باب ترك الوصية لمن ليس له شئ يوصى فيه
 
( باب ترك الوصية لمن ليس له شئ يوصى فيه قوله ( عن طلحة بن مصرف ) هو بضم الميم وفتح الصاد وكسر الراء المشددة وحكى فتح الراء [ 1634 ] والصواب المشهور كسرها قوله ( سألت عبد الله بن أبي أوفى هل أوصى رسول الله صلى الله عليه و سلم )
(11/87)

فقال لا قلت فلم كتب على المسلمين الوصية أو فلم أمروا بالوصية قال أوصى بكتاب الله تعالى ) [ 1635 ] وفي رواية عائشة رضي الله عنها ما ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا ولا أوصى به وفي رواية قال ذكروا عند عائشة رضي الله عنها أن عليا رضي الله [ 1636 ] عنه كان وصيا فقالت متى أوصى إليه فقد كنت مسندته إلى صدري أو قالت حجرى فدعا بالطست فلقد انخنث في حجرى وما شعرت أنه مات فمتى أوصى أما قولها انخنث فمعناه مال وسقط وأما حجر الإنسان وهو حجر ثوبه فبفتح الحاء وكسرها وأما قوله لم يوص فمعناه لم يوص بثلث ماله ولا غيره إذ لم يكن له مال ولا أوصى إلى علي رضي الله عنه ولا إلى غيره بخلاف ما يزعمه الشيعة وأما الأرض التي كانت له صلى الله عليه و سلم بخيبر وفدك فقد سلبها صلى الله عليه و سلم في حياته ونجز الصدقة بها على المسلمين وأما الأحاديث الصحيحة في وصيته صلى الله عليه و سلم بكتاب الله ووصيته بأهل بيته ووصيته باخراج المشركين من جزيرة العرب وباجازة الوفد فليست مرادة بقوله لم يوص إنما المراد به ما قدمناه وهو مقصود السائل عن الوصية فلا مناقضة بين الأحاديث وقوله أوصى بكتاب الله أي بالعمل بما فيه وقد قال الله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شيء ومعناه أن من الأشياء ما يعلم منه نصا ومنها ما يحصل بالاستنباط وأما قول السائل فلم كتب على المسلمين الوصية فمراده قوله تعالى كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية وهذه الآية منسوخة عند الجمهور ويحتمل أن السائل أراد بكتب الوصية الندب إليها
(11/88)

والله أعلم قوله [ 1637 ] ( عن بن عباس يوم الخميس وما يوم الخميس ) معناه تفخيم أمره في الشدة والمكروه فيما يعتقده بن عباس وهو امتناع الكتاب ولهذا قال بن عباس الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه و سلم وبين أن يكتب هذا الكتاب هذا مراد بن عباس وإن كان الصواب ترك الكتاب كما سنذكره إن شاء الله تعالى قوله صلى الله عليه و سلم حين اشتد وجعه ( ائتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا فقالوا إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يهجر ) وفي رواية فقال عمر رضي الله عنه
(11/89)

أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت فاختصموا ثم ذكر أن بعضهم أراد الكتاب وبعضهم وافق عمر وأنه لما أكثروا اللغو والاختلاف قال النبي صلى الله عليه و سلم قوموا أعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم معصوم من الكذب ومن تغيير شيء من الأحكام الشرعية في حال صحته وحال مرضه ومعصوم من ترك بيان ما أمر ببيانه وتبليغ ما أوجب الله عليه تبليغه وليس معصوما من الأمراض والاسقام العارضة للأجسام ونحوها مما لا نقص فيه لمنزلته ولا فساد لما تمهد من شريعته وقد سحر صلى الله عليه و سلم حتى صار يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يكن فعله ولم يصدر منه صلى الله عليه و سلم وفي هذا الحال كلام في الأحكام مخالف لما سبق من الأحكام التي قررها فإذا علمت ما ذكرناه فقد اختلف العلماء في الكتاب الذي هم النبي صلى الله عليه و سلم به فقيل أراد أن ينص على الخلافة في إنسان معين لئلا يقع نزاع وفتن وقيل أراد كتابا يبين فيه مهمات الأحكام ملخصة ليرتفع النزاع فيها ويحصل الاتفاق على المنصوص عليه وكان النبي صلى الله عليه و سلم هم بالكتاب حين ظهر له أنه مصلحة أو أوحى إليه بذلك ثم ظهر أن المصلحة تركه أو أوحى إليه بذلك ونسخ ذلك الأمر الأول وأما كلام عمر رضي الله عنه فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره لأنه خشى أن يكتب صلى الله عليه و سلم أمورا ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها فقال عمر حسبنا كتاب الله لقوله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شيء وقوله اليوم أكملت لكم دينكم فعلم أن الله تعالى أكمل دينه فأمن الضلال على الأمة وأراد الترفيه على رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان عمر أفقه من بن عباس وموافقيه قال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في أواخر كتابه دلائل النبوة إنما قصد عمر التخفيف على رسول الله صلى الله عليه و سلم حين غلبه الوجع ولو كان مراده صلى الله عليه و سلم أن يكتب مالا يستغنون عنه لم يتركه لاختلافهم ولا لغيره لقوله تعالى بلغ ما أنزل إليك كما لم يترك تبليغ غير ذلك لمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه وكما أمر في ذلك الحال باخراج اليهود من جزيرة العرب وغير ذلك مما ذكره في الحديث قال البيهقي وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أنه صلى الله عليه و سلم أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر رضي الله عنه ثم ترك ذلك اعتمادا على ما علمه من تقدير الله
(11/90)

تعالى ذلك كما هم بالكتاب في أول مرضه حين قال وارأساه ثم ترك الكتاب وقال يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ثم نبه أمته على استخلاف أبي بكر بتقديمه إياه في الصلاة قال البيهقي وإن كان المراد بيان أحكام الدين ورفع الخلاف فيها فقد علم عمر حصول ذلك لقوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وعلم أنه لا تقع واقعة إلى يوم القيامة إلا وفي الكتاب أو السنة بيانها نصا أو دلالة وفي تكلف النبي صلى الله عليه و سلم في مرضه مع شدة وجعه كتابة ذلك مشقة ورأى عمر الاقتصار على ما سبق بيانه إياه نصا أو دلالة تخفيفا عليه ولئلا ينسد باب الاجتهاد على أهل العلم والاستنباط والحاق الفروع بالأصول وقد كان سبق قوله صلى الله عليه و سلم إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر وهذا دليل على أنه وكل بعض الأحكام إلى اجتهاد العلماء وجعل لهم الأجر على الإجتهاد فرأى عمر الصواب تركهم على هذه الجملة لما فيه من فضيلة العلماء بالاجتهاد مع التخفيف عن النبي صلى الله عليه و سلم وفي تركه صلى الله عليه و سلم الانكار على عمر دليل على استصوابه قال الخطابي ولا يجوز أن يحمل قول عمر على أنه توهم الغلط على رسول الله صلى الله عليه و سلم أو ظن به غير ذلك مما لا يليق به بحال لكنه لما رأى ما غلب على رسول الله صلى الله عليه و سلم من الوجع وقرب الوفاة مع ما اعتراه من الكرب خاف أن يكون ذلك القول مما يقوله المريض مما لا عزيمة له فيه فتجد المنافقون بذلك سبيلا إلى الكلام في الدين وقد كان أصحابه صلى الله عليه و سلم يراجعونه في بعض الأمور قبل أن يجزم فيها بتحتيم كما راجعوه يوم الحديبية في الخلاف وفي كتاب الصلح بينه وبين قريش فأما إذا أمر بالشيء أمر عزيمة فلا يراجعه فيه أحد منهم قال وأكثر العلماء على أنه يجوز عليه الخطأ فيما لم ينزل عليه وقد أجمعوا كلهم على أنه لا يقر عليه قال ومعلوم أنه صلى الله عليه و سلم وإن كان الله تعالى قد رفع درجته فوق الخلق كلهم فلم ينزهه عن سمات الحدث والعوارض البشرية وقد سهى في الصلاة فلا ينكر أن يظن به حدوث بعض هذه الأمور في مرضه فيتوقف في مثل هذا الحال حتى تتبين حقيقته فلهذه المعاني وشبهها راجعه عمر رضي الله عنه قال الخطابي وقد روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال اختلاف أمتي رحمة فاستصوب عمر ما قاله قال وقد اعترض على حديث اختلاف أمتي رحمة رجلان أحدهما مغموض عليه في دينه وهو عمرو بن بحر الجاحظ والآخر معروف بالسخف والخلاعة وهو إسحاق بن ابراهيم الموصلي فإنه لما
(11/91)

