باب الكبائر وأكبرها
 
( باب الكبائر وأكبرها [ 87 ] فيه ( أبو بكرة رضى الله عنه قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال الا أنبئكم بأكبر )
(2/81)

الكبائر ثلاثا الاشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور أو قول الزور وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ) قال مسلم رحمه الله [ 88 ] ( وحدثنى يحيى بن حبيب الحارثى حدثنا خالد وهو بن الحارث حدثنا شعبة حدثنا عبيد الله بن أبى بكر عن انس رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه و سلم فى الكبائر قال الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وقول الزور ) قال مسلم رحمه الله ( وحدثنى محمد بن الوليد بن عبد الحميد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة حدثنى عبيد الله بن أبى بكر قال سمعت انس بن مالك رضى الله عنه قال ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقال الا أنبئكم بأكبر الكبائر قال قول الزور أو قال شهادة الزور قال شعبة وأكبر ظنى أنه شهادة الزور [ 89 ] وعن أبى الغيث عن أبى
(2/82)

هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التى حرم الله الا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولى يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات وعن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه قال نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه ) أما أبو بكرة فاسمه نفيع بن الحرث وقد تقدم وأما الاسنادان اللذان ذكرهما فهما بصريون كلهم من أولهما إلى آخرهما الا أن شعبة واسطى بصرى فلا يقدح هذا فى كونهما بصريين وهذا من الطرف المستحسنة وقد تقدم فى الباب الذى قبل هذا نظيرهما فى الكوفيين وقوله حدثنا خالد وهو بن الحرث قد قدمنا بيان فائدة قوله وهو بن الحرث ولم يقل خالد بن الحرث وهو انه انما سمع فى الرواية خالد ولخالد مشاركون فاراد تمييزه ولا يجوز له أن يقول حدثنا خالد
(2/83)

بن الحرث لأنه يصير كاذبا على المروى عنه فانه لم يقل الا خالد فعدل إلى لفظه وهو بن الحرث لتحصل الفائدة بالتميز والسلامة من الكذب وقوله عبيد الله بن أبى بكر هو أبو بكر بن أنس بن مالك فعبيد الله يروى عن جده وقوله وأكبر ظنى هو بالباء الموحدة وأبو الغيث اسمه سالم وقوله فى أول الباب عن سعيد الجريرى هو بضم الجيم المنسوب إلى جرير مصغر وهو جرير بن عباد بضم العين وتخفيف الباء بطن من بكر بن أوئل وهو سعيد بن اياس أبو مسعود البصرى وأما الموبقات فهي المهلكات يقال وبق الرجل بفتح الباء يبق بكسرها ووبق بضم الواو وكسر الباء يوبق اذا هلك وأوبق غيره أى أهلكه وأما الزور فقال الثعلبى المفسر وأبو إسحاق وغيره أصله تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته حتى يخيل إلى من سمعه أو رآه أنه بخلاف ما هو به فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق وأما المحصنات الغافلات فبكسر الصاد وفتحها قرءتان فى السبع قرأ الكسائى بالكسر والباقون بالفتح والمراد بالمحصنات هنا العفائف وبالغافلات الغافلات عن الفواحش وما قذفن به وقد ورد الاحصان فى الشرع على خمسة أقسام العفة والاسلام والنكاح والتزويج والحرية وقد بينت مواطنه وشرائطه وشواهده فى كتاب تهذيب الاسماء واللغات والله أعلم وأما معانى الاحاديث وفقهها فقد قدمنا فى الباب الذى قبل هذا كيفية ترتيب الكبائر قال العلماء رحمهم الله ولا انحصار للكبائر فى عدد مذكور وقد جاء عن بن عباس رضى الله عنهما أنه سئل عن الكبائر أسبع هي فقال هي إلى سبعين ويروى إلى سبعمائة أقرب وأما قوله صلى الله عليه و سلم الكبائر سبع فالمراد به من الكبائر سبع فان هذه الصيغة وان كانت للعموم فهي مخصوصة بلا شك وانما وقع الاقتصار على هذه السبع وفى الرواية الأخرى ثلاث وفى الأخرى أربع لكونها من أفحش الكبائر مع كثرة وقوعها لا سيما فيما كانت عليه الجاهلية ولم يذكر فى بعضها ما ذكر فى الأخرى وهذا مصرح بما ذكرته من أن المراد البعض وقد جاء بعد هذا من الكبائر شتم الرجل والديه وجاء فى النميمة وعدم الاستبراء من البول أنهما من الكبائر وجاء فى غير مسلم من الكبائر اليمين الغموس واستحلال بيت الله الحرام وقد اختلف العلماء فى حد الكبيرة وتمييزها من الصغيرة فجاء عن بن عباس رضى الله عنهما كل شيء نهى الله عنه فهو كبيرة وبهذا قال الاستاذ أبو إسحاق الاسفراينى الفقيه الشافعى الامام فى علم الاصول والفقه وغيره وحكى القاضي عياض رحمه
(2/84)

