( باب صوم يوم عاشوراء )
 
اتفق العلماء على أن صوم يوم عاشوراء اليوم سنة ليس بواجب واختلفوا في حكمه في أول الاسلام حين شرع صومه قبل صوم رمضان فقال أبو حنيفة كان واجبا واختلف أصحاب الشافعي فيه على وجهين مشهورين أشهرهما عندهم أنه لم يزل سنة من حين شرع ولم يكن واجبا قط في هذه الأمة ولكنه كان متأكد الاستحباب فلما نزل صوم رمضان صار مستحبا دون ذلك الاستحباب والثاني كان واجبا كقول أبي حنيفة وتظهر فائدة الخلاف في اشتراط نية الصوم الواجب من الليل فأبو حنيفة لا يشترطها ويقول كان الناس مفطرين أول يوم عاشوراء ثم أمروا بصيامه بنية من النهار ولم يؤمروا بقضائه بعد صومه واصحاب الشافعي يقولون كان مستحبا فصح بنية من النهار ويتمسك أبو حنيفة بقوله أمر بصيامه والأمر للوجوب وبقوله فلما فرض رمضان قال من شاء صامه ومن شاء تركه ويحتج الشافعية بقوله هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه والمشهور في اللغة أن عاشوراء وتاسوعاء ممدودان وحكى قصرهما [ 1125 ] قوله صلى الله عليه و سلم ( من شاء صامه ومن شاء تركه ) معناه أنه ليس متحتما
(8/4)

فأبو حنيفة يقدره ليس بواجب والشافعية يقدرونه ليس متأكدا أكمل التأكيد وعلى المذهبين فهو سنة مستحبة الآن من حين قال النبي صلى الله عليه و سلم هذا الكلام قال القاضي عياض وكان بعض السلف يقول كان صوم عاشوراء فرض وهو باق على فرضيته لم ينسخ قال وانقرض القائلون بهذا وحصل الاجماع على أنه ليس بفرض وانما هو مستحب وروى عن بن عمر كراهة قصد صومه وتعيينه بالصوم والعلماء مجمعون على استحبابه وتعيينه للاحاديث وأما قول بن مسعود كنا نصومه ثم ترك فمعناه أنه لم يبق كما كان من الوجوب وتأكد الندب قوله في حديث قتيبة بن سعيد ومحمد بن رمح ( ان قريشا كانت تصوم عاشوراء في الجاهلية ثم أمر
(8/5)

رسول الله صلى الله عليه و سلم بصيامه حتى فرض رمضان ) ضبطوا أمر هنا بوجهين أظهرهما بفتح الهمزة
(8/6)

والميم والثاني بضم الهمزة وكسر الميم ولم يذكر القاضي عياض غيره [ 1129 ] وأما قول معاوية ( أين علماؤكم ) إلى آخره فظاهره أنه سمع من يوجبه أو يحرمه أو يكرهه فأراد إعلامه وإنه ليس بواجب ولا محرم ولا مكروه وخطب به في ذلك الجمع العظيم ولم ينكر عليه قوله عن معاوية ( سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لهذا اليوم هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه وأنا صائم فمن أحب منكم أن يصوم فليصم ومن أحب منكم أن يفطر فليفطر ) هذا كله من كلام النبي صلى الله عليه و سلم هكذا
(8/8)

جاء مبينا في رواية النسائي [ 1130 ] قوله ( فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسئلوا عن ذلك ) وفي رواية فسألهم المراد بالروايتين أمر من سألهم والحاصل من مجموع الأحاديث أن يوم عاشوراء كانت الجاهلية من كفار قريش وغيرهم واليهود يصومونه وجاء الاسلام بصيامه متأكدا ثم
(8/9)

بقى صومه أخف من ذلك التأكد والله أعلم قوله ( ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم ) الشارة بالشين المعجمة بلا همز وهي الهيئة الحسنة والجمال أي يلبسونهن لباسهم الحسن الجميل ويقال لها الشارة والشورة بضم الشين وأما الحلى فقال أهل اللغة هو بفتح الحاء واسكان اللام مفرد وجمعه حلى بضم الحاء وكسرها والضم أشهر وأكثر وقد قرئ بهما في السبع وأكثرهم على الضم واللام مكسورة والياء مشددة فيهما قوله ( ان النبي صلى الله عليه و سلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون عاشوراء وقالوا ان موسى صامه وانه اليوم الذي نجوا فيه من فرعون وغرق فرعون فصامه النبي صلى الله عليه و سلم وأمر بصيامه وقال نحن أحق بموسى منهم ) قال
(8/10)

