( باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية )
 
( اذا كان سفره مرحلتين فأكثر وأن الأفضل لمن أطاقه بلا ضرر أن يصوم ) ( ولمن يشق عليه أن يفطر ) اختلف العلماء في صوم رمضان في السفر فقال بعض أهل الظاهر لا يصح صوم رمضان في السفر فان صامه لم ينعقد ويجب قضاؤه لظاهر الآية ولحديث ليس من البر الصيام في السفر وفي الحديث الآخر أولئك العصاة وقال جماهير العلماء وجميع أهل الفتوى يجوز صومه في السفر وينعقد ويجزيه واختلفوا في أن الصوم أفضل أم الفطر أم هما سواء فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي والأكثرون الصوم أفضل لمن أطاقه بلا مشقة ظاهرة ولا ضرر فان تضرر به فالفطر أفضل واحتجوا بصوم النبي صلى الله عليه و سلم وعبد الله بن رواحة وغيرهما وبغير ذلك من الأحاديث ولأنه يحصل به براءة الذمة في الحال وقال سعيد بن المسيب والأوزاعي وأحمد واسحاق وغيرهم الفطر أفضل مطلقا وحكاه بعض أصحابنا قولا للشافعي وهو غريب واحتجوا بما سبق لأهل الظاهر وبحديث حمزة بن عمرو الأسلمى المذكور في مسلم في آخر الباب وهو قوله صلى الله عليه و سلم هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه وظاهره ترجيح الفطر وأجاب الأكثرون بأن هذا كله فيمن يخاف ضررا أو يجد مشقة كما هو صريح في الأحاديث واعتمدوا حديث أبي سعيد الخدرى المذكور في الباب قال كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر فلا يجد الصائم على المفطر ولا
(7/229)

المفطر على الصائم يرون أن من وجد قوة فصام فان ذلك حسن ويرون أن من وجد ضعفا فأفطر فان ذلك حسن وهذا صريح في ترجيح مذهب الأكثرين وهو تفضيل الصوم لمن أطاقه بلا ضرر ولا مشقة ظاهرة وقال بعض العلماء الفطر والصوم سواء لتعادل الأحاديث والصحيح قول الأكثرين والله أعلم [ 1113 ] قوله ( خرج عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر ) يعنى بالفتح فتح مكة وكان سنة ثمان من الهجرة والكديد بفتح الكاف وكسر الدال المهملة وهي عين جارية بينها وبين المدينة سبع مراحل أو نحوها وبينها وبين مكة قريب من مرحلتين وهي أقرب إلى المدينة من عسفان قال القاضي عياض الكديد عين جارية على اثنين وأربعين ميلا من مكة قال وعسفان قرية جامعة بها منبر على ستة وثلاثين ميلا من مكة قال والكديد ما بينها وبين قديد وفي الحديث الآخر فصام حتى بلغ كراع الغميم وهو بفتح الغين المعجمة وهو واد أمام عسفان بثمانية أميال يضاف إليه هذا الكراع وهو جبل أسود متصل به والكراع كل أنف سال من جبل أو حرة قال القاضي وهذا كله في سفر واحد في غزاة الفتح قال وسميت هذه المواضع في هذه الأحاديث لتقاربها وان كانت عسفان متباعدة شيئا عن هذه المواضع لكنها كلها مضافة اليها ومن عملها فاشتمل اسم عسفان عليها قال وقد يكون علم حال الناس ومشقتهم في بعضها فأفطر وامرهم بالفطر في بعضها هذا كلام القاضي وهو كما قال الا في مسافة عسفان فان المشهور أنها على أربعة برد من مكة وكل بريد اربعة فراسخ وكل فرسخ ثلاثة أميال فالجملة ثمانية وأربعون ميلا هذا هو الصواب المعروف الذي قاله الجمهور قوله ( فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر ) فيه دليل لمذهب الجمهور أن الصوم والفطر جائزان وفيه أن المسافر له أن يصوم بعض رمضان دون بعض ولا يلزمه بصوم بعضه اتمامه وقد غلط بعض العلماء في فهم هذا الحديث فتوهم أن الكديد وكراع الغميم قريب من المدينة وأن قوله فصام حتى بلغ الكديد وكراع الغميم كان في اليوم الذي خرج فيه من المدينة فزعم أنه خرج من المدينة صائما فلما بلغ كراع الغميم في يومه افطر في نهار واستدل به
(7/230)

