( باب بيان أن تخييره امرأته لا يكون طلاقا الا بالنية )
 
[ 1475 ] قوله ( لما أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلى حتى تستأمرى أبويك قالت قد علم أن أبوى لم يكونا ليامراني بفراقه إنما بدأ بها لفضيلتها وقوله صلى الله عليه و سلم ( فلا عليك أن لا تعجلي ) معناه ما يضرك أن لا تعجلى وإنما قال لها هذا شفقة عليها وعلى أبويها ونصيحة لهم في بقائها عنده صلى الله عليه و سلم فإنه خاف أن يحملها صغر سنها وقلة تجاربها على اختيار الفراق فيجب فراقها فتضر هي وأبواها وباقي
(10/78)

النسوة بالاقتداء بها وفي هذا الحديث منقبة ظاهرة لعائشة ثم لسائر أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وفيه المبادرة إلى الخير وإيثار أمور الآخرة على الدنيا وفيه نصيحة الانسان صاحبه وتقديمه في ذلك ما هو أنفع في الآخرة [ 1476 ] قولها ( ان كان ذلك إلى لم أوثر على نفسي أحدا ) هذه المنافسة فيه صلى الله عليه و سلم ليست لمجرد الاستمتاع ولمطلق العشرة وشهوات النفوس وحظوظها التي تكون من بعض الناس بل هي منافسة في أمور الآخرة والقرب من سيد الأولين والآخرين والرغبة فيه وفي خدمته ومعاشرته والاستفادة منه وفي قضاء حقوقه وحوائجه وتوقع نزول الرحمة والوحى عليه عندها ونحو ذلك ومثل هذا حديث بن عباس وقوله في القدح لا أوثر بنصيبي منك أحدا ونظائر ذلك كثيره [ 1477 ] قولها ( خيرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم نعده طلاقا ) وفي رواية فلم يكن طلاقا وفي رواية فاخترناه فلم يعده طلاقا وفي رواية فاخترناه فلم يعددها علينا شيئا وفي بعض النسخ فلم يعدها علينا شيئا في هذه الأحاديث دلالة لمذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وجماهير العلماء أن من خير زوجته فاختارته لم يكن ذلك طلاقا ولا يقع به فرقة وروي عن علي وزيد بن ثابت والحسن والليث بن سعد أن نفس التخيير يقع به طلقة بائنة سواء اختارت زوجها أم لا وحكاه الخطابي والنقاش عن مالك قال القاضي
(10/79)

لا يصح هذا عن مالك ثم هو مذهب ضعيف مردود بهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة ولعل
(10/80)

القائلين به لم تبلغهم هذه الأحاديث والله أعلم [ 1478 ] قوله ( واجما ) هو بالجيم قال أهل اللغة هو الذي اشتد حزنه حتى أمسك عن الكلام يقال وجم بفتح الجيم وجوما قوله ( لأقولن شيئا يضحك النبي صلى الله عليه و سلم ) وفي بعض النسخ أضحك النبي صلى الله عليه و سلم فيه استحباب مثل هذا وأن الانسان اذا رأى صاحبه مهموما حزينا يستحب له أن يحدثه بما يضحكه أو يشغله ويطيب نفسه وفيه فضيلة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه قوله ( فوجأت عنقها ) وقوله
(10/81)

يجأ عنقها هو بالجيم وبالهمزة يقال وجأ يجأ اذا طعن [ 1479 ] قوله ( عن سماك أبي زميل ) هو بضم الزاي وفتح الميم قوله ( فإذا الناس ينكتون بالحصى ) هو بتاء مثناة بعد الكاف أي يضربون الأرض كفعل المهموم المفكر قولها ( فإذا الناس ينكتون بالحصى ) هو بتاء مثناة بعد الكاف أي يضربون الأرض كفعل المهموم المفكر قولها ( عليك بعيبتك ) هي بالعين المهملة ثم ياء مثناة تحت ثم ياء موحدة والمراد عليك بوعظ بنتك حفصة قال أهل اللغة العيبة في كلام العرب وعاء يجعل الانسان فيه أفضل ثيابه ونفيس متاعه فشبهت ابنته بها قوله ( هو في المشربة ) هي بفتح الراء وضمها قوله ( فإذا أنا برباح ) هو بفتح الراء وبالباء الموحدة قوله ( قاعدا على أسكفة المشربة ) هي بضم الهمزة والكاف وتشديد الفاء وهي عتبة الباب السفلى قوله ( على نقير من خشب ) هو بنون
(10/82)

