( باب أخذ الحلال وترك الشبهات )
 
[ 1599 ] قوله صلى الله عليه و سلم ( الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس إلى آخره ) أجمع العلماء على عظم وقع هذا الحديث وكثرة فوائده وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام قال جماعة هو ثلث الإسلام وأن الإسلام يدور عليه وعلى حديث الأعمال بالنية وحديث من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه وقال أبو داود السختياني يدور على أربعة أحاديث هذه الثلاثة وحديث لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه وقيل حديث ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد مافي ايدي الناس يحبك الناس قال العلماء وسبب عظم موقعه أنه صلى الله عليه و سلم نبه فيه على اصلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها وأنه ينبغي ترك المشتبهات فإنه سبب لحماية دينه وعرضه وحذر من مواقعة الشبهات وأوضح ذلك بضرب المثل بالحمى ثم بين أهم الأمور وهو مراعاة القلب فقال صلى الله عليه و سلم ألا وان في الجسد مضغة إلى آخره فبين صلى الله عليه و سلم أن بصلاح القلب يصلح باقي الجسد وبفساده يفسد باقيه وأما قوله صلى الله عليه و سلم الحلال بين والحرام بين فمعناه أن الأشياء ثلاثة أقسام حلال بين واضح لا يخفى حله كالخبز والفواكه والزيت والعسل والسمن ولبن مأكول اللحم وبيضه وغير ذلك من المطعومات وكذلك الكلام والنظر والمشي وغير ذلك من التصرفات فيها حلال بين واضح لا شك في حله وأما الحرام البين فكالخمر والخنزير والميتة والبول والدم المسفوح وكذلك الزنى والكذب والغيبة والنميمة والنظر إلى الأجنبية وأشباه ذلك وأما المشتبهات فمعناه أنها ليست بواضحة الحل ولا الحرمة فلهذا لا يعرفها كثير من الناس ولا يعلمون حكمها وأما العلماء
(11/27)

فيعرفون حكمها بنص أو قياس أو استصحاب أو غير ذلك فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة ولم يكن فيه نص ولا إجماع اجتهد فيه المجتهد فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي فإذا الحقه به صار حلالا وقد يكون دليله غير خال عن الاحتمال البين فيكون الورع تركه ويكون داخلا في قوله صلى الله عليه و سلم فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه وما لم يظهر للمجتهد فيه شيء وهو مشتبه فهل يؤخذ بحله أم بحرمته أم يتوقف فيه ثلاثة مذاهب حكاها القاضي عياض وغيره والظاهر أنها مخرجة على الخلاف المذكور في الأشياء قبل ورود الشرع وفيه أربعة مذاهب الأصح أنه لا يحكم بحل ولا حرمه ولا إباحة ولا غيرها لأن التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع والثاني أن حكمها التحريم والثالث الإباحة والرابع التوقف والله أعلم قوله صلى الله عليه و سلم ( فقد استبرأ لدينه وعرضه ) أي حصل له البراءة لدينة من الذم الشرعي وصان عرضه عن كلام الناس فيه قوله صلى الله عليه و سلم ( إن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه ) معناه أن الملوك من العرب وغيرهم يكون لكل ملك منهم حمى يحميه عن الناس ويمنعهم دخوله فمن دخله أوقع به العقوبة ومن احتاط لنفسه لا يقارب ذلك الحمى خوفا من الوقوع فيه ولله تعالى أيضا حمى وهي محارمه أي المعاصي التي حرمها الله كالقتل والزنا والسرقة والقذف والخمر والكذب والغيبة والنميمة واكل المال بالباطل وأشباه ذلك فكل هذا حمى الله تعالى من دخله بارتكابه شيئا من المعاصي استحق العقوبة ومن قاربه يوشك أن يقع فيه فمن احتاط لنفسه لم يقاربه ولا يتعلق بشئ يقربه من المعصية فلا يدخل في شئ من الشبهات قوله صلى الله عليه و سلم ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) قال أهل اللغة يقال صلح الشئ
(11/28)

وفسد بفتح اللام والسين وضمهما والفتح أفصح وأشهر والمضغة القطعة من اللحم سميت بذلك لأنها تمضغ في الفم لصغرها قالوا المراد تصغير القلب بالنسبة إلى باقي الجسد مع أن صلاح الجسد وفساده تابعان للقلب وفي هذا الحديث التأكيد على السعي في صلاح القلب وحمايته من الفساد واحتج بهذا الحديث على أن العقل في القلب لا في الرأس وفيه خلاف مشهور مذهب أصحابنا وجماهير المتكلمين أنه في القلب وقال أبو حنيفة هو في الدماغ وقد يقال في الرأس وحكوا الأول أيضا عن الفلاسفة والثاني عن الأطباء قال المازري واحتج القائلون بأنه في القلب بقوله تعالى أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها وقوله تعالى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب وبهذا الحديث فإنه صلى الله عليه و سلم جعل صلاح الجسد وفساده تابعا للقلب مع أن الدماغ من جملة الجسد فيكون صلاحه وفساده تابعا للقلب فعلم أنه ليس محلا للعقل واحتج القائلون بأنه في الدماغ بأنه إذا فسد الدماغ فسد العقل ويكون من فساد الدماغ الصرع في زعمهم ولا حجة لهم في ذلك لأن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بفساد العقل عند فساد الدماغ مع أن العقل ليس فيه ولا امتناع من ذلك قال المازري لا سيما على أصولهم في الاشتراك الذي يذكرونه بين الدماغ والقلب وهم يجعلون بين رأس المعدة والدماغ اشتراكا والله أعلم قوله ( عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول وأهوى النعمان بأصبعيه إلى أذنيه ) هذا تصريح بسماع النعمان عن النبي صلى الله عليه و سلم وهذا هو الصواب الذي قاله أهل العراق وجماهير العلماء قال القاضي وقال يحيى بن معين أن أهل المدينة لا يصحون سماع النعمان من النبي صلى الله عليه و سلم وهذه حكاية ضعيفة أو باطلة والله أعلم قوله صلى الله عليه و سلم ( ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ) يحتمل وجهين أحدهما أنه من كثرة تعاطيه الشبهات يصادف الحرام وان لم يتعمده وقد يأثم بذلك إذا نسب إلى تقصير والثاني أنه يعتاد التساهل ويتمرن عليه ويجسر على شبهة ثم شبهه أغلظ منها ثم أخرى اغلظ وهكذا حتى يقع في الحرام عمدا وهذا نحو قول السلف المعاصي بريد الكفر أي تسوق إليه عافانا الله تعالى من الشر قوله صلى الله عليه و سلم ( يوشك أن يقع فيه ) يقال أوشك يوشك بضم الياء وكسر الشين أي
(11/29)

يسرع ويقرب قوله أتم من حديثهم وأكبر هو بالباء الموحدة وفي كثير من النسخ بالمثلثة والله أعلم