( باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد )
 
( وغير ذلك من قليل وكثير واستحباب كونه خمسمائة درهم لمن لا يجحف به ) قوله ( حدثنا يعقوب ) يعنى بن عبد الرحمن القارىء هو القارىء بتشديد الياء منسوب إلى القارة قبيلة معروفة وسبق بيانه [ 1425 ] قولها ( جئت أهب لك نفسى ) مع سكوته صلى الله عليه و سلم فيه دليل لجواز هبة المرأة نكاحها له كما قال الله وامرأة مؤمنة ان وهبت نفسها للنبي ان أراد النبى أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قال أصحابنا فهذه الاية وهذا الحديث
(9/211)

دليلان لذلك فإذا وهبت امرأة نفسها له صلى الله عليه و سلم فتزوجها بلا مهر حل له ذلك ولا يجب عليه بعد ذلك مهرها بالدخول ولا بالوفاة ولا بغير ذلك بخلاف غيره فإنه لا يخلو نكاحه وجوب مهر اما مسمى وأما مهر المثل وفي انعقاد نكاح النبي صلى الله عليه و سلم بلفظ الهبة وجهان لاصحابنا أحدهما ينعقد لظاهر الأية وهذا الحديث والثاني لا ينعقد بلفظ الهبة بل لا ينعقد الا بلفظ التزويج أو الانكاح كغيره من الأمة فإنه لا ينعقد الا بأحد هذين اللفظين عندنا بلا خلاف ويحمل هذا القائل الآية والحديث على أن المراد بالهبة أنه لا مهر لأجل العقد بلفظ الهبة وقال أبو حنيفة ينعقد نكاح كل أحد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد وبمثل مذهبنا قال الثورى وأبو ثور وكثيرون من أصحاب مالك وغيرهم وهو احدى الروايتين عن مالك والرواية الاخرى عنه أنه ينعقد بلفظ الهبة والصدقة والبيع اذا قصد به النكاح سواء ذكر الصداق أم لا ولا يصح بلفظ الرهن والاجارة والوصية ومن أصحاب مالك من صححه بلفظ الاحلال والاباحة حكاه القاضي عياض قوله ( فنظر اليها رسول الله صلى الله عليه و سلم فصعد النظر فيها وصوبه ثم طأطأ ) أما صعد فبتشديد العين أي رفع وأما صوب فبتشديد الواو أي خفض وفيه دليل لجواز النظر لمن أراد أن يتزوج امرأة وتأمله إياها وفيه استحباب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح ليتزوجها وفيه أنه يستحب لمن طلبت منه حاجه لا يمكنه قضاؤها أن يسكت سكوتا يفهم السائل منه ذلك ولا يخجله بالمنع الا إذا لم يحصل الفهم الا بصريح المنع فيصرح قال الخطابي وفيه جواز نكاح المرأة من غير أن تسأل هل هي في عدة أم لا حملا على ظاهر الحال قال وعادة الحكام يبحثون عن ذلك احتياطا قلت قال الشافعي لا يزوج القاضي من جاءته لطلب الزواج حتى
(9/212)

