( باب معنى قول الله عز و جل ولقد رآه نزلة أخرى )
 
وهل رأى النبى صلى الله عليه و سلم ربه ليلة الاسراء
قال القاضي عياض رحمه الله اختلف السلف والخلف هل رأى نبينا صلى الله عليه و سلم ربه ليلة الاسراء فأنكرته عائشة رضى الله عنها كما وقع هنا في صحيح مسلم وجاء مثله عن أبى هريرة وجماعة وهو المشهور عن بن مسعود واليه ذهب جماعة من المحدثين والمتكلمين وروى عن بن عباس رضى الله عنهما انه رآه بعينه ومثله عن أبي ذر وكعب رضى الله عنهما والحسن رحمه الله وكان يحلف على ذلك وحكى مثله عن بن مسعود وأبي هريرة وأحمد بن حنبل وحكى أصحاب المقالات عن أبي الحسن الأشعرى وجماعة من أصحابه أنه رآه ووقف بعض مشايخنا في هذا وقال ليس عليه دليل واضح ولكنه جائز ورؤية الله تعالى في الدنيا جائزة وسؤال موسى اياها دليل على جوازها اذ لا يجهل نبى ما يجوز أو يمتنع على ربه وقد اختلفوا في رؤية موسى صلى الله عليه و سلم ربه وفي مقتضى الآية ورؤية الجبل ففى جواب القاضي أبي بكر ما يقتضى أنهما رأياه وكذلك اختلفوا في أن نبينا محمدا صلى الله عليه و سلم هل كلم ربه سبحانه وتعالى ليلة الاسراء بغير واسطة أم لا فحكى عن الأشعرى وقوم من المتكلمين أنه كلمة وعزا بعضهم هذا إلى جعفر بن محمد وبن مسعود وبن عباس رضى الله عنهما وكذلك اختلفوا في قوله تعالى ثم دنا فتدلى فالأكثرون على أن هذا الدنو والتدلى منقسم ما بين جبريل والنبى صلى الله عليه و سلم أو مختص باحدهما من الأخر ومن السدرة المنتهى وذكر عن بن عباس والحسن ومحمد بن كعب وجعفر بن محمد وغيرهم أنه دنو من النبى صلى الله عليه و سلم إلى ربه سبحانه وتعالى أو من الله تعالى وعلى هذا القول يكون الدنو والتدلى متأولا ليس على وجهه بل كما قال جعفر بن محمد الدنو من الله تعالى لا حد له ومن العباد بالحدود فيكون معنى دنو النبي صلى الله عليه و سلم من ربه سبحانه وتعالى وقربه منه ظهور عظيم منزلته لديه واشراق أنوار معرفته عليه واطلاعه من غيبه وأسرار ملكوته على ما لم يطلع سواه عليه والدنو من الله سبحانه له اظهار ذلك له وعظيم بره
(3/4)

