باب القسامة
 
( باب القسامة [ 1669 ] ذكر مسلم حديث حويصة ومحيصة باختلاف ألفاظه وطرقه حين وجد محيصة بن عمه عبد الله بن سهل قتيلا بخيبر فقال النبي صلى الله عليه و سلم لأوليائه تحلفون خمسين يمينا وتستحقون صاحبكم أو قاتلكم وفي رواية تستحقون قاتلكم أو صاحبكم أما حويصة ومحيصة فبتشديد الياء فيهما وبتخفيفها لغتان مشهورتان وقد ذكرهما القاضي أشهرهما التشديد قال القاضي حديث القسامة أصل من أصول الشرع وقاعدة من قواعد الأحكام وركن من أركان مصالح العباد وبه أخذ العلماء كافة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار الحجازيين والشاميين والكوفيين وغيرهم رحمهم الله تعالى وإن اختلفوا في كيفية الأخذ به وروى عن جماعة أبطال القسامة وأنه لا حكم لها ولا عمل بها وممن قال بهذا سالم بن عبد الله وسليمان بن يسار والحكم بن عيينة وقتادة وأبو قلابة ومسلم بن خالد وبن علية والبخاري وغيرهم وعن عمر بن عبد العزيز روايتان كالمذهبين واختلف القائلون بها فيما إذا كان القتل عمدا هل يجب القصاص بها فقال معظم الحجازيين يجب وهو قول الزهري وربيعة وأبي الزناد ومالك وأصحابه والليث )
(11/143)

والأوزاعي وأحمد واسحاق وأبي ثور وداود وهو قول الشافعي في القديم وروى عن بن الزبير وعمر بن عبد العزيز قال أبو الزناد قلنا بها وأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم متوافرون أني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان وقال الكوفيون والشافعي رضي الله عنه في أصح قولية لا يجب بها القصاص وإنما تجب الدية وهو مروي عن الحسن البصري والشعبي والنخعي وعثمان الليثي والحسن بن صالح وروى أيضا عن أبي بكر وعمر وبن عباس ومعاوية رضي الله عنهم واختلفوا فيمن يحلف في القسامة فقال مالك والشافعي والجمهور يحلف الورثة ويجب الحق بحلفهم خمسين يمينا واحتجوا بهذا الحديث الصحيح وفيه التصريح بالإبتداء بيمين المدعي وهو ثابت من طرق كثيرة صحاح لا تندفع قال مالك الذي أجمعت عليه الأئمة قديما وحديثا أن المدعين يبدؤن في القسامة ولأن جنبة المدعي صارت قوية باللوث قال القاضي وضعف هؤلاء رواية من روى الإبتداء بيمين المدعى عليهم قال أهل الحديث هذه الرواية وهم من الراوين لأنه أسقط الإبتداء بيمين المدعي ولم يذكر رد اليمين ولأن من روى الإبتداء بالمدعين معه زيادة ورواياتها صحاح من طرق كثيرة مشهورة فوجب العمل بها ولا تعارضها رواية من نسى وقال كل من لم يوجب القصاص واقتصر على الدية يبدأ بيمين المدعي عليهم إلا الشافعي وأحمد فقالا بقول الجمهور أنه يبدأ بيمين المدعي فإن نكل ردت على المدعي عليه وأجمع العلماء على أنه لا يجب قصاص ولا دية بمجرد الدعوى حتى تقترن بها شبهة يغلب الظن بها واختلفوا في هذه الشبهة المعتبرة الموجبة للقسامة ولها سبع صور الأولى أن يقول المقتول في حياته دمي عند فلان وهو قتلني أو ضربني وإن لم يكن به أثر أو فعل بي هذا من إنفاذ مقاتلي أو جرحني ويذكر العمد فهذا موجب للقسامة عند مالك والليث وادعى مالك رضي الله عنه أنه مما أجمع عليه الأئمة قديما وحديثا قال القاضي ولم يقل بهذا من فقهاء الأمصار غيرهما ولا روى عن غيرهما وخالف في ذلك العلماء كافة فلم ير أحد غيرهما في هذا أقسامه واشترط بعض المالكية وجود الأثر والجرح في كونه قسامة واحتج
(11/144)

