كتاب الجنائز
 
( كتاب الجنائز [ 916 ] الجنازة مشتقة من جنز إذا ستر ذكره بن فارس وغيره والمضارع يجنز بكسر النون والجنازة بكسر الجيم وفتحها والكسر أفصح ويقال بالفتح للميت وبالكسر للنعش عليه ميت ويقال عكسه حكاه صاحب المطالع والجمع جنائز بالفتح لا غير قوله صلى الله عليه و سلم لقنوا موتاكم لا إله إلا الله معناه من حضره الموت والمراد ذكروه لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه كما في الحديث من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة والأمر بهذا التلقين أمر ندب وأجمع العلماء على هذا التلقين وكرهوا الاكثار عليه والموالاة لئلا يضجر بضيق حاله وشدة كربه فيكره ذلك بقلبه ويتكلم بما لا يليق قالوا وإذا قاله مرة لا يكرر عليه إلا أن يتكلم بعده بكلام آخر فيعاد التعريض به ليكون آخر كلامه ويتضمن الحديث الحضور عند المحتضر لتذكيره وتأنيسه واغماض عينيه والقيام بحقوقه وهذا مجمع عليه قوله وحدثنا قتيبة حدثنا عبد العزيز الدراوردي وروح وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة أخبرنا خالد بن مخلد أخبرنا سليمان بن بلال جميعا بهذا الاسناد هكذا هو في جميع النسخ وهو صحيح قال أبو علي الغساني وغيره معناه عن عمارة بن غزية الذي سبق فيه الاسناد الأول ومعناه روى عنه الدراوردي وسليمان بن بلال وهو كما قاله )
(6/219)

أبو علي ولو قال مسلم جميعا عن عمارة بن غزية بهذا الاسناد لكان أحسن وأوضح وهو المعروف من عادته في الكتاب لكنه حذفه هنا لوضوحه عند أهل هذه الصنعة [ 918 ] قوله صلى الله عليه و سلم ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله عز و جل انا لله وانا إليه راجعون فيه فضيلة هذا القول وفيه دليل للمذهب المختار في الأصول أن المندوب مأمور به لأنه صلى الله عليه و سلم مأمور به مع أن الآية الكريمة تقتضي ندبه واجماع المسلمين منعقد عليه قوله صلى الله عليه و سلم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها قال القاضي أجرني بالقصر والمد حكاهما صاحب الأفعال وقال الأصمعي وأكثر أهل اللغة هو مقصور لا يمد ومعنى أجره الله أعطاه أجره وجزاء صبره وهمه في مصيبته وقوله صلى الله عليه و سلم وأخلف لي هو بقطع الهمزة وكسر اللام قال أهل اللغة يقال لمن ذهب له مال أو ولد أو قريب أو شيء يتوقع حصول مثله أخلف الله عليك أي رد عليك مثله فإن ذهب ما لا يتوقع مثله بأن ذهب والد أو عم أو أخ لمن لا جد له ولا والد له قيل خلف الله عليك بغير ألف أي كان الله
(6/220)

خليفة منه عليك وقولها وأنا غيور يقال امرأة غيري وغيور ورجل غيور وغيران قد جاء فعول في صفات المؤنث كثيرا كقولهم امرأة عروس وعروب وضحوك لكثيرة الضحك وعقبة كؤد وأرض صعود وهبوط وحدود وأشباهها قوله صلى الله عليه و سلم وادعو الله أن يذهب بالغيرة هي بفتح الغين ويقال أذهب الله الشيء وذهب به كقوله تعالى ذهب الله بنورهم قوله صلى الله عليه و سلم إلا أجره الله هو بقصر الهمزة ومدها والقصر أفصح وأشهر كما سبق قولها ثم عزم الله لي فقلتها
(6/221)

أي خلق في عزما وقد سبق في شرح أول خطبة مسلم أن فعل الله تعالى لا يسمى عزما من حيث أن حقيقة العزم حدوث رأى لم يكن والله منزه عن هذا فتأولوا قول أم سلمة على أن معناه خلق لي أو في عزما [ 919 ] قوله صلى الله عليه و سلم إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيرا فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون فيه الندب إلى قول الخير حينئذ من الدعاء والاستغفار له وطلب اللطف به والتخفيف عنه ونحوه وفيه حضور الملائكة حينئذ وتأمينهم [ 920 ] قوله صلى الله عليه و سلم وقد شق بصره هو بفتح الشين ورفع بصره وهو فاعل شق هكذا ضبطناه وهو المشهور وضبطه بعضهم بصره بالنصب وهو صحيح أيضا والشين مفتوحة بلا خلاف قال القاضي قال صاحب الأفعال يقال شق بصر الميت بصره ومعناه شخص كما في الرواية الأخرى وقال بن
(6/222)