وفضله العظيم لديه ويكون قوله تعالى قاب قوسين أو أدنى على هذا عبارة عن لطف المحل وايضاح المعرفة والاشراف على الحقيقة من نبينا صلى الله عليه و سلم ومن الله اجابة الرغبة وابانه المنزلة ويتأول في ذلك ما يتأول في قوله صلى الله عليه و سلم عن ربه عز و جل من تقرب منى شبرا تقربت منه ذراعا الحديث هذا آخر كلام القاضي وأما صاحب التحرير فانه اختار اثبات الرؤية قال والحجج في هذه المسألة وان كانت كثيرة ولكنا لا نتمسك الا بالأقوى منها وهو حديث بن عباس رضى الله عنهما أتعجبون أن تكون الخلة لابراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليه و سلم وعن عكرمة سئل بن عباس رضى الله عنهما هل رأى محمد صلى الله عليه و سلم ربه قال نعم وقد روى باسناد لا بأس به عن شعبة عن قتادة عن أنس رضى الله عنه قال رأى محمد صلى الله عليه و سلم ربه وكان الحسن يحلف لقد رأى محمد صلى الله عليه و سلم ربه والأصل في الباب حديث بن عباس حبر الأمة والمرجوع إليه في المعضلات وقد راجعه بن عمر رضى الله عنهم في هذه المسألة وراسله هل رأى محمد صلى الله عليه و سلم ربه فأخبره انه رآه ولا يقدح في هذا حديث عائشة رضى الله عنها لان عائشة لم تخبر أنها سمعت النبى صلى الله عليه و سلم يقول لم أر ربى وانما ذكرت ما ذكرت متأولة لقول الله تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا ولقول الله تعالى لا تدركه الأبصار والصحابي اذا قال قولا وخالفه غيره منهم لم يكن قوله حجة واذا صحت الروايات عن بن عباس في اثبات الرؤية وجب المصير إلى اثباتها فانها ليست مما يدرك بالعقل ويؤخذ بالظن وإنما يتلقى بالسماع ولا يستجيز أحد أن يظن بابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد وقد قال معمر بن راشد حين ذكر اختلاف عائشة وبن عباس ما عائشة عندنا بأعلم من بن عباس ثم ان بن عباس أثبت شيئا نفاه غيره والمثبت مقدم على النافى هذا كلام صاحب التحرير فالحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى ربه بعينى رأسه ليلة الاسراء لحديث بن عباس وغيره مما تقدم واثبات هذا لا ياخذونه الا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه و سلم
( هذا مما لا ينبغى أن يتشكك فيه ثم ان عائشة رضى الله عنها لم تنف الرؤية بحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولو كان معها فيه حديث لذكرته وانما اعتمدت الاستنباط من الآيات وسنوضح الجواب عنها فأما احتجاج عائشة بقول الله تعالى لا تدركه الأبصار فجوابه ظاهر فان الادراك هو الاحاطة والله )
(3/5)

تعالى لا يحاط به واذا ورد النص بنفى الاحاطة لا يلزم منه نفى الرؤية بغير احاطة وأجيب عن الآية بأجوبة أخرى لا حاجة اليها مع ما ذكرناه فانه في نهاية من الحسن مع اختصاره وأما احتجاجها رضى الله عنها بقول الله تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا الآية فالجواب عنه من أوجه أحدها أنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية فيجوز وجود الرؤية من غير كلام الثانى أنه عام مخصوص بما تقدم من الأدلة الثالث ما قاله بعض العلماء ان المراد بالوحى الكلام من غير واسطة وهذا الذى قاله هذا القائل وان كان محتملا ولكن الجمهور على أن المراد بالوحى هنا الالهام والرؤية في المنام وكلاهما يسمى وحيا وأما قوله تعالى أو من وراء حجاب فقال الواحدي وغيره معناه غير مجاهر لهم بالكلام بل يسمعون كلامه سبحانه وتعالى من حيث لا يرونه وليس المراد أن هناك حجابا يفصل موضعا من موضع ويدل على تحديد المحجوب فهو بمنزلة ما يسمع من وراء الحجاب حيث لم ير المتكلم والله أعلم [ 174 ] قوله ( وحدثنى أبو الربيع الزهرانى ) هو بفتح الزاى واسكان الهاء واسمه سليمان بن داود قول مسلم رحمه الله ( حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حفص بن غياث عن الشيباني عن زر عن عبد الله ) هذا الاسناد كله كوفيون وغياث بالغين المعجمة والشيبانى هو أبو إسحاق واسمه سليمان بن فيروز وقيل بن خاقان وقيل بن عمرو وهو تابعى وأما زر فبكسر الزاى وحبيش بضم الحاء وفتح الموحدة وآخره الشين المعجمة وهو من المعمرين زاد على مائة وعشرين سنة وهو من كبار التابعين قوله ( عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه في قوله تعالى ما كذب الفؤاد ما رأى قال رأى جبريل له ستمائة جناح ) هذا الذى قاله عبد الله رضى الله عنه هو مذهبه في هذه الآية وذهب الجمهور من المفسرين إلى أن المراد انه رأى ربه سبحانه وتعالى ثم اختلف هؤلاء فذهب جماعة إلى أنه صلى الله عليه و سلم رأى ربه بفؤاده دون عينيه وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينيه قال الامام أبو الحسن الواحدى قال المفسرون هذا اخبار عن رؤية النبى صلى الله عليه و سلم ربه عز و جل ليلة المعراج قال بن عباس وأبو ذر وابراهيم التيمي رآه بقلبه قال وعلى هذا رأى بقلبه ربه رؤية صحيحة وهو أن الله تعالى جعل بصره في فؤاده أو خلق لفؤاده بصرا حتى رأى ربه رؤية صحيحة كما يرى بالعين قال وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى انه رآه بعينه وهو قول أنس وعكرمة والحسن والربيع قال المبرد ومعنى الآية أن الفؤاد رأى شيئا فصدق فيه
(3/6)