مالك في ذلك بقضية بني إسرائيل وقوله تعالى فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيى الله الموتى قالوا فحيي الرجل فأخبر بقاتله واحتج أصحاب مالك أيضا بأن تلك حالة يطلب بها غفلة الناس فلو شرطنا الشهادة وأبطلنا قول المجروح أدى ذلك إلى إبطال الدماء غالبا قالوا ولأنها حالة يتحرى فيها المجروح الصدق ويتجنب الكذب والمعاصي ويتزود البر والتقوى فوجب قبول قوله واختلف المالكية في أنه هل يكتفي في الشهادة على قوله بشاهد أم لابد من اثنين الثانية اللوث من غير بينة على معاينة القتل وبهذا قال مالك والليث والشافعي ومن اللوث شهادة العدل وحده وكذا قول جماعة ليسوا عدولا الثالثة إذا شهد عدلان بالجرح فعاش بعده أياما ثم مات قبل أن يفيق منه قال مالك والليث هو لوث وقال الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنه لاقسامة هنا بل يجب القصاص بشهادة العدلين الرابعة يوجد المتهم عند المقتول أو قريبا منه أو آتيا من جهته ومعه آلة القتل وعليه أثره من لطخ دم وغيره وليس هناك سبع ولا غيره مما يمكن إحالة القتل عليه أو تفرق جماعة عن قتيل فهذا لوث موجب للقسامة عند مالك والشافعي الخامسة أن يقتتل طائفتان فيوجد بينهما قتيل ففيه القسامة عند مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وعن مالك رواية لإقسامه بل فيه دية على الطائفة الأخرى إن كان من أحد الطائفتين وإن كان من غيرهما فعلى الطائفتين ديته السادسة يوجد الميت في زحمة الناس قال الشافعي تثبت فيه القسامة وتجب بها الدية وقال مالك هو هدر وقال الثوري واسحاق تجب دية في بيت المال وروى مثله عن عمر وعلى السابعة أن يوجد في محلة قوم أو قبيلتهم أو مسجدهم فقال مالك والليث والشافعي وأحمد وداود وغيرهم لا يثبت بمجرد هذا قسامة بل القتل هدر لأنه قد يقتل الرجل الرجل ويلقيه في محله طائفة لينسب إليهم قال الشافعي ألا أن يكون في محلة أعدائه لا يغالطهم غيرهم فيكون كالقصة التي جرت بخيبر فحكم النبي صلى الله عليه و سلم بالقسامة لورثة القتيل لما كان بين الأنصار وبين اليهود من العداوة ولم يكن هناك سواهم وعن أحمد نحو قول الشافعي وقال أبو حنيفة والثوري ومعظم الكوفيين وجود القتيل في المحلة والقرية يوجب القسامة ولا تثبت القسامة عندهم في شيء من الصور السبع السابقة إلا هنا لأنها عندهم هي الصورة التي حكم النبي صلى الله عليه و سلم فيها بالقسامة ولا قسامة عندهم إلا إذا وجد القتيل وبه أثر قالوا فإن وجد القتيل في المسجد حلف أهل المحلة ووجبت الدية في بيت المال وذلك إذا ادعوا على أهل المحلة وقال الأوزاعي وجود
(11/145)

القتيل في المحلة يوجب القسامة وإن لم يكن عليه أثر ونحوه عن داود هذا آخر كلام القاضي والله أعلم قوله ( فذهب عبد الرحمن يتكلم قبل صاحبه فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم كبر الكبر في السن فصمت وتكلم صاحباه وتكلم معهما ) معنى هذا أن المقتول هو عبد الله وله أخ اسمه عبد الرحمن ولهما ابنا عم وهما محيصة وحويصة وهما أكبر سنا من عبد الرحمن فلما أراد عبد الرحمن أخو القتيل أن يتكلم قال له النبي صلى الله عليه و سلم كبر أي يتكلم أكبر منك واعلم أن حقيقة الدعوى إنما هي لأخيه عبد الرحمن لا حق فيها لإبني عمه وإنما أمر النبي صلى الله عليه و سلم أن يتكلم الأكبر وهو حويصة لأنه لم يكن المراد بكلامه حقيقة الدعوى بل سماع صورة القصة وكيف جرت فإذا أراد حقيقة الدعوى تكلم صاحبها ويحتمل أن عبد الرحمن وكل حويصة في الدعوى ومساعدته أو أمر بتوكيله وفي هذا فضيلة السن عند التساوي في الفضائل ولهذا نظائر فإنه يقدم بها في الإمامة وفي ولاية النكاح ندبا وغير ذلك وقوله الكبر في السن معناه يريد الكبر في السن والكبر منصوب باضمار يريد ونحوها وفي بعض النسخ للكبر باللام وهو صحيح قوله صلى الله عليه و سلم ( أتحلفون خمسين يمينا فتستحقون صاحبكم أو قاتلكم ) قد يقال كيف عرضت اليمين على الثلاثة وإنما يكون اليمين للوارث خاصة والوارث عبد الرحمن خاصة وهو أخو القتيل وأما الآخران فابنا عم لا ميراث لهما مع الأخ والجواب أنه كان معلوما عندهم أن اليمين تختص بالوارث فأطلق الخطاب لهم والمراد من تختص به اليمين واحتمل ذلك لكونه معلوما للمخاطبين كما سمع كلام الجميع في صورة قتله وكيفية ما جرى له وإن كانت حقيقة الدعوى وقت الحاجة مختصة بالوارث وأما قوله صلى الله عليه و سلم فتستحقون
(11/146)

قاتلكم أو صاحبكم فمعناه يثبت حقكم على من حلفتم عليه وهل ذلك الحق قصاص أو دية فيه الخلاف السابق بين العلماء واعلم أنهم إنما يجوز لهم الحلف إذا علموا أو ظنوا ذلك وإنما عرض عليهم النبي صلى الله عليه و سلم اليمين أن وجد فيهم هذا الشرط وليس المراد الإذن لهم في الحلف من غير ظن ولهذا قالوا كيف نحلف ولم نشهد قوله صلى الله عليه و سلم ( فتبرئكم يهود بخمسين يمينا ) أي تبرأ إليكم من دعواكم بخمسين يمينا وقيل معناه يخلصونكم من اليمين بأن يحلفوا فإذا حلفوا انتهت الخصومة ولم يثبت عليهم شيء وخلصتم أنتم من اليمين وفي هذا دليل لصحة يمين الكافر والفاسق ويهود مرفوع غير منون لا ينصرف لأنه إسم للقبيلة والطائفة ففيه التأنيث والعلمية قوله ( إن النبي صلى الله عليه و سلم أعطى عقله ) أي ديته وفي الرواية الأخرى فوداه رسول الله صلى الله عليه و سلم من قبله وفي رواية من عنده فقوله وداه بتخفيف الدال أي دفع ديته وفي رواية فكره رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبطل دمه فوداه مائة من إبل الصدقة إنما وداه رسول الله صلى الله عليه و سلم قطعا للنزاع واصلاحا لذات البين فإن أهل القتيل لا يستحقون إلا أن يحلفوا أو يستحلفوا المدعى عليهم وقد امتنعوا من الأمرين وهم مكسورون بقتل صاحبهم فأراد صلى الله عليه و سلم جبرهم وقطع المنازعة واصلاح ذات البين
(11/147)

بدفع ديته من عنده وقوله فوداه من عنده يحتمل أن يكون من خالص ماله في بعض الأحوال صادف ذلك عنده ويحتمل أنه من مال بيت المال ومصالح المسلمين وأما قوله في الرواية الأخيرة من ابل الصدقة فقد قال بعض العلماء أنها غلط من الرواة لأن الصدقة المفروضة لا تصرف هذا المصرف بل هي لأصناف سماهم الله تعالى وقال الإمام أبو إسحاق المروزي من أصحابنا يجوز صرفها من ابل الزكاة لهذا الحديث فأخذ بظاهره وقال جمهور أصحابنا وغيرهم معناه اشتراه من أهل الصدقات بعد أن ملكوها ثم دفعها تبرعا إلى أهل القتيل وحكى القاضي عن بعض العلماءأنه يجوز صرف الزكاة في مصالح العامة وتأول هذا الحديث عليه وتأوله بعضهم علىأن أولياء القتيل كانوا محتاجين ممن تباح لهم الزكاة وهذا تأويل باطل لأن هذا قدر كثير لا يدفع إلى الواحد الحامل من الزكاة بخلاف أشراف القبائل ولأنه سماه دية وتأوله بعضهم على أنه دفعه من سهم المؤلفة من الزكاة استئلافا لليهود لعلهم يسلمون وهذا ضعيف لأن الزكاة لا يجوز صرفها إلى كافر فالمختار ما حكيناه عن الجمهور أنه اشتراها من ابل الصدقة وفي هذا الحديث أنه ينبغي للإمام مراعاة المصالح العامة والإهتمام باصلاح ذات البين وفيه اثبات القسامة وفيه الإبتداء بيمين المدعي في القسامة وفيه رد اليمين على المدعى عليه إذا نكل المدعى في القسامة وفيه جواز الحكم على الغائب وسماع الدعوى في الدماء من غير حضور الخصم وفيه جواز اليمين بالظن وإن لم يتيقن وفيه أن الحكم بين المسلم والكافر يكون بحكم الإسلام قوله صلى الله عليه و سلم ( يقسم خمسون منكم على رجل منهم ) هذا مما يجب تأويله لأن اليمين إنما تكون على الوارث خاصة لا على غيره من القبيلةوتأويله عند أصحابنا أن معناه يؤخذ منكم خمسون يمينا والحالف هم الورثة فلا يحلف أحد من الأقارب غير الورثة يحلف كل الورثة ذكورا كانوا أو إناثا سواء كان القتل عمدا أو خطأ هذا مذهب الشافعي وبه قال أبو ثور وبن المنذر ووافقنا مالك فيما إذا كان القتل خطأ وأما في العمد فقال يحلف الأقارب خمسين يمينا ولا تحلف النساء ولا الصبيان ووافقه ربيعة والليث والأوزاعي وأحمد وداود وأهل الظاهر واحتج الشافعي بقوله صلى الله عليه و سلم تحلفون خمسين يمينا فتستحقون صاحبكم فجعل الحالف هو المستحق للدية والقصاص ومعلوم أن غير الوارث
(11/148)

