( باب وجوب الاحداد في عدة الوفاة ( وتحريمه في غير ذلك إلا ثلاثة أيام )
 
قال أهل اللغة الاحداد والحداد مشتق من الحد وهو المنع لأنها تمنع الزينة والطيب يقال أحدت المرأة تحد احدادا وحدت تحد بضم الحاء وتحد بكسرها حدا كذا قال الجمهور أنه يقال أحدت وحدت وقال الاصمعى لا يقال الا أحدت رباعيا ويقال امرأه حاد ولا يقال حادة وأما الاحداد في الشرع فهو ترك الطيب والزينة وله تفاصيل مشهورة في كتب الفقه [ 1486 ] قوله )
(10/111)

صلى الله عليه و سلم
( ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث الا على زوج أربعة أشهر وعشرا ) فيه دليل على وجوب الاحداد على المعتدة من وفاة زوجها وهو مجمع عليه في الجملة وإن اختلفوا في تفصيله فيجب على كل معتدة عن وفاة سواء المدخول بها وغيرها والصغيرة والكبيرة والبكر والثيب والحرة والأمة والمسلمة والكافرة هذا مذهب الشافعى والجمهور وقال أبو حنيفة وغيره من الكوفيين وأبو ثور وبعض المالكية لا يجب على الزوجة الكتابية بل يختص بالمسلمة لقوله صلى الله عليه و سلم لا يحل لامرأة تؤمن بالله فخصه بالمؤمنة ودليل الجمهور أن المؤمن هو الذى يشمل خطاب الشارع وينتفع به وينقاد له فلهذا قيد به وقال أبو حنيفة أيضا لا احداد على الصغيرة ولا على الزوجة الأمة وأجمعوا على أنه لا احداد على أم الولد ولا على الأمة اذا توفى عنهما سيدهما ولا على الزوجة الرجعية واختلفوا في المطلقة ثلاثا فقال عطاء وربيعة ومالك والليث والشافعى وبن المنذر لا احداد عليها وقال الحكم وأبو حنيفة والكوفيون وأبو ثور وأبو عبيد عليها الاحداد وهو قول ضعيف للشافعى وحكى القاضي قولا عن الحسن البصرى أنه لا يجب الاحداد على المطلقة ولا على المتوفى عنها وهذا شاذ غريب ودليل من قال لا احداد على المطلقة ثلاثا قوله صلى الله عليه و سلم الا على الميت فخص الاحداد بالميت بعد تحريمه في غيره قال القاضي واستفيد وجوب الاحداد في المتوفي عنها من اتفاق العلماء على حمل الحديث على ذلك مع أنه ليس في لفظه ما يدل على الوجوب ولكن اتفقوا على حمله على الوجوب مع قوله صلى الله عليه و سلم في الحديث الآخر حديث أم سلمة وحديث أم عطية في الكحل والطيب واللباس ومنعها منه والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه و سلم أربعة أشهر وعشرا فالمراد به وعشرة أيام بلياليها هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة الا ما حكى عن يحيى بن أبى كثير والاوزاعى أنها أربعة أشهر وعشر ليال وأنها تحل في اليوم العاشر وعندنا وعند الجمهور لا تحل حتى تدخل ليلة الحادى عشر واعلم أن التقييد عندنا بأربعة أشهر وعشر خرج على غالب المعتدات أنها تعتد بالاشهر أما اذا كانت حاملا فعدتها بالحمل ويلزمها الاحداد في جميع العدة حتى تضع سواء قصرت المدة أم طالت فإذا وضعت فلا احداد بعده وقال بعض )
(10/112)

العلماء لا يلزمها الاحداد بعد أربعة أشهر وعشر وان لم تضع الحمل والله أعلم قال العلماء والحكمة في وجوب الاحداد في عدة الوفاة دون الطلاق لأن الزينة والطيب يدعوان إلى النكاح ويوقعان فيه فنهيت عنه ليكون الامتناع من ذلك زاجرا عن النكاح لكون الزوج ميتا لا يمنع معتدته من النكاح ولا يراعيه ناكحها ولا يخاف منه بخلاف المطلق الحى فإنه يستغنى بوجوده عن زاجر آخر ولهذه العلة وجبت العدة على كل متوفى عنها وإن لم تكن مدخولا بها بخلاف الطلاق فاستظهر للميت بوجوب العدة وجعلت أربعة أشهر وعشرا لأن الأربعة فيها ينفخ الروح في الولد إن كان والعشر احتياطا وفي هذه المدة يتحرك الولد في البطن قالوا ولم يوكل ذلك إلى أمانة النساء ويجعل بالإقراء كالطلاق لما ذكرناه من الاحتياط للميت ولما كانت الصغيرة من الزوجات نادرة ألحقت بالغالب في حكم وجوب العدة والاحداد والله أعلم [ 1486 ] قوله ( فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره ) هو برفع خلوق وبرفع غيره أى دعت بصفرة وهى خلوق أو غيره والخلوق بفتح الخاء هو طيب مخلوط قوله ( مست بعارضيها ) هما جانبا الوجه فوق الذقن إلى ما دون الأذن وإنما فعلت هذا لدفع صورة الاحداد وفي هذا الذى فعلته أم حبيبة وزينب مع الحديث المذكور دلالة لجواز الاحداد على غير الزوج ثلاثة أيام فما دونها [ 1488 ] قولها ( وقد اشتكت عينها ) هو برفع النون ووقع في بعض الأصول عيناها بالألف قولها
(10/113)