الله هذا المذهب عن المحققين واحتج القائلون بهذا بأن كل مخالفة فهي بالنسبة إلى جلال الله تعالى كبيرة وذهب الجماهير من السلف والخلف من جميع الطوائف إلى انقسام المعاصى إلى صغائر وكبائر وهو مروى أيضا عن بن عباس رضى الله عنهما وقد تظاهر على ذلك دلائل من الكتاب والسنة واستعمال سلف الامة وخلفها قال الامام أبو حامد الغزالى فى كتابه البسيط فى المذهب انكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقه وقد فهما من مدارك الشرع وهذا الذى قاله أبو حامد قد قاله غيره بمعناه ولا شك فى كون المخالفة فبيحة جدا بالنسبة إلى جلال الله تعالى ولكن بعضها أعظم من بعض وتنقسم باعتبار ذلك إلى ما تكفره الصلوات الخمس أو صوم رمضان أو الحج أو العمرة أو الوضوء أو صوم عرفة أو صوم عاشوراء أو فعل الحسنة أو غير ذلك مما جاءت به الاحاديث الصحيحة والى ما لا يكفره ذلك كما ثبت فى الصحيح ما لم يغش كبيرة فسمى الشرع ما تكفره الصلاة ونحوها صغائر وما لا تكفره كبائر ولا شك فى حسن هذا ولا يخرجها هذا عن كونها قبيحة بالنسبة إلى جلال الله تعالى فانها صغيرة بالنسبة إلى ما فوقها لكونها أقل قبحا ولكونها متيسرة التكفير والله أعلم واذا ثبت انقسام المعاصى إلى صغائر وكبائر فقد اختلفوا فى ضبطها اختلافا كثيرا منتشرا جدا فروى عن بن عباس رضى الله عنهما أنه قال الكبائر كل ذنب ختمه الله تعالى بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب ونحو هذا عن الحسن البصرى وقال آخرون هي ما أوعد الله عليه بنار أوحد فى الدنيا وقال أبو حامد الغزالى فى البسيط والضابط الشامل المعنوى فى ضبط الكبيرة أن كل معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار خوف وحذار ندم كالمتهاون بارتكابها والمتجرىء عليه اعتيادا فما أشعر بهذا الاستخفاف والتهاون فهو كبيرة وما يحمل على فلتات النفس أو اللسان وفترة مراقبة التقوى ولا ينفك عن تندم يمتزج به تنغيص التلذذ بالمعصية فهذا لا يمنع العدالة وليس هو بكبيرة وقال الشيخ الامام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله فى فتاويه الكبيرة كل ذنب كبر وعظم عظما يصح معه أن يطلق عليه اسم الكبيرة ووصف بكونه عظيما على الاطلاق قال فهذا حد الكبيرة ثم لها أمارات منها ايجاب الحد ومنها الابعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها فى الكتاب أو السنة ومنها وصف فاعلها بالفسق نصا ومنها اللعن كلعن الله سبحانه وتعالى من غير منار الارض وقال الشيخ الامام أبو محمد بن عبد السلام رحمه الله فى كتابه القواعد اذا أردت
(2/85)