لا يستحق شيئا فدل أن المراد على حلف من يستحق الدية قوله صلى الله عليه و سلم ( يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته ) الرمة بضم الراء الحبل والمراد هنا الحبل الذي يربط في رقبة القاتل ويسلم فيه إلى ولي القتيل وفي هذا دليل لمن قال أن القسامة يثبت فيها القصاص وقد سبق بيان مذهب العلماء فيه وتأوله القائلون لا قصاص بأن المراد أن يسلم ليستوفى منه الدية لكونها ثبتت عليه وفيه أن القسامة إنما تكون على واحد وبه قال مالك وأحمد وقال أشهب وغيره يحلف الأولياء على ما شاء وأولا يقتلوا إلا واحدا وقال الشافعي رضي الله عنه أن ادعوا على جماعة حلفوا عليهم وثبتت عليهم الدية على الصحيح عند الشافعي وعلى قول أنه يجب القصاص عليهم وإن حلفوا على واحد استحقوا عليه وحده قوله ( فدخلت مربدا لهم يوما فركضتني ناقة من تلك الابل ركضة برجلها ) المربد بكسر الميم وفتح الباء هو الموضع الذي يجتمع فيه الابل وتحبس والربد الحبس ومعنى ركضتني رفستني وأراد بهذا الكلام أنه ضبط الحديث
(11/149)

وحفظه حفظا بليغا قوله ( فوجد في شربة ) بفتح الشين المعجمة والراء وهو حوض يكون في أصل النخلة وجمعه شرب كثمرة وثمر قوله ( لقد ركضتني فريضة من تلك الفرائض ) المراد بالفريضة هنا الناقة من تلك النوق المفروضة في الدية وتسمى المدفوعة في الزكاة أو في الدية فريضة لأنها مفروضة أي مقدرة بالسن والعدد وأما قول المازري أن المراد بالفريضة هنا
(11/150)

الناقة الهرمة فقد غلط فيه والله أعلم قوله ( فكره رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبطل دمه فوداه مائة من ابل الصدقة ) هذا آخر الفوات الذي لم يسمعه ابراهيم بن سفيان من مسلم وقد قدمنا بيان أوله وقوله عقيب هذا حدثني إسحاق بن منصور قال أخبرنا بشر بن عمر قال سمعت مالك بن أنس يقول حدثني أبو ليلى هو أول سماع ابراهيم بن سفيان من مسلم من هذا الموضع هكذا هو في معظم النسخ وفي نسخة الحافظ بن عساكر أن آخر الفوات آخر حديث إسحاق بن منصور هذا الذي ذكرناه وأول السماع قوله عقبه حدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى والأول أصح قوله ( وطرح في عين أو فقير ) الفقير هنا على لفظ الفقير في الآدميين والفقير
(11/151)

هنا البئر القريبة القعر الواسعة الفم وقيل هو الحفيرة التي تكون حول النخل قوله صلى الله عليه و سلم ( إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب ) معناه أن ثبت القتل عليهم بقسامتكم فأما أن يدوا صاحبكم أي يدفعوا إليكم ديته وإما أن يعلمونا أنهم ممتنعون من التزام أحكامنا فينتقض
(11/152)

