( باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى وأن اليد العليا )
 
( هي المنفقة وأن السفلى هي الآخذة ) [ 1033 ] قوله صلى الله عليه و سلم في الصدقة ( اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة ) هكذا وقع في صحيح البخاري ومسلم العليا المنفقة من الانفاق وكذا ذكره أبو داود
(7/124)

عن أكثر الرواة قال ورواه عبد الوارث عن ايوب عن نافع عن بن عمر العليا المتعففة بالعين من العفة ورجح الخطابي هذه الرواية قال لأن السياق في ذكر المسألة والتعفف عنها والصحيح الرواية الأولى ويحتمل صحة الروايتين فالمنفقة أعلى من السائلة والمتعففة أعلى من السائلة وفي هذا الحديث الحث على الانفاق في وجوه الطاعات وفيه دليل لمذهب الجمهور أن اليد العليا هي المنفقة وقال الخطابي المتعففة كما سبق وقال غيره العليا الآخذة والسفلى المانعة حكاه القاضي والله أعلم والمراد بالعلو علو الفضل والمجد ونيل الثواب [ 1034 ] قوله صلى الله عليه و سلم ( وخير الصدقة عن ظهر غنى ) معناه أفضل الصدقة ما بقى صاحبها بعدها مستغنيا بما بقى معه وتقديره أفضل الصدقة ما أبقت بعدها غنى يعتمده صاحبها ويستظهر به على مصالحه وحوائجه وانما كانت هذه أفضل الصدقة بالنسبة إلى من تصدق بجميع ماله لأن من تصدق بالجميع يندم غالبا أو قد يندم اذا احتاج ويود أنه لم يتصدق بخلاف من بقي بعدها مستغنيا فانه لا يندم عليها بل يسر بها وقد اختلف العلماء في الصدقة بجميع ماله فمذهبنا أنه مستحب لمن لا دين عليه ولا له عيال لا يصبرون بشرط أن يكون ممن يصبر على الاضاقة والفقر فان لم تجتمع هذه الشروط فهو مكروه قال القاضي جوز جمهور العلماء وأئمة الأمصار الصدقة بجميع ماله وقيل يرد جميعها وهو مروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه وقيل ينفذ في الثلث هو مذهب أهل الشام وقيل ان زاد على النصف ردت الزيادة وهو محكى عن مكحول قال أبو جعفر والطبرى ومع جوازه فالمستحب أن لا يفعله وأن يقتصر على الثلث قوله صلى الله عليه و سلم ( وابدأ بمن تعول ) فيه تقديم نفقة نفسه وعياله لأنها منحصرة فيه بخلاف نفقة غيرهم وفيه الابتداء بالأهم فالأهم
(7/125)

في الأمور الشرعية [ 1035 ] قوله صلى الله عليه و سلم ( ان هذا المال خضرة حلوة ) شبهه في الرغبة فيه والميل إليه وحرص النفوس عليه بالفاكهة الخضراء الحلوة المستلذة فان الأخضر مرغوب فيه على انفراده والحلو كذلك على انفراده فاجتماعهما أشد وفيه اشارة إلى عدم بقائه لأن الخضروات لا تبقى ولا تراد للبقاء والله أعلم قوله صلى الله عليه و سلم ( فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه ومن أخذه باشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذى يأكل ولا يشبع ) قال العلماء اشراف النفس تطلعها إليه وتعرضها له وطمعها فيه وأما طيب النفس فذكر القاضي فيه احتمالين أظهرهما أنه عائد على الآخذ ومعناه من أخذه بغير سؤال ولا اشراف وتطلع بورك له فيه والثاني أنه عائد إلى الدافع ومعناه من أخذه ممن يدفع منشرحا بدفعه إليه طيب النفس لا بسؤال اضطره إليه أو نحوه مما لا تطيب معه نفس الدافع وأما قوله صلى الله عليه و سلم كالذي يأكل ولا يشبع فقيل هو الذي به داء لا يشبع بسببه وقيل يحتمل أن المراد التشبيه بالبهيمة الراعية وفي هذا الحديث وما قبله وما بعده الحث على التعفف والقناعة والرضا بما تيسر في عفاف وان كان قليلا والاجمال في الكسب وأنه لا يغتر الانسان بكثرة ما يحصل له باشراف ونحوه فانه لا يبارك له فيه وهو قريب من قول الله تعالى يمحق الله الربا ويربى الصدقات [ 1036 ] قوله صلى الله عليه و سلم ( يا بن آدم
(7/126)

انك أن تبذل الفضل خير لك وأن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف ) هو بفتح همزة أن ومعناه أن بذلت الفاضل عن حاجتك وحاجة عيالك فهو خير لك لبقاء ثوابه وان امسكته فهو شر لك لأنه إن أمسك عن الواجب استحق العقاب عليه وان أمسك عن المندوب فقد نقص ثوابه وفوت مصلحة نفسه في آخرته وهذا كله شر ومعنى لا تلام على كفاف أن قدر الحاجة لا لوم على صاحبه وهذا اذا لم يتوجه في الكفاف حق شرعي كمن كان له نصاب زكوى ووجبت الزكاة بشروطها وهو محتاج إلى ذلك النصاب لكفافه وجب عليه اخراج الزكاة ويحصل كفايته من جهة مباحة ومعنى أبدأ بمن تعول أن العيال والقرابة أحق من الأجانب وقد سبق