هذا القائل على أنه اذا سافر بعد طلوع الفجر صائما له أن يفطر في يومه ومذهب الشافعي والجمهور أنه لا يجوز الفطر في ذلك اليوم وانما يجوز لمن طلع عليه الفجر في السفر واستدلال هذا القائل بهذا الحديث من العجائب الغريبة لأن الكديد وكراع الغميم على سبع مراحل أو أكثر من المدينة والله أعلم قوله ( وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره صلى الله عليه و سلم ) هذا محمول على ما علموا منه النسخ أو رجحان الثاني مع جوازهما والا فقد طاف صلى الله عليه و سلم على بعيره وتوضأ مرة مرة ونظائر ذلك من الجائزات التي عملها مرة أو مرات قليلة لبيان جوازها وحافظ
(7/231)

على الأفضل منها قوله ( قال بن عباس فصام رسول الله صلى الله عليه و سلم وأفطر فمن شاء صام ومن شاء أفطر ) فيه دلالة لمذهب الجمهور في جواز الصوم والفطر جميعا [ 1114 ] قوله ( فقيل له بعد ذلك أن بعض الناس قد صام فقال أولئك العصاة أولئك العصاة ) هكذا هو مكرر مرتين وهذا محمول على من تضرر بالصوم أو أنهم أمروا بالفطر أمرا جازما لمصلحة بيان جوازه
(7/232)

فخالفوا الواجب وعلى التقديرين لا يكون الصائم اليوم في السفر عاصيا اذا لم يتضرر به ويؤيد التأويل الأول قوله في الرواية الثانية إن الناس قد شق عليهم الصيام [ 1115 ] قوله ( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر فرأى رجلا قد اجتمع عليه الناس وقد ظلل عليه فقال ماله قالوا رجل صائم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس من البر أن تصوموا في السفر ) معناه اذا شق عليكم وخفتم الضرر وسياق الحديث يقتضى هذا التأويل وهذه الرواية مبينة للروايات المطلقة ليس من البر الصيام في السفر ومعنى الجميع فيمن تضرر بالصوم قوله في حديث محمد بن رافع ( فصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة لثلاث عشرة خلت من رمضان ) ثم ذكر عن أبي سعيد قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم لست عشرة مضت من رمضان وفي رواية
(7/233)

لثمان عشرة خلت وفي رواية في ثنتى عشرة وفي رواية لسبع عشرة أو تسع عشرة والمشهور في كتب المغازى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج في غزوة الفتح من المدينة لعشر خلون من رمضان ودخلها لتسع عشرة خلت منه ووجه الجمع بين هذه الروايات أن
(7/234)

قوله ( فتحزم المفطرون ) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا فتحزم بالحاء المهملة والزاي وكذا نقله القاضي عن أكثر رواة صحيح مسلم قال ووقع لبعضهم فتخدم بالخاء المعجمة والدال المهملة قال وادعوا أنه صواب الكلام لأنهم كانوا يخدمون قال القاضي والأول صحيح أيضا ولصحته ثلاثة أوجه أحدها معناه شدوا أوساطهم للخدمة والثاني أنه استعارة للاجتهاد في الخدمة ومنه اذا دخل العشر اجتهد وشد المئزر والثالث أنه من الحزم وهو الاحتياط والأخذ بالقوة والاهتمام بالمصلحة [ 1120 ] قوله ( وهو مكثور
(7/236)

عليه ) أي عنده كثيرون من الناس قوله في حديث حمزة بن عمرو الأسلمى ( يا رسول الله انى رجل أسرد الصوم أفأصوم في السفر فقال صم ان شئت وأفطر ان شئت ) فيه دلالة لمذهب الجمهور أن الصوم والفطر جائزان وأما الأفضل منهما فحكمه ما سبق في أول الباب وفيه دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أن صوم الدهر وسرده غير مكروه لمن لا يخاف منه ضررا ولا يفوت به حقا بشرط فطر يومى العيدين والتشريق لأنه أخبر بسرده ولم ينكر عليه بل أقره عليه وأذن له فيه في السفر ففي الحضر أولى وهذا محمول على أن حمزة بن عمرو كان يطيق السرد بلا ضرر ولا تفويت حق كما قال في الرواية التي بعدها أجد بي قوة على الصيام وأما انكاره صلى الله عليه و سلم على بن عمرو بن العاص صوم الدهر فلأنه علم صلى الله عليه و سلم أنه سيضعف عنه وهكذا جرى فانه ضعف في آخر عمره وكان يقول يا ليتنى قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحب العمل الدائم وان قل ويحثهم عليه [ 1121 ] قوله ( عن أبي مراوح
(7/237)

هو بضم الميم وكسر الواو وبالحاء المهملة واسمه سعد