عهدهم ويصيرون حربا لنا وفيه دليل لمن يقول الواجب بالقسامة الدية دون القصاص قوله خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم هو بفتح الجيم وهو الشدة والمشقة والله أعلم
( [ 1671 ] فيه حديث العرنيين أنهم قدموا المدينة وأسلموا واستوخموها وسقمت أجسامهم فأمرهم النبي صلى الله عليه و سلم بالخروج إلى ابل الصدقة فخرجوا فصحوا فقتلوا الراعي وارتدوا عن الإسلام وساقوا الذود فبعث النبي صلى الله عليه و سلم في آثارهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا هذا الحديث أصل في عقوبة المحاربين وهو موافق لقول الله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض واختلف العلماء في المراد بهذه الآية الكريمة فقال مالك هي على التخيير فيخير الإمام بين هذه الأمور إلا أن يكون المحارب قد قتل فيتحتم قتله وقال أبو حنيفة وأبو مصعب المالكي الإمام بالخيار وإن قتلوا وقال الشافعي وآخرون هي على التقسيم فإن قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا وإن قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا فإن أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف فإن أخافوا السبيل ولم يأخذوا شيئا ولم يقتلوا طلبوا حتى يعزروا وهو المراد بالنفي عندنا قال أصحابنا لأن ضرر هذه الأفعال مختلف فكانت عقوباتها مختلفة ولم تكن للتخيير وتثبت أحكام المحاربة في الصحراء وهل تثبت في الأمصار فيه خلاف قال أبو حنيفة لا تثبت وقال مالك والشافعي تثبت قال القاضي عياض رضي الله عنه واختلف العلماء في معنى حديث العرنيين هذا فقال بعض السلف كان هذا قبل نزول الحدود وآية المحاربة والنهي عن المثلة فهو منسوخ وقيل ليس منسوخا وفيهم نزلت آية المحاربة وإنما فعل النبي صلى الله عليه و سلم بهم ما فعل قصاصا لأنهم فعلوا بالرعاة مثل ذلك وقد رواه مسلم في بعض طرقه ورواه بن إسحاق وموسى )
(11/153)

بن عقبه وأهل السير والترمذي وقال بعضهم النهي عن المثلة نهى تنزيه ليس بحرام وأما قوله يستسقون فلا يسقون فليس فيه أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بذلك ولا نهى عن سقيهم قال القاضي وقد أجمع المسلمون على أن من وجب عليه القتل فاستسقى لا يمنع الماء قصدا فيجمع عليه عذابان قلت قد ذكر في هذا الحديث الصحيح أنهم قتلوا الرعاة وارتدوا عن الإسلام وحينئذ لا يبقى لهم حرمة في سقى الماء ولا غيره وقد قال أصحابنا لا يجوز لمن معه من الماء ما يحتاج إليه للطهارة أن يسقيه لمرتد يخاف الموت من العطش ويتيمم ولو كان ذميا أو يهيمة وجب سقيه ولم يجز الوضوء به حينئذ والله أعلم قوله ( أن ناسا من عرينة ) هي بضم العين المهملة وفتح الراء وآخرها نون ثم هاء وهي قبيلة معروفة قوله ( قدموا المدينة فاجتووها ) هي بالجيم والمثناة فوق ومعناه استوخموها كما فسره في الرواية الأخرى أي لم توافقهم وكرهوها لسقم أصابهم قالوا وهو مشتق من الجوى وهو داء في الجوف قوله صلى الله عليه و سلم ( إن شئتم أن تخرجوا إلى ابل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها فافعلوا فصحوا ) في هذا الحديث أنها ابل الصدقة وفي غير مسلم أنها لقاح النبي صلى الله عليه و سلم وكلاهما صحيح فكان بعض الابل للصدقة وبعضها للنبي صلى الله عليه و سلم واستدل أصحاب مالك وأحمد بهذا الحديث أن بول ما يؤكل لحمة وروثه طاهران وأجاب أصحابنا وغيرهم من القائلين بنجاستهما بأن شربهم الأبوال كان للتداوي وهو جائز بكل النجاسات سوى الخمر والمسكرات فإن قيل كيف أذن لهم في شرب لبن الصدقة فالجواب أن البانها للمحتاجين من المسلمين وهؤلاء إذ ذاك منهم قوله ( ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم ) وفي بعض الأصول المعتمدة الرعاء وهما لغتان يقال راع ورعاه كقاض وقضاة وراع ورعاء بكسر الراء
(11/154)