وضع كتابه في الأغاني وأمكن في تلك الأباطيل لم يرض بما تزود من اثمها حتى صدر كتابه بذم أصحاب الحديث وزعم أنهم يروون مالا يدرون وقال هو والجاحظ لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابا ثم زعم أنه إنما كان اختلاف الأمة رحمة في زمن النبي صلى الله عليه و سلم خاصة فإذا اختلفوا سألوه فبين لهم والجواب عن هذا الاعتراض الفاسد أنه لا يلزم من كون الشيء رحمة أن يكون ضده عذابا ولا يلتزم هذا ويذكره الا جاهل او متجاهل وقد قال الله تعالى ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه فسمى الليل رحمة ولم يلزم من ذلك أن يكون النهار عذابا وهو ظاهر لا شك فيه قال الخطابي والاختلاف في الدين ثلاثة أقسام أحدها في اثبات الصانع ووحدانيته وانكار ذلك كفر والثاني في صفاته ومشيئته وانكارها بدعة والثالث في أحكام الفروع المحتملة وجوها فهذا جعله الله تعالى رحمة وكرامة للعلماء وهو المراد بحديث اختلاف أمتي رحمة هذا آخر كلام الخطابي رحمة الله وقال المازري أن قيل كيف جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع قوله صلى الله عليه و سلم ائتوني أكتب وكيف عصوه في أمره فالجواب أنه لا خلاف أن الأوامر تقارنها قرائن تنقلها من الندب إلى الوجوب عند من قال أصلها للندب ومن الوجوب إلى الندب عند من قال أصلها للوجوب وتنقل القرائن أيضا صيغة أفعل إلى الإباحة وإلى التخيير وإلى غير ذلك من ضروب المعاني فلعله ظهر منه صلى الله عليه و سلم من القرائن مادل على أنه لم يوجب عليهم بل جعله إلى اختيارهم فاختلف اختيارهم بحسب اجتهادهم وهو دليل على رجوعهم إلى الاجتهاد في الشرعيات فإدى عمر رضي الله عنه اجتهاده إلى الامتناع من هذا ولعله اعتقد أن ذلك صدرمنه صلى الله عليه و سلم من غير قصد جازم وهو المراد بقولهم هجر وبقول عمر غلب عليه الوجع وما قارنه من القرائن الدالة على ذلك على نحو ما يعهدونه من أصوله صلى الله عليه و سلم في تبليغ الشريعة وأنه يجري مجرى غيره من طرق التبليغ المعتادة منه صلى الله عليه و سلم فظهر ذلك لعمر دون غيره فخالفوه ولعل عمر خاف أن المنافقين قد يتطرقون إلى القدح فيما اشتهر من قواعد الإسلام وبلغه صلى الله عليه و سلم الناس بكتاب يكتب في خلوة وآحاد ويضيفون إليه شيئا لشبهوا به على الذين في قلوبهم مرض ولهذا قال عندكم القرآن حسبنا كتاب الله وقال القاضي عياض وقوله أهجر رسول الله صلى الله عليه و سلم هكذا هو في صحيح مسلم وغيره أهجر على الاستفهام وهو
(11/92)

