( باب تحريم مكة وتحريم صيدها وخلاها وشجرها )
 
( ولقطتها الا لمنشد على الدوام ) [ 1353 ] قوله صلى الله عليه و سلم ( يوم الفتح فتح مكة لا هجرة ولكن جهاد ونية ) قال العلماء الهجرة من دار الحرب إلى دار الاسلام باقية إلى يوم القيامة وفي تأويل هذا الحديث قولان أحدهما لا هجرة بعد الفتح من مكة لأنها صارت دار إسلام وإنما تكون الهجرة من دار الحرب وهذا يتضمن معجزة لرسول الله صلى الله عليه و سلم بأنها تبقى دار الاسلام لا يتصور منها الهجرة والثاني معناه لا هجرة بعد الفتح فضلها كفضلها قبل الفتح كما قال الله تعالى لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل الآية وأما قوله صلى الله عليه و سلم ( ولكن جهاد ونية ) فمعناه ولكن لكم طريق إلى تحصيل الفضائل التي في معنى الهجرة وذلك بالجهاد ونية الخير في كل شيء قوله صلى الله عليه و سلم ( وإذا استنفرتم فانفروا ) معناه اذا دعاكم السلطان إلى غزو فاذهبوا وسيأتى بسط أحكام الجهاد وبيان الواجب منه في بابه ان شاء الله
(9/123)

تعالى قوله صلى الله عليه و سلم ( ان هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ) وفي الأحاديث التي ذكرها مسلم بعد هذا ان إبراهيم حرم مكة فظاهرها الاختلاف وفي المسألة خلاف مشهور ذكره الماوردى في الأحكام السلطانية وغيره من العلماء في وقت تحريم مكة فقيل أنها ما زالت محرمة من يوم خلق الله السماوات والأرض وقيل ما زالت حلالا كغيرها إلى زمن ابراهيم صلى الله عليه و سلم ثم ثبت لها التحريم من زمن إبراهيم وهذا القول يوافق الحديث الثاني والقول الأول يوافق الحديث الأول وبه قال الأكثرون وأجابوا عن الحديث الثاني بأن تحريمها كان ثابتا من يوم خلق الله السماوات والأرض ثم خفى تحريمها واستمر خفاؤه إلى زمن ابراهيم فأظهره وأشاعه لا أنه ابتدأة ومن قال بالقول الثاني أجاب عن الحديث الأول بأن معناه ان الله كتب في اللوح المحفوظ أو في غيره يوم خلق الله تعالى السماوات والأرض ان ابراهيم سيحرم مكة بأمر الله تعالى والله أعلم قوله صلى الله عليه و سلم ( فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وأنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلى ولم يحل لي الا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ) وفي رواية القتل بدل القتال وفي الرواية الأخرى لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها فقولوا له أن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلغ الشاهد الغائب هذه الأحاديث ظاهرة في تحريم القتال بمكة قال الامام أبو الحسن الماوردى البصري صاحب الحاوي من أصحابنا في كتابه الأحكام السلطانية من خصائص الحرم أن لا يحارب أهله فإن بغوا على أهل العدل فقد قال بعض الفقهاء يحرم قتالهم بل يضيق عليهم حتى يرجعوا إلى الطاعة ويدخلوا في أحكام أهل العدل قال وقال جمهور الفقهاء يقاتلون على بغيهم اذا لم يمكن ردهم عن البغى الا بالقتال لأن قتال البغاة من
(9/124)

حقوق الله التي لا يجوز إضاعتها فحفظها أولى في الحرم من إضاعتها هذا كلام الماوردى وهذا الذي نقله عن جمهور الفقهاء هو الصواب وقد نص عليه الشافعي في كتاب اختلاف الحديث من كتب الامام ونص عليه الشافعي أيضا في آخر كتابه المسمى بسير الواقدى من كتب الأم وقال القفال المروزى من أصحابنا في كتابه شرح التلخيص في أول كتاب النكاح في ذكر الخصائص لا يجوز القتال بمكة قال حتى لو تحصن جماعة من الكفار فيها لم يجز لنا قتالهم فيها وهذا الذي قاله القفال غلط نبهت عليه حتى لا يغتر به وأما الجواب عن الأحاديث المذكورة هنا فهو ما أجاب به الشافعي في كتابه سير الواقدي أن معناها تحريم نصب القتال عليهم وقتالهم بما يعم كالمنجنيق وغيره اذا أمكن إصلاح الحال بدون ذلك بخلاف ما اذا تحصن الكفار في بلد آخر فإنه يجوز قتالهم على كل وجه وبكل شيء والله أعلم قوله صلى الله عليه و سلم ( لا يعضد شوكه ولا يختلى خلاها ) وفي رواية لا تعضد بها شجرة وفي رواية لا يختلي شوكها وفي رواية لا يخبط شوكها قال أهل اللغة العضد القطع والخلا بفتح الخاء المعجمة مقصور هو الرطب من الكلأ قالوا الخلا والعشب اسم للرطب منه والحشيش والهشيم اسم لليابس منه والكلأ مهموز يقع على الرطب واليابس وعد بن مكى وغيره من لحن العوام اطلاقهم اسم الحشيش على الرطب بل هو مختص باليابس ومعنى يختلي يؤخذ ويقطع ومعنى يخبط يضرب بالعصا ونحوها ليسقط ورقه واتفق العلماء على تحريم قطع أشجارها التي لا يستنبتها الآدميون في العادة وعلى تحريم قطع خلاها واختلفوا فيما ينبته الآدميون واختلفوا في ضمان الشجر اذا قطعه فقال مالك يأثم ولا فدية عليه وقال الشافعي وأبو حنيفة عليه الفدية واختلفا فيها فقال الشافعي في الشجرة الكبيرة بقرة وفي الصغيرة شاه وكذا جاء عن بن عباس وبن الزبير وبه قال أحمد وقال أبو حنيفة الواجب في الجميع القيمة قال الشافعي ويضمن الخلا بالقيمة ويجوز عند الشافعي ومن وافقه رعى البهائم في كلأ الحرم وقال أبو حنيفة وأحمد ومحمد لا يجوز وأما صيد الحرم فحرام بالاجماع على الحلال والمحرم فإن قتله فعليه الجزاء عند العلماء كافة إلا داود فقال يأثم ولا جزاء عليه
(9/125)