معرفة الفرق بين الصغيرة والكبيرة فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها فان نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر وإن ساوت ادنى مفاسد الكبائر أو ربت عليه فهي من الكبائر فمن شتم الرب سبحانه وتعالى أو رسوله صلى الله عليه و سلم أو استهان بالرسل أو كذب واحدا منهم أو ضمخ الكعبة بالعذرة أو ألقى المصحف فى القاذورات فهي من أكبر الكبائر ولم يصرح الشرع بأنه كبيرة وكذلك لو أمسك امرأة محصنة لمن يزنى بها أو أمسك مسلما لمن يقتله فلا شك أن مفسدة ذلك أعظم من مفسدة أكل مال اليتيم مع كونه من الكبائر وكذلك لو دل الكفار على عورات المسلمين مع علمه أنهم يستأصلون بدلالته ويسبون حرمهم وأطفالهم ويغنمون أموالهم فان نسبته إلى هذه المفاسد أعظم من توليه يوم الزحف بغير عذر مع كونه من الكبائر وكذلك لو كذب على انسان كذبا يعلم أنه يقتل بسببه أما اذا كذب عليه كذبا يؤخذ منه بسببه تمرة فليس كذبه من الكبائر قال وقد نص الشرع على أن شهادة الزور وأكل مال اليتيم من الكبائر فان وقعا فى مال خطير فهذا ظاهر وان وقعا فى مال حقير فيجوز أن يجعلا من الكبائر فطاما عن هذه المفاسد كما جعل شرب قطرة من خمر من الكبائر وان لم يتحقق المفسدة ويجوز أن يضبط ذلك بنصاب السرقة قال والحكم بغير الحق كبيرة فان شاهد الزور متسبب والحاكم مباشر فاذا جعل السبب كبيرة فالمباشرة أولى قال وقد ضبط بعض العلماء الكبائر بانها كل ذنب قرن به وعيد أو حد أو لعن فعلى هذا كل ذنب علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به الوعيد أو الحد أو اللعن أو أكثر من مفسدته فهو كبيرة ثم قال والاولى أن تضبط الكبيرة بما يشعر بتهاون مرتكبها فى دينه اشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها والله أعلم هذا آخر كلام الشيخ أبى محمد بن عبد السلام رحمه الله قال الامام أبو الحسن الواحدى المفسر وغيره الصحيح أن حد الكبيرة غير معروف بل ورد الشرع بوصف أنواع من المعاصى بأنها كبائر وأنواعها بأنها صغائر وأنواع لم توصف وهى مشتملة على صغائر وكبائر والحكمة فى عدم بيانه أن يكون العبد ممتنعا من جميعها مخافة أن يكون من الكبائر قالوا وهذا شبيه باخفاء ليلة القدر وساعة يوم الجمعة وساعة اجابة الدعاء من الليل واسم الله الاعظم ونحو ذلك مما أخفى والله أعلم قال العلماء رحمهم الله والاصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة وروى عن عمر وبن عباس
(2/86)

وغيرهما رضى الله عنهم لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع اصرار معناه أن الكبيرة تمحى بالاستغفار والصغيرة تصير كبيرة بالاصرار قال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام فى حد الاصرار هو أن تتكرر منه الصغيرة تكرارا يشعر بقلة مبالاته بدينه اشعار ارتكاب الكبيرة بذلك قال وكذلك اذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع بحيث يشعر مجموعها بما يشعر به أصغر الكبائر وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله المصر من تلبس من أضداد التوبة باسم العزم على المعاودة أو باستدامة الفعل بحيث يدخل به ذنبه فى حيز ما يطلق عليه الوصف بصيرورته كبيرا عظيما وليس لزمان ذلك وعدده حصر والله أعلم هذا مختصر ما يتعلق بضبط الكبيرة وأما قوله قال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا فمعناه قال هذا الكلام ثلاث مرات وأما عقوق الوالدين فهو مأخوذ من العق وهو القطع وذكر الازهرى أنه يقال عق والده يعقه بضم العين عقا وعقوقا اذا قطعه ولم يصل رحمه وجمع العاق عققة بفتح الحروف كلها وعقق بضم العين والقاف وقال صاحب المحكم رجل عقق وعقق وعق وعاق بمعنى واحد وهو الذى شق عصا الطاعة لوالده هذا قول أهل اللغة وأما حقيقة العقوق المحرم شرعا فقل من ضبطه وقد قال الشيخ الامام أبو محمد بن عبد السلام رحمه الله لم أقف فى عقوق الوالدين وفيما يختصان به من الحقوق على ضابط أعتمده فانه لا يجب طاعتهما فى كل ما يأمران به وينهيان عنه باتفاق العلماء وقد حرم على الولد الجهاد بغير اذنهما لما يشق عليهما من توقع قتله أو قطع عضو من أعضائه ولشدة تفجعهما على ذلك وقد ألحق بذلك كل سفر يخافان فيه على نفسه أو عضو من أعضائه هذا كلام الشيخ أبى محمد وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله فى فتاويه العقوق المحرم كل فعل يتأذى به الوالد أو نحوه تأذيا ليس بالهين مع كونه ليس من الأفعال الواجبة قال وربما قيل طاعة الوالدين واجبة فى كل ما ليس بمعصية ومخالفة أمرهما فى ذلك عقوق وقد أوجب كثير من العلماء طاعتهما فى الشبهات قال وليس قول من قال من علمائنا يجوز له السفر فى طلب العلم وفى التجارة بغير اذنهما مخالفا لما ذكرته فان هذا كلام مطلق وفيما ذكرته بيان لتقييد ذلك المطلق والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه و سلم ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قول الزور أو شهادة الزور فليس على ظاهره المتبادر إلى الافهام منه وذلك لأن الشرك أكبر منه بلا شك وكذا القتل فلا بد من
(2/87)