( أفنكحلها فقال لا ) هو بضم الحاء وفي هذا الحديث وحديث أم عطية المذكور بعده في قوله صلى الله عليه و سلم لا تكتحل دليل على تحريم الاكتحال على الحادة سواء احتاجت إليه أم لا وجاء في الحديث الآخر في الموطأ وغيره في حديث أم سلمة اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار ووجة الجمع بين الأحاديث أنها اذا لم تحتج إليه لا يحل لها وإن احتاجت لم يجز بالنهار ويجوز بالليل مع أن الأولى تركه فإن فعلته مسحته بالنهار فحديث الاذن فيه لبيان أنه بالليل للحاجة غير حرام وحديث النهى محمول على عدم الحاجة وحديث التي اشتكت عينها فنهاها محمول على أنه نهى تنزيه وتأوله بعضهم على أنه لم يتحقق الخوف على عينها وقد اختلف العلماء في اكتحال المحدة فقال سالم بن عبد الله وسليمان بن يسار ومالك في رواية عنه يجوز اذا خافت على عينها بكحل لا طيب فيه وجوزه بعضهم عند الحاجة وان كان فيه طيب ومذهبنا جوازه ليلا عند الحاجة بما لا طيب فيه قوله صلى الله عليه و سلم ( انما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمى بالبعرة على رأس الحول ) معناه لا تستكثرن العدة ومنع الاكتحال فيها فانها مدة قليلة وقد خففت عنكن وصارت أربعة أشهر وعشرا بعد أن كانت سنة وفي هذا تصريح بنسخ الاعتداد سنة المذكور في سورة البقرة في الآية الثانية وأما رميها بالبعرة على رأس الحول فقد فسره في الحديث قال بعض العلماء معناه أنها رمت بالعدة وخرجت منها كانفصالها من هذه البعرة ورميها بها وقال بعضهم هو اشارة إلى أن الذى فعلته وصبرت عليه من الاعتداد سنة ولبسها شر ثيابها ولزومها بيتا صغيرا هين بالنسبة إلى حق الزوج وما يستحقه من المراعاة كما يهون الرمى بالبعرة [ 1489 ] قوله ( دخلت حفشا ) هو بكسر الحاء المهملة وإسكان الفاء وبالشين المعجمة أى بيتا صغيرا حقيرا قريب السمك قوله ( ثم تؤتى بدابة حمار أوشاة أو طير
(10/114)

فتفتض به ) هكذا هو في جميع النسخ فتفتض بالفاء والضاد قال بن قتيبة سألت الحجازيين عن معنى الافتضاض فذكروا أن المعتدة كانت لا تغتسل ولا تمس ماء ولا تقلم ظفرا ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر ثم تفتض أي تكسر ما هي فيه من العدة بطائر تمسح به قبلها وتنبذه فلا يكاد يعيش ما تفتض به وقال مالك معناه تمسح به جلدها وقال بن وهب معناه تمسح بيدها عليه أو على ظهره وقيل معناه تمسح به ثم تفتض أى تغتسل والافتضاض الاغتسال بالماء العذب للانقاء وإزالة الوسخ حتى تصير بيضاء نقية كالفضة وقال الأخفش معناه تتنظف وتتنقى من الدرن تشبيها لها بالفضة في نقائها وبياضها وذكر الهروى أن الأزهرى قال رواه الشافعى تقبص بالقاف والصاد المهملة والباء الموحدة مأخوذ من القبض بأطراف الأصابع قوله ( توفى حميم لأم حبيبة ) أى قريب
(10/115)

[ 1488 ] قوله صلى الله عليه و سلم ( في شر أحلاسها ) هو بفتح الهمزة وإسكان الحاء المهملة جمع حلس بكسر الحاء والمراد في شر ثيابها كما قال في الرواية الأخرى وهو مأخوذ من حلس البعير وغيره من الدواب وهو كالمسح يجعل على ظهره [ 1486 ] قوله ( نعى أبى سفيان ) هو بكسر العين مع تشديد الياء وبإسكانها مع تخفيف الياء أي خبر موته
(10/116)

قوله صلى الله عليه و سلم ( ولا تلبس ثوبا مصبوغا الا ثوب عصب ) العصب بعين مفتوحة ثم صاد ساكنة مهملتين وهو برود اليمن يعصب غزلها ثم يصبغ معصوبا ثم تنسج ومعنى الحديث النهى عن جميع الثياب المصبوغة للزينة الا ثوب العصب قال بن المنذر أجمع العلماء على أنه لا يجوز للحادة لبس الثياب المعصفرة والمصبغة الا ما صبغ بسواد فرخص بالمصبوغ بالسواد عروة بن الزبير ومالك والشافعى وكرهه الزهري وكره عروة العصب وأجازه الزهري وأجاز مالك غليظة والأصح عند أصحابنا تحريمه مطلقا وهذا الحديث حجة لمن أجازه قال بن المنذر رخص جميع العلماء في الثياب البيض ومنع بعض متأخرى المالكية جيد البيض الذى يتزين به وكذلك جيد السواد قال أصحابنا ويجوز كل ما صبغ ولا تقصد منه الزينة ويجوز لها لبس الحرير في الأصح ويحرم حلى الذهب والفضة وكذلك اللؤلؤ وفي اللؤلؤ وجه أنه يجوز قوله صلى الله عليه و سلم ( ولا تمس طيبا الا اذا طهرت نبذة قسط أو أظفار ) النبذة بضم النون القطعة
(10/118)

والشيء اليسير وأما القسط فبضم القاف ويقال فيه كست بكاف مضمومة بدل القاف وبتاء بدل الطاء وهو والاظفار نوعان معروفان من البخور وليسا من مقصود الطيب رخص فيه للمغتسلة من الحيض لازالة الرائحة الكريهة تتبع به أثر الدم لا للتطيب والله تعالى أعلم