ولو دخل صيد من الحل إلى الحرم فله ذبحه وأكله وسائر أنواع التصرف فيه هذا مذهبنا ومذهب مالك وداود وقال أبو حنيفة وأحمد لا يجوز ذبحه ولا التصرف فيه بل يلزمه إرساله قالا فإن أدخله مذبوحا جاز أكله وقاسوه على المحرم واحتج أصحابنا والجمهور بحديث يا أبا عمير ما فعل النغير وبالقياس على ما إذا دخل من الحل شجرة أو كلأ ولأنه ليس بصيد حرم قوله صلى الله عليه و سلم ( لا يعضد شوكه ) فيه دلالة لمن يقول بتحريم جميع نبات الحرم من الشجر والكلأ سواء الشوك المؤذى وغيره وهو الذي اختاره المتولى من أصحابنا وقال جمهور أصحابنا لا يحرم الشوك لأنه مؤذ فأشبه الفواسق الخمس ويخصون الحديث بالقياس والصحيح ما اختاره المتولى والله أعلم قوله صلى الله عليه و سلم ( وإنه لم يحل القتال فيه لأحد من قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار ) هذا مما يحتج به من يقول أن مكة فتحت عنوة وهو مذهب أبي حنيفة وكثيرين أو الأكثرين وقال الشافعي وغيره فتحت صلحا وتأولوا هذا الحديث على أن القتال كان جائزا له صلى الله عليه و سلم في مكة ولو احتاج إليه لفعله ولكن ما احتاج إليه والله أعلم قوله صلى الله عليه و سلم ( ولا ينفر صيده ) تصريح بتحريم التنفير وهو الازعاج وتنحيته من موضعه فإن نفره عصى سواء تلف أم لا لكن إن تلف في نفاره قبل سكون نفاره ضمنه المنفر وإلا فلا ضمان قال العلماء ونبه صلى الله عليه و سلم بالتنفير على الاتلاف ونحوه لأنه إذا حرم التنفير فالاتلاف أولى قوله صلى الله عليه و سلم ( ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ) وفي رواية لا تحل لقطتها إلا لمنشد المنشد هو المعرف وأما طالبها فيقال له ناشد وأصل النشد والانشاد رفع الصوت ومعنى الحديث لا تحل لقطتها لمن يريد أن يعرفها سنة ثم يتملكها كما في باقي البلاد بل لا تحل إلا لمن يعرفها أبدا ولا يتملكها وبهذا قال الشافعي وعبد الرحمن بن مهدى وأبو عبيد وغيرهم وقال مالك يجوز تملكها بعد تعرفها سنة كما في سائر البلاد وبه قال بعض أصحاب الشافعي
(9/126)

