما مدلس وقد قال عن سيار والمدلس اذا قال عن لا يحتج به الا أن ثبت سماعه من جهة أخرى فروى مسلم رحمه الله حديثه هذا عن شيخين وهما سريج ويعقوب فاما سريج فقال حدثنا هشيم عن سيار وأما يعقوب فقال حدثنا هشيم قال حدثنا سيار فبين مسلم رحمه الله اختلاف عبارة الروايتين في نقلهما عبارته وحصل منها اتصال حديثه لم يقتصر مسلم رحمه الله على احدى الروايتين وهذا من عظيم اتقانه ودقيق نظره وحسن احتياطه رضى الله عنه وسيار بتقديم
(2/40)

السين على الياء والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب