كتاب الوصية
 
( كتاب الوصية قال الأزهري هي مشتقة من وصيت الشيء أوصيه إذا وصلته وسميت وصية لأنه وصل ما كان في حياته بما بعده ويقال وصى واوصى ايصاء والإسم الوصية والوصاة واعلم أن أول كتاب الوصية هو ابتداء الفوات الثاني من المواضع الثلاثة التي فاتت ابراهيم بن محمد بن سفيان صاحب مسلم فلم يسمعها من مسلم وقد سبق بيان هذه المواضع في الفصول التي في أول هذا الشرح وسبق أحد المواضع في كتاب الحج وهذا أول الثاني وهو قول مسلم حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب ومحمد بن المثنى العنزي واللفظ لابن مثنى قالا حدثنا يحيى وهو بن سعيد القطان عن عبيد الله قال اخبرني نافع عن بن عمر قوله صلى الله عليه و سلم ( ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصى [ 1627 ] فيه يبيت ليلتين الا ووصيته مكتوبة عنده ) وفي رواية ثلاث ليال فيه الحث على الوصية وقد أجمع المسلمون على الأمر بها لكن مذهبنا ومذهب الجماهير أنها مندوبة لا واجبة وقال داود وغيره من أهل الظاهر هي واجبة لهذا الحديث ولا دلالة لهم فيه فليس فيه تصريح بايجابها لكن إن )
(11/74)

كان على الإنسان دين أوحق أو عنده وديعة ونحوها لزمه الايصاء بذلك قال الشافعي رحمه الله معنى الحديث ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده ويستحب تعجيلها وأن يكتبها في صحته ويشهد عليه فيها ويكتب فيها ما يحتاج إليه فإن تجدد له أمر يحتاج إلى الوصية به الحقه بها قالوا ولا يكلف أن يكتب كل يوم محقرات المعاملات وجزيئات الأمور المتكررة وأما قوله صلى الله عليه و سلم ووصيته مكتوبة عنده فمعناه مكتوبة وقد أشهد
(11/75)

عليه بها لا أنه يقتصر على الكتابة بل لا يعمل بها ولا تنفع إلا إذا كان أشهد عليه بها هذا مذهبنا ومذهب الجمهور وقال الإمام محمد بن نصر المروزي من أصحابنا يكفي الكتاب من غير اشهاد لظاهر الحديث والله أعلم قوله في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ( عادني رسول الله صلى الله عليه و سلم من وجع أشفيت منه على الموت ) فيه استحباب عيادة المريض وأنها مستحبة للإمام كاستحبابها لآحاد الناس ومعنى أشفيت على الموت أي قاربته واشرفت عليه يقال أشفى عليه وأشاف قاله الهروى وقال بن قتيبة لا يقال اشفى إلا في الشر قال إبراهيم الحربي الوجع إسم لكل مرض وفيه جواز ذكر المريض ما يجده لغرض صحيح من مداواة أو دعاء صالح أو وصية أو استفتاء عن حاله ونحو ذلك وإنما يكره من ذلك ما كان على سبيل التسخط ونحوه فإنه قادح في أجر مرضه قوله ( وأنا ذو مال ) دليل على إباحة جمع المال لأن هذه الصيغة لا تستعمل في العرف الا لمال كثير قوله ( ولا يرثني إلا ابنة لي ) أي ولا يرثني من الولد وخواص الورثة وإلا فقد كان له عصبة وقيل معناه لا يرثني من أصحاب الفروض قوله ( أفأتصدق بثلثي مالي قال لا قلت أفأتصدق بشطره قال لا الثلث والثلث كثير ) بالمثلثة وفي بعض بالموحدة وكلاهما صحيح قال القاضي يجوز نصب الثلث الأول ورفعه أما النصب فعلى الإغراء أو على تقدير فعل أي اعط الثلث وأما الرفع فعلى أنه فاعل أي يكفيك الثلث أو أنه
(11/76)