ويتأولون الحديث تأويلات ضعيفة واللقطة بفتح القاف على اللغة المشهورة وقيل بإسكانها وهي الملقوط قوله ( الا الاذخر ) هو نبت معروف طيب الرائحة وهو بكسر الهمزة والخاء قوله ( فانه لقينهم وبيوتهم ) وفي رواية نجعله في قبورنا وبيوتنا قينهم بفتح القاف هو الحداد والصائغ ومعناه يحتاج إليه القين في وقود النار ويحتاج إليه في القبور لتسد به فرج اللحد المتخللة بين اللبنات ويحتاج إليه في سقوف البيوت يجعل فوق الخشب قوله ( فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( الا الأذخر ) هذا محمول على أنه صلى الله عليه و سلم أوحى إليه في الحال باستثناء الأذخر وتخصيصه من العموم أو أوحى إليه قبل ذلك أنه إن طلب أحد استثناء شيء فاستثنه أو أنه اجتهد في الجميع والله أعلم [ 1354 ] قوله ( عن أبي شريح العدوى ) هكذا ثبت في الصحيحين العدوى في هذا الحديث ويقال له أيضا الكعبي والخزاعي قيل اسمه خويلد بن عمرو وقيل عمرو بن خويلد وقيل عبد الرحمن بن عمرو وقيل هانئ بن عمرو أسلم قبل فتح مكة وتوفى بالمدينة سنة ثمان وستين قوله ( وهو يبعث البعوث إلى مكة ) يعنى لقتال بن الزبير قوله ( سمعته أذناى ووعاه قلبى وأبصرته عيناى ) أراد بهذا كله المبالغة في تحقيق حفظه إياه وتيقنه زمانه ومكانه ولفظه قوله صلى الله عليه و سلم ( ان مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس ) معناه أن تحريمها بوحي الله تعالى لا أنها اصطلح الناس على تحريمها بغير أمر الله قوله صلى الله عليه و سلم ( ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة ) هذا قد يحتج به من يقول الكفار ليسوا بمخاطبين بفروع الاسلام والصحيح عندنا وعند آخرين أنهم مخاطبون بها كما هم مخاطبون بأصوله وإنما قال ص
(9/127)

فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الأخر لأن المؤمن هو الذي ينقاد لاحكامنا وينزجر عن محرمات شرعنا ويستثمر أحكامه فجعل الكلام فيه وليس فيه أن غير المؤمن ليس مخاطبا بالفروع قوله ( يسفك ) بكسر الفاء على المشهور وحكى ضمها أي يسيله قوله صلى الله عليه و سلم ( فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى آخره ) فيه دلالة لمن يقول فتحت مكة عنوة وقد سبق في هذا الباب بيان الخلاف فيه وتأويل الحديث عند من يقول فتحت صلحا أن معناه دخلها متأهبا للقتال لو احتاج إليه فهو دليل الجواز له تلك الساعة قوله صلى الله عليه و سلم ( وليبلغ الشاهد الغائب ) هذا اللفظ قد جاءت به أحاديث كثيرة وفيه التصريح بوجوب نقل العلم وإشاعة السنن والأحكام قوله ( لا يعيذ عاصيا ) أي لا يعصمه قوله ( ولا فارا بخربة ) هي بفتح الخاء المعجمة وإسكان الراء هذا هو المشهور ويقال بضم الخاء أيضا حكاها القاضي وصاحب المطالع وآخرون وأصلها سرقة الابل وتطلق على كل خيانة وفي صحيح البخاري
(9/128)

إنها البلية وقال الخليل هي الفساد في الدين من الخارب وهو اللص المفسد في الأرض وقيل هي العيب [ 1355 ] قوله صلى الله عليه و سلم ( ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما ان يفدى وإما ان يقتل ) معناه ولي المقتول بالخياران شاء قتل القاتل وان شاء أخذ فداءه وهي الدية وهذا تصريح بالحجة للشافعي وموافقيه ان الولي بالخيار بين أخذ الدية وبين القتل وإن له أجبار الجاني على أي الأمرين شاء ولي القتيل وبه قال سعيد بن المسيب وبن سيرين وأحمد واسحاق وأبو ثور وقال مالك ليس للولي الا القتل أو العفو وليس له الدية الا برضى الجاني وهذا خلاف نص هذا الحديث وفيه أيضا دلالة لمن يقول القاتل عمدا يجب عليه أحد الأمرين القصاص أو الدية وهو أحد القولين للشافعي والثاني أن الواجب القصاص لا غير وإنما تجب الدية بالاختيار وتظهر فائدة الخلاف في صور منها لو عفا الولي عن القصاص ان قلنا الواجب أحد الأمرين سقط القصاص ووجبت الدية وإن قلنا الواجب القصاص بعينه لم يجب قصاص ولا دية وهذا الحديث محمول على القتل عمدا فإنه لا يجب القصاص في غير العمد قوله ( فقام أبو شاه ) هو بهاء تكون هاء في الوقف والدرج ولا يقال بالتاء قالوا ولا يعرف اسم أبي شاه هذا وإنما يعرف بكنيته قوله صلى الله عليه و سلم ( اكتبوا لأبي شاه ) هذا تصريح بجواز كتابه العلم غير القرآن ومثله حديث علي رضي الله عنه ما عنده الا ما في هذه الصحيفة ومثله حديث أبي هريرة كان عبد الله بن عمر يكتب ولا أكتب وجاءت أحاديث بالنهي عن كتابة غير القرآن فمن السلف من منع كتابة العلم وقال جمهور السلف بجوازه ثم أجمعت الأمة
(9/129)

بعدهم على استحبابه وأجابوا عن أحاديث النهي بجوابين أحدهما أنها منسوخة وكان النهي في أول الأمر قبل اشتهار القرآن لكل أحد فنهى عن كتابة غيره خوفا من اختلاطه واشتباهه فلما اشتهر وأمنت تلك المفسدة أذن فيه والثاني أن النهي نهى تنزيه لمن وثق بحفظه وخيف اتكاله على الكتابة والاذن لمن لم يوثق بحفظه والله أعلم