وما رأى في موضع نصب أى ما كذب الفؤاد مرئيه وقرأ بن عامر ما كذب بالتشديد قال المبرد معناه أنه رأى شيئا فقبله وهذا الذى قاله المبرد على أن الرؤية للفؤاد فان جعلتها للبصر فظاهر أى ما كذب الفؤاد ما رآه البصر هذا آخر كلام الواحدى قوله ( عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه في قول الله تعالى لقد رأى من آيات ربه الكبرى قال رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح ) هذا الذى قاله عبد الله رضى الله عنه هو قول كثيرين من السلف وهو مروى عن بن عباس رضى الله عنهما وبن زيد ومحمد بن كعب ومقاتل بن حيان وقال الضحاك المراد أنه رأى سدرة المنتهى وقيل رأى رفرفا أخضر وفي الكبرى قولان للسلف منهم من يقول هو نعت للآيات ويجوز نعت الجماعة بنعت الواحدة كقوله تعالى مآرب أخرى وقيل هو صفة لمحذوف تقديره رأى من آيات ربه الآية الكبرى [ 175 ] قوله ( عن أبى هريرة رضى الله عنه في قول الله تعالى ولقد رآه نزله أخرى قال رأى جبريل ) وهكذا قاله أيضا أكثر العلماء قال الواحدى قال أكثر العلماء المراد رأى جبريل في صورته التى خلقه الله تعالى عليها وقال بن عباس رأى ربه سبحانه وتعالى وعلى هذا معنى نزلة أخرى يعود إلى النبى صلى الله عليه و سلم فقد كانت له عرجات فى تلك الليلة لاستحطاط عدد الصلوات فكل عرجة نزلة والله أعلم قوله ( عن الأعمش عن زياد بن الحصين أبى جهمة عن أبي العالية عن بن عباس رضى الله عنهما ما كذب الفؤاد ما رآى ولقد رآه نزلة أخرى قال رآه بفؤاده مرتين ) هذا الذى قاله بن عباس معناه رأى النبى صلى الله عليه و سلم ربه سبحانه وتعالى مرتين في هاتين الإيتين وقد قدمنا اختلاف العلماء في المراد بالأيتين وأن الرؤية
(3/7)

عند من أثبتها بالفؤاد أم بالعين وفي هذا الاسناد ثلاثة تابعيون الاعمش وزياد وأبو العالية بعضهم عن بعض واسم الاعمش سليمان بن مهران تقدم بيانه مرات وجهمة بفتح الجيم واسكان الهاء واسم أبى العالية رفيع بضم الراء وفتح الفاء والله أعلم قوله ( أعظم الفرية ) هي بكسر الفاء واسكان الراء وهى الكذب يقال فرى الشيء يفريه فريا وافتراه يفتريه افتراء اذا اختلقه وجمع الفرية فرى قوله ( أنظرينى ) أى أمهلينى قوله ( عن مسروق ألم يقل الله تعالى ولقد رآه بالافق المبين وقول عائشة رضى الله عنها ( أو لم تسمع أن الله تعالى يقول لا تدركه الابصار أو لم تسمع أن الله تعالى يقول ما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا ثم قالت عائشة أيضا ( والله تعالى
(3/8)