مفتوحة ثم قاف مكسورة هذا هو الصحيح الموجود في جميع النسخ وذكر القاضي أنه بالفاء بدل النون وهو فقير بمعنى مفقور مأخوذ من فقار الظهر وهو جذع فيه درج قوله ( وإذا أفيق معلق ) هو بفتح الهمزة وكسر الفاء وهو الجلد الذي لم يتم دباغه وجمعه أفق بفتحها كأديم وأدم
(10/83)

وقد أفق أديمه بفتحها يأفقه بكسر الفاء قوله ( تحسر الغضب عن وجهه ) أي زال وانكشف قوله ( وحتى كشر فضحك ) هو بفتح الشين المعجمة المخففة أي أبدى أسنانه تبسما ويقال أيضا في الغضب وقال بن السكيت كشر وبسم وابتسم وافتر كله بمعنى واحد فإن زاد قيل قهقه وزهدق وكركر قوله ( أتشبث بالجذع ) هو بالثاء المثلثة في آخره أي استمسك
(10/84)

قوله ( فبينما أنا في أمر أئتمره ) معناه أشاور فيه نفسي وأفكر ومعنى بينما وبينا أي بين أوقات ائتمارى وكذا ما اشبهه وسبق بيانه
(10/85)

قوله ( حتى أدخل على حفصة ) هو بفتح اللام قوله ( وكان لي صاحب من الأنصار اذا غبت أتاني بالخبر واذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر ) في هذا استحباب حضور مجالس العلم واستحباب التناوب في حضور العلم اذا لم يتيسر لكل واحد الحضور بنفسه قوله ( من ملوك غسان ) الأشهر ترك صرف غسان وقيل يصرف وسبق إيضاحه في أول الكتاب قوله ( فقلت جاء الغساني فقال أشد من ذلك اعتزل رسول الله صلى الله عليه و سلم أزواجه ) فيه ما كانت الصحابة رضي الله عنهم عليه من الاهتمام بأحوال رسول الله صلى الله عليه و سلم والقلق التام لما يقلقه أو يغضبه قوله ( رغم أنف حفصة ) هو بفتح الغين وكسرها يقال رغم يرغم رغما
(10/86)

ورغما ورغما بفتح الراء وضمها وكسرها أي لصق بالرغام وهو التراب هذا هو الأصل ثم استعمل في كل من عجز من الانتصاف وفي الذل والانقياد كرها قوله ( فآخذ ثوبي فأخرج حتى جئت ) فيه استحباب التجمل بالثوب والعمامة ونحوهما عند لقاء الأئمة والكبار احتراما لهم قوله ( في مشربه له يرتقى اليها بعجلها ) وقع في بعض النسخ بعجلها وفي بعضها بعجلتها وفي بعضها بعجلة وكله صحيح والأخيرة أجود قال بن قتيبة وغيره هي درجة من النخل كما قال في الرواية السابقة جذع قوله ( وإن عند رجليه قرظا مضبورا ) وقع في بعض الأصول مضبورا بالضاد المعجمة وفي بعضها بالمهملة وكلاهما صحيح أي مجموعا قوله ( وعند رأسه أهبا معلقة ) بفتح الهمزة والهاء وبضمهما لغتان مشهورتان جمع إهاب وهو الجلد قبل الدباغ على قول الأكثرين وقيل الجلد مطلقا وسبق بيانه في آخر كتاب الطهارة قوله ( فرأيت أثر الحصير في جنب رسول الله صلى الله عليه و سلم فبكيت فقال ما يبكيك فقلت يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أما ترضى أن يكون لهما الدنيا ولك الآخرة ) هكذا هو في الأصول
(10/87)