يشهد عدلان أنه ليس لها ولي خاص وليست في زوجيه ولا عدة فمن اصحابنا من قال هذا شرط واجب والأصح عندهم أنه استحباب واحتياط وليس بشرط قوله صلى الله عليه و سلم ( انظر ولو خاتم من حديد ) هكذا هو في النسخ خاتم من حديد وفي بعض النسخ خاتما وهذا واضح والأول صحيح أيضا أي ولو حضر خاتم من حديد وفيه دليل على أنه يستحب أن لا ينعقد النكاح الا بصداق لأنه أقطع للنزاع وأنفع للمرأة من حيث أنه لو حصل طلاق قبل الدخول وجب نصف المسمى فلو لم تكن تسمية لم يجب صداق بل تجب المتعة فلو عقد النكاح بلا صداق صح قال الله تعالى لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة فهذا تصريح بصحة النكاح والطلاق من غير مهر ثم يجب لها المهر وهل يجب بالعقد أم بالدخول فيه خلاف مشهور وهما قولان للشافعي أصحهما بالدخول وهو ظاهر هذه الاية وفي هذا الحديث أنه يجوز أن يكون الصداق قليلا وكثيرا مما يتمول إذا تراضى به الزوجان لأن خاتم الحديد في نهاية من القلة وهذا مذهب الشافعي وهو مذهب جماهير العلماء من السلف والخلف وبه قال ربيعة وأبو الزناد وبن أبي ذئب ويحيى بن سعيد والليث بن سعد والثوري والأوزاعي ومسلم بن خالد الزنجي وبن أبي ليلى وداود وفقهاء أهل الحديث وبن وهب من أصحاب مالك قال القاضي هو مذهب العلماء كافة من الحجازيين والبصريين والكوفيين والشاميين وغيرهم أنه يجوز ما تراضى به الزوجان من قليل وكثير كالسوط والنعل وخاتم الحديد ونحوه وقال مالك أقله ربع دينار كنصاب السرقة قال القاضي هذا مما انفرد به مالك وقال ابو حنيفة وأصحابه أقله عشر دراهم وقال بن شبرمة أقله خمسة دراهم اعتبارا بنصاب القطع في السرقة عندهما وكره النخعي أن يتزوج بأقل من أربعين درهما وقال مرة عشرة وهذه المذاهب سوى مذهب الجمهور مخالفة للسنة وهم محجوجون بهذا الحديث الصحيح الصريح وفي هذا الحديث جواز اتخاذ خاتم الحديد وفيه خلاف للسلف حكاه القاضي ولأصحابنا في كراهته وجهان أصحهما لا يكره لأن الحديث في النهي عنه ضعيف وقد أوضحت المسألة في شرح المهذب وفيه استحباب تعجيل تسليم المهر اليها قوله ( لا والله يا رسول الله ولا خاتم من حديد ) فيه جواز الحلف من غير استحلاف ولا ضرورة لكن قال اصحابنا يكره من
(9/213)

غير حاجة وهذا كان محتاجا ليؤكد قوله وفيه جواز تزويج المعسر وتزوجه قوله ( ولكن هذا ازاري فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما تصنع بإزارك ان لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء ) فيه دليل على نظر كبير القوم في مصالحهم وهدايته اياهم إلى ما فيه الرفق بهم وفيه جواز لبس الرجل ثوب امرأته اذا رضيت أو غلب على ظنه رضاها وهو المراد في هذا الحديث قوله صلى الله عليه و سلم ( اذهب فقد ملكتها بما معك ) هكذا هو في معظم النسخ وكذا نقله القاضي عن رواية الأكثرين ملكتها بضم الميم وكسر اللام المشددة على ما لم يسم فاعله وفي بعض النسخ ملكتكها بكافين وكذا رواه البخاري وفي الرواية الاخرى زوجتكها قال القاضي قال الدارقطنى رواية من روى ملكتها وهم قال والصواب رواية من روى زوجتكها قال وهم أكثر وأحفظ قلت ويحتمل صحة اللفظين ويكون جرى لفظ التزويج أولا فملكها ثم قال له اذهب فقد ملكتها بالتزويج السابق والله أعلم وفي هذا الحديث دليل لجواز كون الصداق تعليم القرآن وجواز الاستئجار لتعليم القرآن وكلاهما جائز عند الشافعي وبه قال عطاء والحسن بن صالح ومالك واسحاق وغيرهم ومنعه جماعة منهم الزهري وأبو حنيفة وهذا الحديث مع الحديث الصحيح إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله يردان قول من منع ذلك ونقل القاضي عياض جواز الاستئجار لتعليم القرآن عن
(9/214)

العلماء كافة سوي أبي حنيفة قولها ( كان صداق رسول الله صلى الله عليه و سلم لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشا قالت أتدري ما النش قلت لا قالت نصف أوقية فتلك خمسمائة درهم ) أما الأوقية فبضم الهمزة وبتشديد الياء والمراد أوقية الحجاز وهي أربعون درهما وأما النش فبنون مفتوحة ثم شين معجمة مشددة واستدل أصحابنا بهذا الحديث على أنه يستحب كون الصداق خمسمائة درهم والمراد في حق من يحتمل ذلك فإن قيل فصداق أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه و سلم كان أربعة آلاف درهم وأربعمائة دينار فالجواب أن هذا القدر تبرع به النجاشي من ماله اكراما
(9/215)