أصح من رواية من روى هجر ويهجر لأن هذا كله لا يصح منه صلى الله عليه و سلم لأن معنى هجر هذي وإنما جاء هذا من قائلة استفهاما للإنكار على من قال لا تكتبوا أي لا تتركوا أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وتجعلوه كأمر من هجر في كلامه لأنه صلى الله عليه و سلم لا يهجر وإن صحت الروايات الأخرى كانت خطأ من قائلها قالها بغير تحقيق بل لما أصابه من الحيرة والدهشة لعظيم ما شاهده من النبي صلى الله عليه و سلم من هذه الحالة الدالة على وفاته وعظيم المصاب به وخوف الفتن والضلال بعده وأجرى الهجر مجرى شدة الوجع وقول عمر رضي الله عنه حسبنا كتاب الله رد على من نازعه لا على أمر النبي صلى الله عليه و سلم والله أعلم قوله صلى الله عليه و سلم ( دعوني فالذي أنا فيه خير ) معناه دعوني من النزاع واللغط الذي شرعتم فيه فالذي أنا فيه من مراقبة الله تعالى والتأهب للقائه والفكر في ذلك ونحوه أفضل مما أنتم فيه قوله صلى الله عليه و سلم ( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ) قال أبو عبيد قال الأصمعي جزيرة العرب ما بين أقصى عدن اليمن إلى ريف العراق في الطول وأما في العرض فمن جدة وما والاها إلى أطراف الشام وقال أبو عبيدة هي ما بين حفر أبي موسى إلى اقصى اليمن في الطول وأما في العرض فما بين رمل يرين إلى منقطع السماوة وقوله حفر أبي موسى هو بفتح الحاء المهملة وفتح الفاء أيضا قالوا وسميت جزيرة لاحاطة البحار بها من نواحيها وانقطاعها عن المياه العظيمة وأصل الجزر في اللغة القطع وأضيفت إلى العرب لأنها الأرض التي كانت بأيديهم قبل الإسلام وديارهم التي هي أوطانهم وأوطان أسلافهم وحكى الهروي عن مالك أن جزيرة العرب هي المجينة والصحيح المعروف عن مالك أنها مكة والمدينة واليمامة واليمامة واليمن وأخذ بهذا الحديث مالك والشافعي وغيرهما من العلماء فأوجبوا إخراج الكفار من جزيرة العرب وقالوا لا يجوز تمكينهم من سكناها ولكن الشافعي خص هذا الحكم ببعض جزيرة العرب وهو الحجاز وهو عنده مكة والمدينة والميامة واعمالها دون اليمن وغيره مما هو من جزيرة العرب بدليل آخر مشهور
(11/93)

في كتبه وكتب أصحابه قال العلماء ولا يمنع الكفار من التردد مسافرين في الحجاز ولا يمكنون من الاقامة فيه أكثر من ثلاثة أيام قال الشافعي وموافقوه إلا مكة وحرمها فلا يجوز تمكين كافر من دخوله بحال فإن دخله في خفية وجب إخراجه فإن مات ودفن فيه نبش وأخرج مالم يتغير هذا مذهب الشافعي وجماهير الفقهاء وجوز أبو حنيفة دخولهم الحرم وحجة الجماهير قول الله تعالى إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا والله أعلم قوله صلى الله عليه و سلم ( وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ) قال العلماء هذا أمر منه صلى الله عليه و سلم بإجازة لوعود وضيافتهم واكرامهم تطبيبا لنفوسهم وترغيبا لغيرهم من المؤلفة قلوبهم ونحوهم وإعانة على سفرهم قال القاضي عياض قال العلماء سواء كان الوفد مسلمين أو كفارا لأن الكافر إنما يفد غالبا فيما يتعلق بمصالحنا ومصالحهم قوله ( وسكت عن الثالثة أو قالها فأنسيتها ) الساكت بن عباس والناسي سعيد بن جبير قال المهلب الثالثة هي تجهيز جيش أسامة رضي الله عنه قال القاضي عياض ويحتمل أنها قوله صلى الله عليه و سلم لا تتخذوا قبري وثنا يعبد فقد ذكر مالك في الموطأ معناه مع إجلاء اليهود من حديث عمر رضي الله عنه وفي هذا الحديث فوائد سوى ما ذكرناه منها جواز كتابة العلم وقد سبق بيان هذه المسألة مرات وذكرنا أنه جاء فيها حديثان مختلفان فإن السلف اختلفوا فيها ثم أجمع من بعدهم على جوازها وبينا تأويل حديث المنع ومنها جواز استعمال المجاز لقوله صلى الله عليه و سلم أكتب لكم أي آمر بالكتابة ومنها أن الأمراض ونحوها لا تنافي النبوة ولا تدل على سوء الحال قوله ( قال أبو إسحاق ابراهيم حدثنا الحسن بن بشر حدثنا سفيان بهذا الحديث ) معناه أن أبا إسحاق
(11/94)

صاحب مسلم ساوى مسلما في رواية هذا الحديث عن واحد عن سفيان بن عيينة فعلا هذا الحديث لأبي إسحاق برجل قوله ( من اختلافهم ولغطهم ) هو بفتح الغين المعجمة واسكانها والله أعلم
(11/95)

( [ 1638 ] قوله ( استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلى الله عليه و سلم في نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فاقضه عنها ) أجمع المسلمون على صحة النذر ووجوب الوفاء به إذا كان الملتزم طاعة فإن نذر معصية أو مباحا كدخول السوق لم ينعقد نذره ولا كفارة عليه عندنا وبه قال جمهور العلماء وقال أحمد وطائفة فيه كفارة يمين وقوله صلى الله عليه و سلم فاقضه عنها دليل لقضاء الحقوق الواجبة على الميت فأما الحقوق المالية فمجمع عليها وأما البدنية ففيها خلاف قدمناه في مواضع من هذا الكتاب ثم مذهب الشافعي وطائفة أن الحقوق المالية )
(11/96)

الواجبة على الميت من زكاة وكفارة ونذر يجب قضاؤها سواء أوصى بها أم لا كديون الآدمي وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما لا يجب قضاء شيء من ذلك إلا أن يوصى به ولأصحاب مالك خلاف في الزكاة إذا لم يوص بها والله أعلم قال القاضي عياض واختلفوا في نذر أم سعد هذا فقيل كان نذرا مطلقا وقيل كان صوما وقيل كان عتقا وقيل صدقة واستدل كل قائل بأحاديث جاءت في قصة أم سعد قال القاضي ويحتمل أن النذر كان غير ماورد في تلك الأحاديث قال والأظهر أنه كان نذرا في المال أو نذرا مبهما ويعضده ما رواه الدارقطني من حديث مالك فقال له يعني النبي صلى الله عليه و سلم اسق عنها الماء وأما أحاديث الصوم عنها فقد علله أهل الصنعة للاختلاف بين رواته في سنده ومتنه وكثرة اضطرابه وأما رواية من روى أفأعتق عنها فموافقة أيضا لأن العتق من الأموال وليس فيه قطع بأنه كان عليها عتق والله أعلم وأعلم أن مذهبنا ومذهب الجمهور أن الوارث لا يلزمه قضاء النذر الواجب على الميت إذا كان غير مالي ولا إذا كان ماليا ولم يخلف تركة لكن يستحب له ذلك وقال أهل الظاهر يلزمه ذلك لحديث سعد هذا ودليلنا أن الوارث لم يلتزمه فلا يلزم وحديث سعد يحتمل أنه قضاه من تركتها أو تبرع به وليس في الحديث تصريح بالزامه ذلك والله أعلم قوله ( أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما ينهانا عن [ 1639 ] النذر ويقول أنه لا يرد شيئا وإنما يستخرج به من الشحيح ) وفي رواية عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن النذر وقال أنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل
(11/97)

وفي رواية أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر [ 1640 ] شيئا وإنما يستخرج به من البخيل وفي رواية أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن النذر وقال أنه لا يرد من القدر شيئا قال المازري يحتمل أن يكون سبب النهي عن كون النذر يصير ملتزما له فيأتي به تكلفا بغير نشاط قال ويحتمل أن يكون سببه كونه يأتي بالقربة التي التزمها
(11/98)

في نذره على صورة المعاوضة للأمر الذي طلبه فينقص أجره وشأن العبادة أن تكون متمحضة لله تعالى قال القاضي عياض ويحتمل أن النهي لكونه قد يظن بعض الجهلة أن النذر يرد القدر ويمنع من حصول المقدر فنهى عنه خوفا من جاهل يعتقد ذلك وسياق الحديث يؤيد هذا والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه و سلم أنه لا يأتي بخير فمعناه أنه لا يرد شيئا من القدر كما بينه في الروايات الباقية وأما قوله صلى الله عليه و سلم يستخرج به من البخيل فمعناه أنه لا يأتي بهذه القربة تطوعا محضا مبتدأ وإنما يأتي بها في مقابلة شفاء المريض وغيره مما تعلق النذر عليه ويقال نذر ينذر وينذر بكسر الذال في المضارع وضمها لغتان قوله ( عن أبي المهلب ) [ 1641 ] هو بضم الميم وفتح الهاء واللام المشددة اسمه عبد الرحمن بن عمرو وقيل معاوية بن عمرو
(11/99)

وقيل عمرو بن معاوية وقيل النضر بن عمرو الحرمي البصرى والله أعلم قوله ( سابقة الحاج ) يعني ناقته العضباء وسبق في كتاب الحج بيان العضباء والقصوى والجدعاء وهل هن ثلاث أم واحدة قوله صلى الله عليه و سلم ( أخذتك بجريرة حلفائك ) أي بجنايتهم قوله صلى الله عليه و سلم للأسير حين قال إني مسلم ( لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح ) إلى قوله ففدى بالرجلين معناه لو قلت كلمة الاسلام قبل الأسر حين كنت مالك أمرك أفلحت كل الفلاح لأنه لا يجوز أسرك لو أسلمت قبل الأسر فكنت فزت بالإسلام وبالسلامة من الأسر ومن اغتنام مالك وأما إذا أسلمت بعد الأسر فيسقط الخيار في قتلك ويبقى الخيار بين الاسترقاق والمن والفداء وفي هذا جواز المفاداة وأن إسلام الأسير لا يسقط حق الغانمين منه بخلاف ما لو أسلم قبل الأسر وليس في هذا الحديث أنه حين أسلم وفادى به رجع إلى دار الكفر ولو ثبت رجوعه إلى دارهم وهو قادر على إظهار دينه لقوة شوكة عشيرته أو نحو ذلك لم يحرم ذلك فلا اشكال في الحديث وقد استشكله المازري وقال كيف يرد المسلم إلى دار الكفر وهذا الاشكال باطل مردود بما ذكرته قوله ( وأسرت امرأة من الأنصار ) هي امرأة أبي ذر رضي الله عنه قوله ( ناقة منوقة ) هي بضم الميم
(11/100)