تأويله وفى تأويله ثلاثة أوجه أحدها أنه محمول على الكفر فان الكافر شاهد بالزور وعامل به والثانى أنه محمول على المستحيل فيصير بذلك كافرا والثالث أن المراد من أكبر الكبائر كما قدمناه فى نظائره وهذا الثالث هو الظاهر أو الصواب فأما حمله على الكفر فضعيف لأن هذا خرج مخرج الزجر عن شهادة الزور فى الحقوق وأما قبح الكفر وكونه أكبر الكبائر فكان معروفا عندهم ولا يتشكك أحد من أهل القبلة فى ذلك فحمله عليه يخرجه عن الفائدة ثم الظاهر الذى يقتضيه عموم الحديث واطلاقه والقواعد أنه لا فرق فى كون شهادة الزور بالحقوق كبيرة بين أن تكون بحق عظيم أو حقير وقد يحتمل على بعد أن يقال فيه الاحتمال الذى قدمته عن الشيخ أبى محمد بن عبد السلام فى أكل تمرة من مال اليتيم والله أعلم وأما عده صلى الله عليه و سلم التولى يوم الزحف من الكبائر فدليل صريح لمذهب العلماء كافة فى كونه كبيرة الا ما حكى عن الحسن البصرى رحمه الله أنه قال ليس هو من الكبائر قال والآية الكريمة فى ذلك انما وردت فى أهل بدر خاصة والصواب ما قاله الجماهير أنه باق والله أعلم وأما قوله فكان متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت فجلوسه صلى الله عليه و سلم لاهتمامه بهذا الأمر وهو يفيد تأكيد تحريمه وعظم قبحه وأما قولهم ليته سكت فانما قالوه وتمنوه شفقة على رسول الله صلى الله عليه و سلم وكراهة لما يزعجه ويغضبه وأما عده صلى الله عليه و سلم السحر من الكبائر فهو دليل لمذهبنا الصحيح المشهور ومذهب الجماهير أن السحر حرام من الكبائر فعله وتعلمه وتعليمه وقال بعض أصحابنا أن تعلمه ليس بحرام بل يجوز ليعرف ويرد على صاحبه ويميز عن الكرامة للاولياء وهذا القائل يمكنه أن يحمل الحديث على فعل السحر والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه و سلم من الكبائر شتم الرجل والديه إلى آخره ففيه دليل على أن من تسبب فى شيء جاز أن ينسب إليه ذلك الشيء وانما جعل هذا عقوقا لكونه يحصل منه ما يتأذى به الوالد تأذيا ليس بالهين كما تقدم فى حد العقوق والله أعلم وفيه قطع الذرائع فيؤخذ منه النهى عن بيع العصير ممن يتخذ الخمر والسلاح ممن يقطع الطريق ونحو ذلك والله أعلم
(2/88)