السكيت في الاصلاح والجوهري حكاية عن بن السكيت يقال شق بصر الميت ولا تقل شق الميت بصره وهو الذي حضره الموت وصار ينظر إلى الشيء لا يرتد إليه طرفه قولها فأغمضه دليل على استحباب اغماض الميت وأجمع المسلمون على ذلك قالوا والحكمة فيه أن لا يقبح بمنظره لو ترك اغماضه قوله صلى الله عليه و سلم ان الروح إذا قبض تبعه البصر معناه إذا خرج الروح من الجسد يتبعه البصر ناظرا أين يذهب وفي الروح لغتان التذكير والتأنيث وهذا الحديث دليل للتذكير وفيه دليل لمذهب أصحابنا المتكلمين ومن وافقهم أن الروح أجسام لطيفة متخللة في البدن وتذهب الحياة من الجسد بذهابها وليس عرضا كما قاله آخرون ولا دما كما قاله آخرون وفيها كلام متشعب للمتكلمين قولها ثم قال اللهم اغفر لأبي سلمة إلى آخره فيه استحباب الدعاء للميت عند موته ولأهله وذريته بأمور الآخرة والدنيا قوله صلى الله عليه و سلم واخلفه في عقبه في الغابرين أي الباقين كقوله تعالى إلا امرأته كانت من الغابرين
(6/223)

[ 921 ] قوله صلى الله عليه و سلم شخص بصره بفتح الخاء أى ارتفع ولم يرتد قوله صلى الله عليه و سلم يتبع بصره نفسه المراد بالنفس هنا الروح قال القاضي وفيه أن الموت ليس بافناء وإعدام وإنما هو انتقال وتغير حال واعدام الجسد دون الروح الا ما استثنى من عجب الذنب قال وفيه حجة لمن يقول الروح والنفس بمعنى [ 922 ] قولها غريب وفي أرض غربة معناه أنه من أهل مكة ومات بالمدينة قولها أقبلت امرأة من الصعيد المراد بالصعيد هنا عوالي المدينة وأصل الصعيد ما كان على وجه الأرض قولها تسعدني أي تساعدني في البكاء والنوح [ 923 ] قوله صلى الله عليه و سلم ان لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء
(6/224)

عنده بأجل مسمى معناه الحث على الصبر والتسليم لقضاء الله تعالى وتقديره ان هذا الذي أخذ منكم كان له لا لكم فلم يأخذ إلا ما هو له فينبغي أن لا تجزعوا كما لا يجزع من استردت منه وديعة أو عارية وقوله صلى الله عليه و سلم وله ما أعطى معناه أن ما وهبه لكم ليس خارجا عن ملكه بل هو سبحانه وتعالى يفعل فيه ما يشاء وقوله صلى الله عليه و سلم وكل شيء عنده بأجل مسمى معناه اصبروا ولا تجزعوا فإن كل من يأت قد انقضى أجله المسمى فمحال تقدمه أو تأخره عنه فإذا علمتم هذا كله فاصبروا واحتسبوا ما نزل بكم والله أعلم وهذا الحديث من قواعد الاسلام المشتملة على جمل من أصول الدين وفروعه والآداب قوله ونفسه تقعقع كأنها في شنة هو بفتح التاء والقافين والشنة القربة البالية ومعناه لها صوت وحشرجة كصوت الماء إذا ألقى في القربة البالية قوله ففاضت عيناه فقال له سعد ما هذا يا رسول الله قال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء معناه أن سعدا ظن أن جميع أنواع البكاء حرام وأن دمع العين حرام وظن أن النبي صلى الله عليه و سلم نسي فذكره فأعلمه النبي صلى الله عليه و سلم أن مجرد البكاء ودمع بعين ليس بحرام ولا مكروه بل هو رحمة وفضيلة وإنما المحرم النوح والندب والبكاء المقرون بهما أو بأحدهما كما
(6/225)

سيأتي [ 924 ] في الأحاديث ان الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا أو يرحم وأشار إلى لسانه وفي الحديث الآخر العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول ما يسخط الله وفي الحديث الآخر ما لم يكن لقع أو لقلقة [ 924 ] قوله وجده في غشية هو بفتح الغين وكسر الشين وتشديد الياء قال القاضي هكذا رواية الأكثرين قال وضبطه بعضهم باسكان الشين وتخفيف الياء وفي رواية البخاري في غاشية وكله صحيح وفيه قولان أحدهما من يغشاه من أهله والثاني ما يغشاه من كرب الموت [ 924 ] قوله فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود فيه استحباب عيادة المريض وعيادة الفاضل
(6/226)

المفضول وعيادة الإمام والقاضي والعالم أتباعه [ 925 ] قوله ما علينا نعال ولا خفاف ولا قلانس ولا قمص فيه ما كانت الصحابة رضي الله عنهم من الزهد في الدنيا والتقلل منها واطراح فضولها وعدم الاهتمام بفاخر اللباس ونحوه وفيه جواز المشي حافيا وعيادة الإمام والعالم المريض مع أصحابه [ 926 ]
قوله صلى الله عليه و سلم الصبر عند الصدمة الأولى وفي الرواية الأخرى إنما الصبر معناه الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر الجزيل لكثرة المشقة فيه وأصل الصدم الضرب في شيء صلب ثم استعمل مجازا في كل مكروه حصل بغتة قوله أتى على امرأة تبكي على صبي لها فقال لها اتقي الله واصبري فيه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع كل أحد قولها وما تبالي بمصيبتي ثم قالت في آخره لم أعرفك فيه الاعتذار إلى أهل الفضل إذا أساء الإنسان أدبه معهم وفيه صحة قول الإنسان ما أبالي بكذا والرد على من زعم أنه لا يجوز اثبات الباء إنما يقال ما باليت كذا وهذا غلط بل الصواب جواز اثبات الباء وحذفها وقد كثر ذلك في الأحاديث قوله فلم نجد على بابه بوابين فيه ما كان عليه النبي
(6/227)