يقول يا أيها الرسول بلغ ثم قالت والله تعالى يقول قل لا يعلم من في السماوات والارض الغيب الا الله هذا كله تصريح من عائشة ومسروق رضى الله عنهما بجواز قول المستدل بآية من القرآن ان الله عز و جل يقول وقد كره ذلك مطرف بن عبد الله بن الشخير التابعى المشهور فروى بن أبى داود باسناده عنه أنه قال لا تقولوا ان الله يقول ولكن قولوا ان الله قال وهذا الذى أنكره مطرف رحمه الله خلاف ما فعلته الصحابة والتابعون ومن بعدهم من أئمة المسلمين فالصحيح المختار جواز الامرين كما استعملته عائشة رضى الله عنها ومن في عصرها وبعدها من السلف والخلف وليس لمن أنكره حجة ومما يدل على جوازه من النصوص قول الله عز و جل والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وفي صحيح مسلم رحمه الله عن أبى ذر رضى الله عنه قال قال النبى صلى الله عليه و سلم يقول الله عز و جل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها والله أعلم وأما قولها ( أو لم تسمع أن الله تعالى يقول ما كان لبشر فهكذا هو في معظم الاصول ما كان بحذف الواو والتلاوة وما كان باثبات الواو ولكن لا يضر هذا في الرواية والاستدلال لأن المستدل ليس مقصوده التلاوة على وجهها وانما مقصوده بيان موضع الدلالة ولا يؤثر حذف الواو في ذلك وقد جاء لهذا نظائر كثيرة في الحديث منها قوله فأنزل الله تعالى أقم الصلاة طرفى النهار وقوله تعالى أقم الصلاة لذكرى هكذا هو في روايات الحديثين في الصحيحين والتلاوة بالواو فيهما والله أعلم وأما مسروق فقال أبو سعيد السمعاني في الانساب سمى مسروقا لانه سرقه انسان فى صغره ثم وجد قوله صلى الله عليه و سلم ( رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الارض ) هكذا هو في الاصول ما بين السماء إلى الارض وهو صحيح وأما عظم خلقه فضبط على وجهين أحدهما بضم العين واسكان الظاء والثاني بكسر العين وفتح الظاء
(3/9)

وكلاهما صحيح قوله ( سألت عائشة رضى الله عنها هل رأى محمد صلى الله عليه و سلم ربه سبحانه وتعالى فقالت سبحان الله لقد قف شعرى لما قلت ) أما قولها سبحان الله فمعناه التعجب من جهل مثل هذا وكأنها تقول كيف يخفى عليك مثل هذا ولفظة سبحان الله لارادة التعجب كثيرة في الحديث وكلام العرب كقوله صلى الله عليه و سلم سبحان الله تطهرى بها وسبحان الله المسلم لا ينجس وقول الصحابة سبحان الله يارسول الله وممن ذكر من النحويين أنها من ألفاظ التعجب أبو بكر بن السراج وغيره وكذلك يقولون في التعجب لا اله الا الله والله أعلم وأما قولها رضى الله عنها قف شعرى فمعناه قام شعرى من الفزع لكونى سمعت مالا ينبغى أن يقال قال بن الاعرابي تقول العرب عند انكار الشيء قف شعرى واقشعر جلدى واشمأزت نفسى قال النضر بن شميل القفة كهيئة القشعريرة وأصله التقبض والاجتماع لان الجلد ينقبض عند الفزع والاستهوال فيقوم الشعر لذلك وبذلك سميت القفة التى هي الزنبيل لاجتماعها ولما يجتمع فيها والله أعلم قول مسلم رحمه الله ( حدثنا بن نمير حدثنا أبو أسامة حدثنا زكريا عن بن أشوع عن عامر عن مسروق ) هؤلاء كلهم كوفيون وبن نمير اسمه محمد بن عبد الله بن نمير وأبو أسامة اسمه حماد بن أسامة وزكريا هو بن أبى زائدة واسم أبى زائدة
(3/10)