للنبي صلى الله عليه و سلم لا أن النبي صلى الله عليه و سلم أداه او عقد به والله أعلم [ 1427 ] قوله ( ان النبي صلى الله عليه و سلم رأى على عبد الرحمن أثر صفرة قال ما هذا ) فيه أنه يستحب للامام والفاضل تفقد أصحابه والسؤال عما يختلف من أحوالهم وقوله ( أثر صفرة ) وفي رواية في غير كتاب مسلم رأى عليه صفرة وفي رواية ردع من زعفران والردع براء ودال وعين مهملات هو أثر الطيب والصحيح في معنى هذا الحديث أنه تعلق به أثر من الزعفران وغيره من طيب العروس ولم يقصده ولا تعمد التزعفر فقد ثبت في الصحيح النهى عن التزعفر للرجال وكذا نهى الرجال عن الخلوق لأنه شعار النساء وقد نهى الرجال عن التشبه بالنساء فهذا هو الصحيح في معنى الحديث وهو الذي اختاره القاضي والمحققون قال القاضي وقيل أنه يرخص في ذلك للرجل العروس وقد جاء ذلك في أثر ذكره أبو عبيد أنهم كانوا يرخصون في ذلك للشاب أيام عرسه قال وقيل لعله كان يسيرا فلم ينكر قال وقيل كان في اول الاسلام من تزوج لبس ثوبا مصبوغا علامة لسروره وزواجه قال وهذا غير معروف وقيل يحتمل أنه كان في ثيابه دون بدنه ومذهب مالك وأصحابه جواز لبس الثياب المزعفرة وحكاه مالك عن علماء المدينة وهذا مذهب بن عمر وغيره وقال الشافعي وأبو حنيفة لا يجوز ذلك للرجل قوله ( تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب ) قال القاضي قال الخطابي النواة اسم لقدر معروف عندهم فسروها بخمسة دراهم من ذهب قال القاضي كذا فسرها أكثر العلماء وقال أحمد بن حنبل هي ثلاثة دراهم وثلث وقيل المراد نواة التمر أي وزنها من ذهب والصحيح الأول وقال بعض المالكية النواة ربع دينار عند أهل المدينة وظاهر كلام أبي عبيد أنه دفع خمسة دراهم قال ولم يكن هناك ذهب انما هي خمسة دراهم تسمى نواة كما تسمى الأربعون أوقية قوله صلى الله عليه و سلم ( فبارك الله لك ) فيه استحباب الدعاء للمتزوج وأن يقال بارك الله لك أو نحوه وسبق في الباب قبله ايضاحه قوله صلى الله عليه و سلم ( أو لم ولو بشاة ) قال العلماء من أهل اللغة والفقهاء وغيرهم الوليمة الطعام المتخذ للعرس مشتقة
(9/216)

من الولم وهو الجمع لأن الزوجين يجتمعان قاله الأزهري وغيره وقال الأنباري أصلها تمام الشيء واجتماعه والفعل منها أو لم قال أصحابنا وغيرهم الضيافات ثمانية أنواع الوليمة للعرس والخرس بضم الخاء المعجمة ويقال الخرص أيضا بالصاد المهملة للولادة والاعذار بكسر الهمزة وبالعين المهملة والذال المعجمة للختان والوكيرة للبناء والنقيعة لقدوم المسافر مأخوذه من النقع وهو الغبار ثم قيل إن المسافر يصنع الطعام وقيل يصنعه غيره له والعقيقة يوم سابع الولادة والوضيمة بفتح الواو وكسر الضاد المعجمة الطعام عند المصيبة والمأدبه بضم الدال وفتحها الطعام المتخذ ضيافة بلا سبب والله أعلم واختلف العلماء في وليمة العرس هل هي واجبة أم مستحبة والأصح عند أصحابنا أنها سنة مستحبة ويحملون هذا الأمر في هذا الحديث على الندب وبه قال مالك وغيره وأوجبها داود وغيره واختلف العلماء في وقت فعلها فحكى القاضي أن الأصح عند مالك وغيره أنه يستحب فعلها بعد الدخول وعن جماعة من المالكية استحبابها عند العقد وعن بن حبيب المالكي استحبابها عند العقد وعند الدخول وقوله
(9/217)

صلى الله عليه و سلم
( أولم ولو بشاة دليل على انه يستحب للموسر أن لا ينقص عن شاة ونقل القاضي الاجماع على أنه لا حد لقدرها المجزئ بل بأي شيء أولم من الطعام حصلت الوليمة وقد ذكر مسلم بعد هذا وفي وليمة عرس صفية أنها كانت بغير لحم وفي وليمة زينب أشبعنا خبزا ولحما وكل هذا جائز تحصل به الوليمة لكن يستحب أن تكون على قدر حال الزوج قال القاضي واختلف السلف في تكرارها أكثر من يومين فكرهته طائفة ولم تكرهه طائفة قال واستحب أصحاب مالك للموسر كونها أسبوعا )