المازرى خبر اليهود غير مقبول فيحتمل أن النبي صلى الله عليه و سلم أوحى إليه بصدقهم فيما قالوه أو تواتر عنده النقل بذلك حتى حصل له العلم به قال القاضي عياض ردا على المازرى قد روى مسلم أن قريشا كانت تصومه فلما قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة صامه فلم يحدث له بقول اليهود حكم يحتاج إلى الكلام عليه وانما هي صفة حال وجواب سؤال فقوله صامه ليس فيه أنه ابتدأ صومه حينئذ بقولهم ولو كان هذا لحملناه على أنه أخبر به من أسلم من علمائهم كابن سلام وغيره قال القاضي وقد قال قال بعضهم يحتمل أنه صلى الله عليه و سلم كان يصومه بمكة ثم ترك صيامه حتى علم ما عند أهل الكتاب فيه فصامه قال القاضي وما ذكرناه أولى بلفظ الحديث قلت المختار قوله المازرى ومختصر ذلك أنه صلى الله عليه و سلم كان يصومه كما تصومه قريش في مكه ثم قدم المدينة فوجد اليهود يصومونه فصامه أيضا بوحى أو تواتر أو اجتهاد لا بمجرد أخبار آحادهم والله أعلم قوله ( عن بن عباس أن يوم عاشوراء هو تاسع المحرم وأن النبي
(8/11)

صلى الله عليه و سلم
( كان يصوم التاسع ) [ 1134 ] وفي الرواية الأخرى ( عن بن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم صام يوم عاشوراء فقالوا يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فاذا كان العام المقبل ان شاء الله تعالى صمنا اليوم التاسع قال فلم يأت العام المقبل حتى توفى رسول الله صلى الله عليه و سلم ) هذا تصريح من بن عباس بأن مذهبه أن عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرم ويتأوله على أنه مأخوذ من اظماء الابل فان العرب تسمى اليوم الخامس من أيام الورد ربعا وكذا باقي الايام على هذه النسبة فيكون التاسع عشرا وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف إلى أن عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم وممن قال ذلك سعيد بن المسيب والحسن البصرى ومالك وأحمد واسحاق وخلائق وهذا ظاهر الاحاديث ومقتضى اللفظ وأما تقدير اخذه من الاظماء فبعيد ثم ان حديث بن عباس الثاني يرد عليه لانه قال أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم عاشوراء فذكروا أن اليهود والنصارى تصومه فقال أنه في العام المقبل يصوم التاسع وهذا تصريح بأن الذي كان يصومه ليس هو التاسع فتعين كونه العاشر قال الشافعي وأصحابه وأحمد واسحاق وآخرون يستحب صوم التاسع والعاشر جميعا لأن النبي صلى الله عليه و سلم صام العاشر ونوى صيام التاسع وقد سبق في )
(8/12)

صحيح مسلم في كتاب الصلاة من رواية أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم قال بعض العلماء ولعل السبب في صوم التاسع مع العاشر أن لا يتشبه باليهود في افراد العاشر وفي الحديث اشارة إلى هذا وقيل للاحتياط في تحصيل عاشوراء والأول أولى والله أعلم [ 1135 ] قوله ( من كان لم يصم فليصم ومن كان أكل فليتم صيامه إلى الليل ) وفي رواية من كان أصبح صائما فليتم صومه ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه معنى الروايتين أن من كان نوى الصوم فليتم صومه ومن كان لم ينو الصوم ولم يأكل أو أكل فليمسك بقية يومه حرمة لليوم كما لو أصبح يوم الشك مفطرا ثم ثبت أنه من رمضان يجب امساك بقية يومه حرمة لليوم واحتج أبو حنيفة بهذا الحديث لمذهبه أن صوم رمضان وغيره من الفرض يجوز نيته في النهار ولا يشترط تبييتها قال لأنهم نووا في النهار وأجزأهم قال الجمهور لا يجوز رمضان ولا غيره من الصوم الواجب الا بنية من الليل وأجابوا عن هذا الحديث بأن المراد امساك بقية النهار لا حقيقة
(8/13)

الصوم والدليل على هذا أنهم أكلوا ثم أمروا بالاتمام وقد وافق أبو حنيفة وغيره على أن شرط اجزاء النية في النهار في الفرض والنفل أن لا يتقدمها مفسد للصوم من أكل أو غيره وجواب آخر أن صوم عاشوراء لم يكن واجبا عند الجمهور كما سبق في أول الباب وانما كان سنة متأكدة وجواب ثالث أنه ليس فيه أنه يجزيهم ولا يقضونه بل لعلهم قضوه وقد جاء في سنن أبي داود في هذا الحديث فأتموا بقية يوم واقضوه [ 1136 ] قوله ( اللعبة من العهن ) هو الصوف مطلقا وقيل الصوف المصبوغ قوله ( فنجعل لهم اللعبة من العهن فاذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناها اياه عند الافطار ) هكذا هو في جميع النسخ عند الافطار قال القاضي فيه محذوف وصوابه حتى يكون عند الافطار فبهذا يتم الكلام وكذا وقع في البخاري من رواية مسدد وهو معنى ما ذكره مسلم في الرواية الأخرى فاذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم وفي هذا الحديث تمرين الصبيان على الطاعات وتعويدهم العبادات ولكنهم ليسوا مكلفين قال القاضي وقد روى عن عروة أنهم متى أطاقوا الصوم وجب عليهم وهذا غلط مردود بالحديث الصحيح رفع القلم عن ثلاثة عن الصبى حتى يحتلم وفي رواية يبلغ والله أعلم