خالد بن ميمون وقيل هبيرة وبن أشوع هو سعيد بن عمرو بن أشوع بفتح الهمزة واسكان الشين المعجمة وفتح الواو وبالعين المهملة قوله ( قلت لعائشة رضى الله عنها فأين قوله تعالى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى فقالت انما ذاك جبريل عليه السلام ) قال الامام أبو الحسن الواحدى معنى التدلى الامتداد إلى جهة السفل هكذا هو الاصل ثم استعمل في القرب من العلو هذا قول الفراء وقال صاحب النظم هذا على التقديم والتأخير لان المعنى ثم تدلى فدنا لان التدلى سبب الدنو قال بن الاعرابي تدلى اذا قرب بعد علو قال الكلبي المعنى دنا جبريل من محمد صلى الله عليه و سلم فقرب منه وقال الحسن وقتادة ثم دنا جبريل بعد استوائه في الافق الاعلى من الأرض فنزل إلى النبي صلى الله عليه و سلم وأما قوله تعالى فكان قاب قوسين أو أدنى فالقاب ما بين القبضة والسية ولكل قوس قابان والقاب في اللغة أيضا القدر وهذا هو المراد بالآية عند جميع المفسرين والمراد القوس التى يرمي عنها وهى القوس العرببة وخصت بالذكر على عادتهم وذهب جماعةالى أن المراد بالقوس الذراع هذا قول عبد الله بن مسعود وشقيق بن سلمة وسعيد بن جبير وأبى إسحاق السبيعى وعلى هذا معنى القوس ما يقاس به الشئ أى يذرع قالت عائشة رضى الله عنها وبن عباس والحسن وقتادة وغيرهم هذه المسافة كانت بين جبريل والنبي صلى الله عليه و سلم وقول الله تعالى أو أدنى معناه أو أقرب قال مقاتل بل أقرب وقال الزجاج خاطب الله تعالى العباد على لغتهم ومقدار فهمهم والمعنى أو أدنى فيما تقدرون أنتم والله تعالى عالم بحقائق الاشياء من غير شك ولكنه خاطبنا على ما جرت به عادتنا ومعنى الآية أن جبريل عليه السلام مع عظم خلقه وكثرة أجزائه دنا من النبى صلى الله عليه و سلم هذا الدنو والله أعلم
(3/11)

[ 178 ] قوله ( عن أبى ذر رضى الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم هل رأيت ربك فقال نور أنى أراه ) وفي الرواية الأخرى ( رأيت نورا ) أما قوله صلى الله عليه و سلم نور أنى أراه فهو بتنوين نور وبفتح الهمزة في أنى وتشديد النون وفتحها وأراه بفتح الهمزة هكذا رواه جميع الرواة في جميع الاصول والروايات ومعناه حجابه نور فكيف أراه قال الامام أبو عبد الله المازرى رحمه الله الضمير في أراه عائد على الله سبحانه وتعالى ومعناه أن النور منعنى من الرؤية كما جرت العادة باغشاء الأنوار الأبصار ومنعها من ادراك ما حالت بين الرائى وبينه وقوله صلى الله عليه و سلم ( رأيت نورا ) معناه رأيت النور فحسب ولم أر غيره قال وروى نورانى أراه بفتح الراء وكسر النون وتشديد الياء ويحتمل أن يكون معناه راجعا إلى ما قلناه أى خالق النور المانع من رؤيته فيكون من صفات الافعال قال القاضي عياض رحمه الله هذه الرواية لم تقع الينا ولا رأيتها في شئ من الاصول ومن المستحيل أن تكون ذات الله تعالى نورا اذ النور من جملة الأجسام والله سبحانه وتعالى يجل عن ذلك هذا مذهب جميع أئمة المسلمين ومعنى قوله تعالى الله نور السماوات والارض وما جاء في الأحاديث من تسميته سبحانه وتعالى بالنور معناه ذو نورهما وخالقه وقيل هادى أهل السماوات والأرض وقيل منور قلوب عباده المومنين وقيل معناه
(3/12)