ولك الآخرة وفي بعضها لهم الدنيا وفي أكثرها لهما بالتثنية وأكثر الروايات في غير هذا الموضع لهم الدنيا ولنا الآخرة وكله صحيح قوله ( وكان آلى منهن شهرا ) هو بمد الهمزة وفتح اللام ومعناه حلف لا يدخل عليهن شهرا وليس هو من الايلاء المعروف في اصطلاح الفقهاء ولا له حكمه وأصل الايلاء في اللغة الحلف على الشيء يقال منه آلى يؤالى ايلاء تأليا وائتلى ائتلاء وصار في عرف الفقهاء مختصا بالحلف على الامتناع من وطء الزوجة ولا خلاف في هذا الا ما حكى عن بن سيرين أنه قال الايلاء الشرعي محمول على ما يتعلق بالزوجة من ترك جماع أو كلام أو انفاق قال القاضي عياض لا خلاف بين العلماء أن مجرد الايلاء لا يوجب في الحال طلاقا ولا كفارة ولا مطالبة ثم اختلفوا في تقدير مدته فقال علماء الحجاز ومعظم الصحابة والتابعين ومن بعدهم المؤلى من حلف على أكثر من أربعة أشهر فإن حلف على أربعة فليس بمؤل وقال الكوفيون هو من حلف على أربعة أشهر فأكثر وشذ بن أبي ليلى والحسن وبن شبرمة في آخرين فقالوا اذا حلف لا يجامعها يوما أو أقل ثم تركها حتى مضت أربعة أشهر فهو مؤل وعن بن عمر أن كل من وقت في يمينه وقتا وإن طالت مدته فليس بمؤل وإنما المؤلى من حلف على الأبد قال ولا خلاف بينهم أنه لا يقع عليه طلاق قبل أربعة أشهر ولا خلاف أنه لو جامع قبل انقضاء المدة سقط الايلاء فأما اذا لم يجامع حتى انقضت أربعة أشهر فقال الكوفيون يقع الطلاق وقال علماء الحجاز ومصر وفقهاء أصحاب الحديث وأهل الظاهر كلهم يقال للزوج أما أن تجامع وإما أن تطلق فإن امتنع طلق القاضي عليه وهو المشهور من مذهب مالك وبه قال الشافعي وأصحابه وعن مالك رواية كقول الكوفيون وللشافعي قول أنه لا يطلق القاضي عليه بل يجبر على الجماع
(10/88)

أو الطلاق ويعزر على ذلك ان امتنع واختلف الكوفيون هل يقع طلاق رجعى أم بائن فأما الآخرون فاتفقوا على أن الطلاق الذي يوقعه هو أو القاضي يكون رجعيا الا أن مالكا يقول لا تصح فيها الرجعة حتى يجامع الزوج في العدة قال القاضي عياض ولم يحفظ هذا الشرط عن أحد سوى مالك ولو مضت ثلاثة أقراء في الأشهر الأربعة فقال جابر بن زيد اذا طلق انقضت عدتها بتلك الاقراء وقال الجمهور يجب استئناف العدة واختلفوا في أنه هل يشترط للايلاء أن تكون يمينه في حال الغضب ومع قصد الضرر فقال جمهورهم لا يشترط بل يكون مؤليا في كل حال وقال مالك والأوزاعي لا يكون مؤليا اذا حلف لمصلحة ولده لفطامه وعن علي وبن عباس رضي الله عنه أنه لا يكون مؤليا الا اذا حلف على وجه الغضب قوله ( حدثنا سفيان بن عيينه عن يحيى بن سعيد سمع عبيد بن حنين مولى العباس ) هكذا هو في جميع النسخ مولى العباس قالوا وهذا قول سفيان بن عيينة قال البخارى لا يصح قول بن عيينة هذا وقال مالك هو مولى آل زيد بن الخطاب وقال محمد بن جعفر بن أبي كثير هو مولى بني زريق قال القاضي وغيره الصحيح عند الحفاظ وغيرهم في هذا قول مالك قوله في هذه الرواية ( كنت أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ) هكذا هو في جميع النسخ على عهد قال
(10/89)

القاضي إنما قال على عهده توقيرا لهما والمراد تظاهرتا عليه في عهده كما قال الله تعالى وإن تظاهرا عليه وقد صرح في سائر الروايات بأنهما تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه و سلم قوله ( فسكبت على يديه فتوضأ ) فيه جواز الاستعانة في الوضوء وقد سبق ايضاحها في أوائل الكتاب وهو أنها ان كانت لعذر فلا بأس بها وإن كانت بغيره فهي خلاف الأولى ولا يقال مكروهة على
(10/90)