مبتدأ وحذف خبره أو خبر محذوف المبتدأ وفي هذا الحديث مراعاة العدل بين الورثة والوصية قال أصحابنا وغيرهم من العلماء إن كانت الورثة أغنياء استحب أن يوصى بالثلث تبرعا وإن كانوا فقراء استحب أن ينقص من الثلث وأجمع العلماء في هذه الأعصار على أن من له وارث لا تنفذ وصيته بزيادة على الثلث إلا باجازته وأجمعوا على نفوذها باجازته في جميع المال وأما من لا وارث له فمذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا تصح وصيته فيما زاد على الثلث وجوزه أبو حنيفة وأصحابه وإسحاق وأحمد في إحدى الروايتين عنه وروى عن علي وبن مسعود رضي الله عنهما وأما قوله أفأتصدق بثلثي مالي يحتمل أنه أراد بالصدقة الوصية ويحتمل أنه أراد الصدقة المنجزة وهما عندنا وعند العلماء كافة سواء لا ينفذ ما زاد على الثلث إلا برضا الوارث وخالف أهل الظاهر فقالوا للمريض مرض الموت أن يتصدق بكل ماله ويتبرع به كالصحيح ودليل الجمهور ظاهر حديث الثلث كثير مع حديث الذي أعتق ستة أعبد في مرضه فأعتق النبي صلى الله عليه و سلم اثنين وأرق أربعة قوله صلى الله عليه و سلم ( إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ) العالة الفقراء ويتكففون يسألون الناس في أكفهم قال القاضي رحمه الله روينا قوله إن تذر ورثتك بفتح الهمزة وكسرها وكلاهما صحيح وفي هذا الحديث حث على صلة الأرحام والاحسان إلى الأقارب والشفقة على الورثة وأن صلة القريب الأقرب والاحسان إليه أفضل من الأبعد واستدل به بعضهم على ترجيح الغني على الفقير قوله صلى الله عليه و سلم ( ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلا أجرت بها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك ) فيه استحباب الانفاق في وجوه الخير وفيه أن الأعمال بالنيات وأنه إنما يثاب على عمله بنيته وفيه أن الانفاق على العيال يثاب عليه إذا قصد به وجه الله تعالى وفيه أن المباح إذا قصد به وجه الله تعالى صار طاعة ويثاب عليه وقد نبه صلى الله عليه و سلم على هذا بقوله صلى الله عليه و سلم حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك لأن زوجة الإنسان هي من أخص حظوظه الدنيوية وشهواته وملاذه المباحة
(11/77)

وإذا وضع اللقمة في فيها فإنما يكون ذلك في العادة عند الملاعبة والملاطفة والتلذذ بالمباح فهذه الحالة أبعد الأشياء عن الطاعة وأمور الآخرة ومع هذا فأخبر صلى الله عليه و سلم أنه إذا قصد بهذه اللقمة وجه الله تعالى حصل له الأجر بذلك فغير هذه الحالة أولى بحصول الأجر إذا أراد وجه الله تعالى ويتضمن ذلك أن الإنسان إذا فعل شيئا أصله على الإباحة وقصد به وجه الله تعالى يثاب عليه وذلك كالأكل بنية التقوى على طاعة الله تعالى والنوم للاستراحة ليقوم إلى العبادة نشيطا والاستمتاع بزوجته وجاريته ليكف نفسه وبصره ونحوهما عن الحرام وليقضي حقها وليحصل ولدا صالحا وهذا معنى قوله صلى الله عليه و سلم وفي بضع أحدكم صدقة والله أعلم قوله ( قلت يا رسول الله أخلف بعد أصحابي قال إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله تعالى إلا ازددت به درجة ورفعة ) فقال القاضي معناه أخلف بمكة بعد أصحابي فقاله إما إشفاقا من موته بمكة لكونه هاجر منها وتركها لله تعالى فخشى أن يقدح ذلك في هجرته او في ثوابه عليها أو خشى بقاءه بمكة بعد انصراف النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه إلى المدينة وتخلفه عنهم بسبب المرض وكانوا يكرهون الرجوع فيما تركوه لله تعالى ولهذا جاء في رواية أخرى أخلف عن هجرته قال القاضي قيل كان حكم الهجرة باقيا بعد الفتح لهذا الحديث وقيل إنما كان ذلك لمن كان هاجر قبل الفتح فأما من هاجر بعده فلا وأما قوله صلى الله عليه و سلم إنك لن تخلف فتعمل عملا فالمراد بالتخلف طول العمر والبقاء في الحياة بعد جماعات من أصحابه وفي هذا الحديث فضيلة طول العمر للازدياد من العمل الصالح والحث على إرادة وجه الله تعالى بالأعمال والله تعالى أعلم قوله صلى الله عليه و سلم ( ولعلك تخلف حتى ينفع بك أقوام ويضر بك آخرون ) وفي بعض النسخ ينتفع بزيادة التاء وهذا الحديث من المعجزات فإن سعدا رضي الله عنه عاش حتى فتح العراق وغيره وانتفع به أقوام في دينهم ودنياهم وتضرر به الكفار في دينهم ودنياهم فإنهم قتلوا وصاروا إلى جهنم وسبيت نساؤهم وأولادهم وغنمت أموالهم وديارهم وولى العراق فاهتدى
(11/78)