وبالمد مثل صاحب وصحاب قوله ( وسمل أعينهم ) هكذا هو في معظم النسخ سمل باللام وفي بعضها سمر بالراء والميم مخففة وضبطناه في بعض المواضع في البخاري سمر بتشديد الميم ومعنى سمل باللام نقاها وأذهب ما فيها ومعنى سمر بالراء كحلها بمسامير محمية وقيل هما بمعنى قوله ( لهم بلقاح
(11/155)

هي جمع لقحة بكسر اللام وفتحها وهي الناقة ذات الدر قوله ( ولم يحسمهم ) أي ولم يكوهم والحسم في اللغة كي العرق بالنار لينقطع الدم قوله ( وقع بالمدينة الموم وهو البرسام ) الموم بضم الميم واسكان الواو وأما البرسام فبكسر الباء وهو نوع من اختلال العقل ويطلق على ورم الرأس
(11/156)

وورم الصدر وهو معرب وأصل اللفظة سريانية قوله ( وبعث معهم قائفا يقتص أثرهم ) القائف هو الذي يتتبع الآثار وغيرها
( ) [ 1672 ] قوله ( أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها فقتلها بحجر فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه و سلم وبها رمق فقيل لها أقتلك فلان فأشارت برأسها أن لا ثم قال لها الثانية فأشارت برأسها أن لا ثم سألها الثالثة فقالت نعم وأشارت برأسها فقتله رسول الله صلى الله عليه و سلم بين حجرين )
(11/157)

وفي رواية قتل جارية من الأنصار على حلى لها ثم ألقاها في قليب ورضخ رأسها بالحجارة فأمر به صلى الله عليه و سلم أن يرجم حتى يموت فرجم حتى مات وفي رواية أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين فسألوها من صنع هذا بك فلان فلان حتى ذكروا اليهودي فأومت برأسها فأخذ اليهودي فأقر فأمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يرض رأسه بالحجارة أما الأوضاح بالضاد المعجمة فهي قطع فضة كما فسره في الرواية الأخرى قوله ( وبها رمق ) هو بقية الحياة والروح والقليب البئر وقوله رضخه بين حجرين ورضه بالحجارة ورجمه بالحجارة هذه الألفاظ معناها واحد لأنه إذا وضع رأسه على حجر ورمى بحجر آخر فقد رجم وقد رض وقد رضخ وقد يحتمل أنه رجمها الرجم المعروف مع الرضخ لقوله ثم ألقاها في قليب وفي هذا الحديث فوائد منها قتل الرجل بالمرأة وهو اجماع من يعتد به ومنها أن الجاني عمدا يقتل قصاصا على الصفة التي قتل فإن قتل بسيف قتل هو بالسيف وإن قتل بحجر أو خشب أو نحوهما قتل بمثله لأن اليهودي رضخها فرضخ هو ومنها ثبوت القصاص في القتل بالمثقلات ولا يختص بالمحددات وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا قصاص إلا في القتل بمحدد من حديد أو حجر أو خشب أو كان معروفا بقتل الناس بالمنجنيق أو بالإلقاء في النار
(11/158)

واختلفت الرواية عنه في مثقل الحديد كالدبوس أما إذا كانت الجناية شبه عمد بأن قتل بما لا يقصد به القتل غالبا فتعمد القتل به كالعصا والسوط واللطمة والقضيب والبندقة ونحوها فقال مالك والليث يجب فيه القود وقال الشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم لا قصاص فيه والله أعلم ومنها وجوب القصاص على الذي يقتل المسلم ومنها جواز سؤال الجريح من جرحك وفائدة السؤال أن يعرف المتهم ليطالب فإن أقر ثبت عليه القتل وإن أنكر فالقول قوله مع يمينه ولا يلزمه شيء بمجرد قول المجروح هذا مذهبنا ومذهب الجماهير وقد سبق في باب القسامة وأن مذهب مالك ثبوت القتل على المتهم بمجرد قول المجروح وتعلقوا بهذا الحديث وهذا تعلق باطل لأن اليهودي اعترف كما صرح به مسلم في أحد رواياته التي ذكرناها فإنما قتل باعترافه والله أعلم