الصحيح قوله ( ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم ) قوله أن كانت بفتح الهمزة والمراد بالجارة هنا الضرة وأوسم أحسن وأجمل والوسامة الجمال قوله ( غسان تنعل الخيل هو بضم التاء
(10/91)

قوله ( متكئ على رمل حصير ) هو بفتح الراء وإسكان الميم وفي غير هذه الرواية رمال بكسر الراء يقال رملت الحصير وأرملته اذا نسجته قوله صلى الله عليه و سلم ( أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا ) قال القاضي عياض هذا مما يحتج به من يفضل الفقر على الغنى لما في مفهومه أن بمقدار ما يتعجل من طيبات الدنيا يفوته من الآخرة مما كان مدخرا له لو لم يتعجله قال وقد
(10/92)

يتأوله الآخرون بأن المراد أن حظ الكفار هو ما نالوه من نعيم الدنيا ولا حظ لهم في الآخرة والله أعلم قوله ( من شدة موجدته ) أي الغضب [ 1475 ] قوله صلى الله عليه و سلم ( ان الشهر تسع وعشرون ) أي هذا الشهر وفي هذه الأحاديث جواز احتجاب الامام والقاضي ونحوهما في بعض الأوقات لحاجاتهم المهمة وفيها أن الحاجب اذا علم منع الآذان بسكوت المحجوب لم يأذن والغالب من عادة النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان لا يتخذ حاجبا واتخذه حاجبا واتخذه في هذا اليوم للحاجة وفيه وجوب الاستئذان على الانسان في منزله وإن علم أنه وحده لأنه قد يكون على حالة يكره الاطلاع عليه فيها وفيه تكرار الاستئذان إذا لم يؤذن وفيه أنه لا فرق بين الرجل الجليل وغيره في أنه يحتاج إلى الاستئذان وفيه تأديب الرجل ولده صغيرا كان أو كبيرا أو بنتا مزوجة لأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما أدبا بنتيهما ووجأ كل واحد منهما بنته وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه و سلم من التقلل من الدنيا والزهادة فيها وفيه جواز سكنى الغرفة ذات الدرج واتخاذ الخزانة لأثاث البيت وفيه ما كانوا عليه من حرصهم على طلب العلم وتناوبهم فيه وفيه جواز قبول خبر الواحد لأن عمر رضي الله عنه كان يأخذ عن صاحبه الأنصارى ويأخذ الأنصارى عنه وفيه أخذ العلم عمن كان عنده وإن كان الآخذ أفضل من المأخوذ منه كما أخذ عمر عن هذا الأنصاري وفيه أن الانسان اذا رأى صاحبه مهموما وأراد إزالة همه ومؤانسته بما يشرح صدره ويكشف همه ينبغي له أن يستأذنه في ذلك كما قال
(10/93)

عمر رضى الله عنه استأنس يا رسول الله ولأنه قد يأتي من الكلام بما لا يوافق صاحبه فيزيدهما وربما أحرجه وربما تكلم بما لا يرتضيه وهذا من الآداب المهمة وفيه توقير الكبار وخدمتهم وهيبتهم كما فعل بن عباس مع عمر وفيه الخطاب بالألفاظ الجميلة كقوله أن كانت جارتك ولم يقل ضرتك والعرب تستعمل هذا لما في لفظ الضرة من الكراهة وفيه جواز قرع باب غيره للاستئذان وشدة الفزع للأمور المهمة وفيه جواز نظر الإنسان إلى نواحى بيت صاحبه وما فيه إذا علم عدم كراهة صاحبه لذلك وقد كره السلف فضول النظر وهو محمول على ما إذا علم كراهته لذلك وشك فيها وفيه أن للزوج هجران زوجته وإعتزاله في بيت آخر إذا جرى منها سبب يقتضيه وفيه جواز قوله لغيره رغم أنفه إذا أساء كقول عمر رغم أنف حفصة وبه قال عمر بن عبد العزيز وآخرون وكرهه مالك وفيه فضيلة عائشة للابتداء بها في التخيير وفي الدخول بعد انقضاء الشهر وفيه غير ذلك والله أعلم