وفتح النون والواو المشددة أي مذللة قوله ( ونذروا بها ) هو بفتح النون وكسر الذال أي علموا قوله صلى الله عليه و سلم ( لا وفاء لنذر في معصية ولا فيما لا يملك العبد ) وفي رواية لا نذر في معصية الله تعالى في هذا دليل على أن من نذر معصية كشرب الخمر ونحو ذلك فنذره باطل لا ينعقد ولا تلزمه كفارة يمين ولا غيرها وبهذا قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وداود وجمهور العلماء وقال أحمد تجب فيه كفارة اليمين بالحديث المروي عن عمر أن بن الحصين وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين واحتج الجمهور بحديث عمران بن حصين المذكور في الكتاب وأما حديث كفارته كفارة يمين فضعيف باتفاق المحدثين وأما قوله صلى الله عليه و سلم ولا فيما لا يملك العبد فهو محمول على ما إذا أضاف النذر إلى معين لا يملكه بأن قال إن شفى الله مريضي فلله علي أن أعتق عبد فلان أو أتصدق بثوبه أو بداره أو نحو ذلك فأما إذا التزم في الذمة شيئا لا يملكه فيصح نذره مثاله قال إن شفى الله مريضي فلله علي عتق رقبة وهو في ذلك الحال لا يملك رقبة ولا قيمتها فيصح نذره وان شفي المريض ثبت العتق في ذمته
(11/101)

قوله ( ناقة ذلول مجرسة ) وفي رواية مدربة إما المجرسة فبضم الميم وفتح الجيم والراء المشددة وأما المدربة فبفتح الدال المهملة وبالباء الموحدة والمجرسة والمدربة والمنوقة والذلول كله بمعنى واحد وفي هذا الحديث جواز سفر المرأة وحدها بلا زوج ولا محرم ولا غيرهما إذا كان سفر ضرورة كالهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام وكالهرب ممن يريد منها فاحشة ونحو ذلك والنهي عن سفرها وحدها محمول على غير الضرورة وفي هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أن الكفار إذا غنموا مالا للمسلم لا يملكونه وقال أبو حنيفة وآخرون يملكونه إذا حازوه إلى دار الحرب وحجة الشافعي وموافقيه هذا الحديث وموضع الدلالة منه ظاهر والله أعلم قوله ( أن النبي [ 1642 ] صلى الله عليه و سلم رأى شيخا يهادي بين ابنيه فقال ما بال هذا قالوا نذر أن يمشي قال إن الله عز و جل عن تعذيب هذا نفسه لغني وأمره أن يركب ) وفي رواية يمشي بين ابنيه متوكئا عليهما [ 1643 ] وهو معنى يهادي وفي حديث عقبة بن عامر قال نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية فأمرتني [ 1644 ] أن استفتي لها رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستفتيته فقال لتمش ولتركب أما الحديث الأول فمحمول على العاجز عن المشي فله الركوب وعليه دم وأما حديث أخت عقبة فمعناه تمشي في وقت قدرتها على المشي وتركب إذا عجزت عن المشي أو لحقتها مشقة ظاهرة فتركب وعليها دم وهذا الذي ذكرناه من وجوب الدم في الصورتين هو راجح القولين للشافعي وبه قال جماعة والقول
(11/102)

الثاني لا دم عليه بل يستحب الدم وأما المشي حافيا فلا يلزمه الحفاء بل له لبس النعلين وقد جاء حديث أخت عقبة في سنن أبي داود مبينا أنها ركبت للعجز قال إن أختي نذرت أن تحج ماشية وأنها لا تطيق ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله غني عن مشي أختك فلتركب ولتهد بدنة
(11/103)

[ 1645 ] قوله صلى الله عليه و سلم ( كفارة النذر كفارة اليمين ) اختلف العلماء في المراد به فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج وهو أن يقول انسان يريد الامتناع من كلام زيد مثلا إن كلمت زيدا مثلا فلله علي حجة أو غيرها فيكلمه فهو بالخيار بين كفارة يمين وبين ما التزمه هذا هو الصحيح في مذهبنا وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق كقوله على نذر وحمله أحمد وبعض أصحابنا على نذر المعصية كمن نذر أن يشرب الخمر وحمله جماعة من فقهاء أصحاب الحديث على جميع أنواع النذر وقالوا هو مخير في جميع النذورات بين الوفاء بما التزم وبين كفارة يمين والله أعلم