على يديه خلائق وتضرر به خلائق باقامته الحق فيهم من الكفار ونحوهم قال القاضي قيل لا يحبط أجر هجرة المهاجر بقاؤه بمكة وموته بها إذا كان لضرورة وإنما كان يحبطه ما كان بالاختيار قال وقال قوم موت المهاجر بمكة محبط هجرته كيفما ما كان قال وقيل لم تفرض الهجرة إلا على أهل مكة خاصة قوله صلى الله عليه و سلم ( اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم ) قال القاضي استدل به بعضهم على أن بقاء المهاجر بمكة كيف كان قادح في هجرته قال ولا دليل فيه عندي لأنه يحتمل أنه دعا لهم دعاء عاما ومعنى امض لأصحابي هجرتهم أي أتممها ولاتبطلها ولا تردهم على أعقابهم بترك هجرتهم ورجوعهم عن مستقيم حالهم المرضية قوله صلى الله عليه و سلم ( لكن البائس سعد بن خولة ) البائس هو الذي عليه أثر البؤس وهو الفقر والقلة قوله ( يرثي له رسول الله صلى الله عليه و سلم أن مات بمكة ) قال العلماء هذا من كلام الراوي وليس هو من كلام النبي صلى الله عليه و سلم بل انتهى كلامه صلى الله عليه و سلم بقوله لكن البائس سعد بن خولة فقال الراوي تفسيرا لمعنى هذا الكلام أنه يرثيه النبي صلى الله عليه و سلم ويتوجع له ويرق عليه لكونه مات بمكة واختلفوا في قائل هذا الكلام من هو فقيل هو سعد بن أبي وقاص وقد جاء مفسرا في بعض الروايات قال القاضي وأكثر ما جاء أنه من كلام الزهري قال واختلفوا في قصة سعد بن خولة فقيل لم يهاجر من مكة حتى مات بها قال عيسى بن دينار وغيره وذكر البخاري أنه هاجر وشهد بدرا ثم انصرف إلى مكة ومات بها وقال بن هشام انه هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية وشهد بدار وغيرها وتوفي بمكة في حجة الوداع سنة عشر وقيل توفي بها سنة سبع في الهدنة خرج مجتازا من المدينة فعلى هذا
(11/79)