ذو البهجة والضياء والجمال والله أعلم [ 179 ] قوله صلى الله عليه و سلم ( ان الله لا ينام ولا ينبغى له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور وفي رواية النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقة ) أما قوله صلى الله عليه و سلم لا ينام ولا ينبغى له أن ينام فمعناه أنه سبحانه وتعالى لا ينام وأنه يستحيل في حقه النوم فان النوم انغمار وغلبة على العقل يسقط به الاحساس والله تعالى منزه عن ذلك وهو مستحيل في حقه جل وعلا وأما قوله صلى الله عليه و سلم يخفض القسط ويرفعه فقال القاضي عياض قال الهروى قال بن قتيبة القسط الميزان وسمى قسطا لان القسط العدل وبالميزان يقع العدل قال والمراد أن الله تعالى يخفض الميزان ويرفعه بما يوزن من أعمال العباد المرتفعة ويوزن من أرزاقهم النازلة وهذا تمثيل لما يقدر تنزيله فشبه بوزن الميزان وقيل المراد بالقسط الرزق الذى هو قسط كل مخلوق يخفضه فيقتره ويرفعه فيوسعه والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه و سلم ( يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل ) وفي الرواية الثانية ( عمل النهار بالليل وعمل الليل بالنهار ) فمعنى الاول والله أعلم يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار الذى بعده وعمل النهار قبل عمل الليل الذى بعده ومعنى الرواية الثانية يرفع إليه عمل النهار في أول الليل الذى بعده ويرفع إليه عمل الليل في أول النهار الذى بعده فان الملائكة الحفظة يصعدون باعمال الليل بعد انقضائه في أول النهار ويصعدون بأعمال النهار بعد انقضائه في أول الليل والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه و سلم ( حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ) فالسبحات بضم السين والباء ورفع التاء في آخره وهي جمع سبحة قال صاحب العين والهروى وجميع الشارحين للحديث
(3/13)

من اللغويين والمحدثين معنى سبحات وجهه نوره وجلاله وبهاؤه وأما الحجاب فأصله في اللغة المنع والستر وحقيقة الحجاب انما تكون للاجسام المحدودة والله تعالى منزه عن الجسم والحد والمراد هنا المانع من رؤيته وسمى ذلك المانع نورا أو نارا لانهما يمنعان من الادراك في العادة لشعاعهما والمراد بالوجه الذات والمراد بما انتهى إليه بصره من خلقه جميع المخلوقات لان بصره سبحانه وتعالى محيط بجميع الكائنات ولفظة من لبيان الجنس لا للتبعيض والتقدير لو أزال المانع من رؤيته وهو الحجاب المسمى نورا أو نارا وتجلى لخلقه لأحرق جلال ذاته جميع مخلوقاته والله أعلم قوله ( حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو معاوية حدثنا الاعمش عن عمرو بن مرة عن أبى عبيدة عن أبي موسى ثم قال وفي رواية أبى بكر عن الأعمش ولم يقل حدثنا ) هذا الاسناد كله كوفيون وابو موسى الاشعرى بصرى كوفي واسم أبى بكر بن أبى شيبة عبد الله بن محمد بن ابراهيم وهو أبو شيبة واسم أبى كريب محمد بن العلاء وأبو معاوية محمد بن خارم بالخاء المعجمة والاعمش سليمان بن مهران وأبو موسى عبد الله بن قيس وكل هؤلاء تقدم بيانهم ولكن طال العهد بهم فأردت تجديده لمن لا يحفظهم وأما أبو عبيدة فهو بن عبد الله بن مسعود واسمه عبد الرحمن وفي هذا الاسناد لطيفتان من لطائف علم الاسناد احداهما أنهم كلهم كوفيون كما ذكرته والثانية أن فيه ثلاثة تابعيون يروى بعضهم عن بعض الاعمش وعمرو وأبو عبيدة وأما قوله وفي رواية أبى بكر عن الاعمش ولم يقل حدثنا فهو من احتياط مسلم رحمه الله وورعه واتقانه وهو أنه رواه عن أبى كريب وأبى
(3/14)

بكر فقال أبو كريب في روايته حدثنا أبو معاوية قال حدثنا الاعمش وقال أبو بكر حدثنا أبو معاوية عن الاعمش فلما اختلفت عبارتهما في كيفية رواية شيخهما أبى معاوية بينها مسلم رحمه الله فحصل فيه فائدتان احداهما أن حدثنا للاتصال باجماع العلماء وفي عن خلاف كما قدمناه في الفصول وغيرها والصحيح الذى عليه الجماهير من طوائف العلماء أنها أيضا للاتصال الا أن يكون قائلها مدلسا فبين مسلم ذلك والثانية أنه لو اقتصر على احدى العبارتين كان فيه خلل فإنه إن اقتصر على عن كان مفوتا لقوة حدثنا وراويا بالمعنى وان اقتصر على حدثنا كان زائدا في رواية أحدهما راويا بالمعنى وكل هذا مما يجتنب والله أعلم بالصواب