صلى الله عليه و سلم من التواضع وأنه ينبغي للإمام والقاضي إذا لم يحتج إلى بواب أن لا يتخذه وهكذا قال أصحابنا [ 927 ] قوله صلى الله عليه و سلم ان الميت ليعذب ببكاء أهله عليه وفي رواية ببعض بكاء أهله عليه وفي رواية ببكاء الحي وفي رواية يعذب في قبره بما نيح عليه وفي رواية من يبك عليه يعذب وهذه الروايات من رواية عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما وأنكرت عائشة ونسبتها إلى النسيان والاشتباه عليهما وأنكرت أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم قال ذلك واحتجت بقوله تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى قالت وإنما قال النبي صلى الله عليه و سلم في يهودية أنها تعذب وهم يبكون عليها يعني تعذب بكفرها في حال بكاء أهلها لا بسبب البكاء واختلف العلماء في هذه الأحاديث فتأولها الجمهور على من وصى بأن يبكي عليه ويناح بعد موته فنفذت وصيته فهذا يعذب ببكاء أهله عليه ونوحهم لأنه بسببه ومنسوب إليه قالوا فأما من بكى عليه أهله وناحوا من غير وصية منه فلا يعذب لقول الله تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى
(6/228)

قالوا وكان من عادة العرب الوصية بذلك ومنه قول طرفة بن العبد ... إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي على الجيب يا ابنة معبد ...
( قالوا فخرج الحديث مطلقا حملا على ما كان معتادا لهم وقالت طائفة هو محمول على من أوصى بالبكاء والنوح أو لم يوص بتركهما فمن أوصى بهما أو أهمل الوصية بتركهما يعذب بهما لتفريطه بإهمال الوصية بتركهما فأما من وصى بتركهما فلا يعذب بهما إذ لا صنع له فيهما ولا تفريط منه وحاصل هذا القول إيجاب الوصية بتركهما ومن أهملهما عذب بهما وقالت طائفة معنى الأحاديث أنهم كانوا ينوحون على الميت ويندبونه بتعديد شمائله ومحاسنه في زعمهم وتلك الشمائل قبائح في الشرع يعذب بها كما كانوا يقولون يا مؤيد النسوان ومؤتم الولدان ومخرب العمران ومفرق الأخدان ونحو ذلك مما يرونه شجاعة وفخرا وهو حرام شرعا وقالت طائفة معناه أنه يعذب بسماعه بكاء أهله ويرق لهم وإلى هذا ذهب محمد بن جرير الطبري وغيره وقال القاضي عياض وهو أولى الأقوال واحتجوا بحديث فيه أن النبي صلى الله عليه و سلم زجر امرأة عن البكاء على أبيها وقال ان أحدكم إذا بكى استعبر له صويحبه فيا عباد الله لا تعذبوا اخوانكم وقالت عائشة رضي الله عنها معنى الحديث أن الكافر أو غيره من أصحاب الذنوب يعذب في حال بكاء أهله عليه بذنبه لا ببكائهم والصحيح من هذه الأقوال ما قدمناه عن الجمهور وأجمعوا كلهم على اختلاف مذاهبهم على أن المراد بالبكاء هنا البكاء بصوت ونياحة لا مجرد دمع العين قوله ص في حديث محمد بن بشار يعذب في قبره بما نيح عليه وما نيح عليه )
(6/229)

باثبات الباء وحذفها وهما صحيحان وفي رواية باثبات في قبره وفي رواية بحذفه قوله فقام بحياله يبكي أي حذاءه وعنده قوله صلى الله عليه و سلم من يبكي عليه يعذب هكذا هو في الأصول يبكي بالياء وهو صحيح ويكون من بمعنى الذي ويجوز على لغة أن تكون شرطية وتثبيت الياء ومنه قول الشاعر ... ألم يأتيك والأنباء تنمى ...
( قوله فذكرت ذلك لموسى بن طلحة القائل فذكرت ذلك هو عبد الملك بن عمير قوله عولت عليه حفصة فقال يا حفصة أما سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول المعول عليه يعذب قال محققو أهل اللغة )
(6/230)

يقال عول عليه وأعول لغتان وهو البكاء بصوت وقال بعضهم لا يقال الا أعول وهذا الحديث يرد عليه [ 928 ]


الموضوع التالي


تابع كتاب الجنائز 1

الموضوع السابق


( كتاب الكسوف