وعلى قول عيسى بن دينار سبب بؤسه سقوط هجرته لرجوعه مختارا وموته بها وعلى قول الآخرين سبب بؤسه موته بمكة على أي حال كان وإن لم يكن باختياره لما فاته من الأجر والثواب الكامل بالموت في دار هجرته والغربة عن وطنه إلى هجرة الله تعالى قال القاضي وقد روى في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه و سلم خلف مع سعد بن أبي وقاص رجلا وقال له أن توفي بمكة فلا تدفنه بها وقد ذكر مسلم في الرواية الأخرى أنه كان يكره أن يموت في الأرض التي هاجر منها وفي رواية أخرى لمسلم قال سعد بن أبي وقاص خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة وسعد بن خولة هذا هو زوج سبيعة الأسلمية وفي حديث سعد هذا جواز تخصيص عموم الوصية المذكورة في القرآن بالسنة وهو قول جمهور الأصوليين وهو الصحيح قوله ( حدثنا أبو داود الحفري ) هو بحاء مهملة ثم فاء مفتوحتين منسوب إلى الحفر بفتح الحاء والفاء وهي محلة بالكوفة كان أبو داود يسكنها هكذا ذكره أبو حاتم بن حبان وأبو سعد السمعاني وغيرهما وإسم أبي داود هذا عمرو بن سعد الثقة الزاهد الصالح العابد قال علي المديني ما أعلم أني
(11/80)

رأيت بالكوفة أعبد من أبي داود الحفري وقال وكيع أن كان يدفع بأحد في زماننا يعني البلاء والنوازل فبأبي داود توفي سنة ثلاث وقيل سنة ست ومائتين رحمه الله قوله ( عن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن ثلاثة من ولد سعد كلهم يحدثه عن أبيه أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل على سعد يعوده بمكة ) وفي الرواية الأخرى عن حميد عن ثلاثة من ولد سعد قالوا مرض سعد بمكة فأتاه رسول الله صلى الله عليه و سلم يعوده فهذه الرواية مرسلة والأولى متصلة لأن أولاد سعد تابعيون وإنما ذكر مسلم هذه الروايات المختلفة في وصله وارساله ليبين اختلاف الرواة في ذلك قال القاضي وهذا وشبهه من العلل التي وعد مسلم في خطبة كتابه أنه يذكرها في مواضعها فظن ظانون أنه يأتي بها مفردة وأنه توفي قبل ذكرها والصواب أنه ذكرها في تضاعيف كتابه كما أوضحناه في أول هذا الشرح ولا بقدح هذا الخلاف في صحة هذه الرواية ولا في صحة اصل الحديث لأن أصل الحديث ثابت من طرق من غير جهة حميد عن أولاد سعد وثبت وصله عنهم في بعض الطرق التي ذكرها مسلم
(11/81)

وقد قدمنا في أول هذا الشرح أن الحديث إذا روى متصلا ومرسلا فالصحيح الذي عليه المحققون أنه محكوم باتصاله لأنها زيادة ثقة وقد عرض الدار قطني بتضعيف هذه الرواية وقد سبق الجواب عن اعتراضه الآن وفي مواضع نحو هذا والله أعلم قوله ( عن بن عباس قال لو أن [ 1629 ] الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الثلث والثلث كثير
(11/82)

قوله غضوا بالغين والضاد المعجمتين أي نقصوا وفيه استحباب النقص عن الثلث وبه قال جمهور العلماء مطلقا ومذهبنا أنه إن كان ورثته أغنياء استحب الايصاء بالثلث والا فيستحب النقص منه وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أوصى بالخمس وعن علي رضي الله عنه نحوه وعن بن عمر واسحاق بالربع وقال آخرون بالسدس وآخرون بدونه وقال آخرون بالعشر وقال ابراهيم النخعي رحمه الله تعالى كانوا يكرهون الوصية بمثل نصيب أحد الورثة وروى عن علي وبن عباس وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم أنه يستحب لمن له ورثة وماله قليل ترك الوصية قوله في اسناد هذا الحديث وحدثنا أبو كريب قال حدثنا بن نمير كلهم عن هشام بن عروة عن أبيه عن بن عباس هكذا هو في نسخ بلادنا وهي من رواية الجلودي ففي جميعها أبو كريب وذكر القاضي أنه وقع في نسخة بن ماهان أبو كريب كما ذكرناه وفي نسخة الجلودي أبو بكر بن أبي شيبة بدل أبي كريب والصواب ما قدمناه والله أعلم