باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ( ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها )
 
( باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ( ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها ) قوله ( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا ) أما السريه فهي قطعة من الجيش تخرج منه تغير وترجع إليه قال ابراهيم الحربي هي الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها قالوا سميت سرية لأنها تسري في الليل ويخفى ذهابها وهي فعيلة بمعنى فاعلة يقال سرى واسرى إذا ذهب ليلا قوله صلى الله عليه و سلم ( ولا تغدروا ) بكسر الدال والوليد الصبي وفي هذه الكلمات من الحديث فوائد مجمع عليها وهي تحريم الغدر وتحريم الغلول وتحريم قتل الصبيان إذا لم يقاتلوا وكراهة المثلة واستحباب وصية الإمام أمراءه وجيوشه بتقوى الله تعالى والرفق باتباعهم وتعريفهم ما يحتاجون في غزوهم وما يجب عليهم وما يحل لهم وما يحرم عليهم وما يكره وما يستحب قوله صلى الله عليه و سلم ( وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال )
(12/37)

فأيتهن ما أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم ) قوله ثم ادعهم إلى الإسلام هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم ثم ادعهم قال القاضي عياض رضي الله تعالى عنه صواب الرواية ادعهم باسقاط ثم وقد جاء باسقاطها على ا لصواب في كتاب أبي عبيد وفي سنن أبي داود وغيرهما لأنه تفسير للخصال الثلاث وليست غيرها وقال المازري ليست ثم هنا زائدة بل دخلت لاستفتاح الكلام والأخذ قوله صلى الله عليه و سلم ( ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ماللمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كاعراب المسلمين يجرى عليهم حكم الله الذي يجرى على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء الا أن يجاهدوا مع المسلمين معنى هذا الحديث أنهم اذا أسلموا استحب لهم أن يهاجروا إلى المدينة فإن فعلوا ذلك كانوا كالمهاجرين قبلهم في استحقاق الفيء والغنيمة وغير ذلك والأفهم أعراب كسائر أعراب المسلمين الساكنين في البادية من غير هجرة ولا غزو فتجرى عليهم أحكام الإسلام ولا حق لهم في الغنيمة والفئ وإنما يكون لهم نصيب من الزكاة إن كانوا بصفة استحقاقها قال الشافعي الصدقات للمساكين ونحوهم ممن لا حق له في الفئ والفئ للأجناد قال ولا يعطى أهل الفيء من الصدقات ولا أهل الصدقات من الفيء واحتج بهذا الحديث وقال مالك وأبو حنيفة المالان سواء ويجوز صرف كل واحد منهما إلى النوعين وقال أبو عبيد هذا الحديث منسوخ قال وإنما كان هذا الحكم في أول الإسلام لمن لم يهاجر ثم نسخ ذلك بقوله
(12/38)

تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض وهذا الذي ادعاه أبو عبيد لا يسلم له قوله صلى الله عليه و سلم ( فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ) هذا مما يستدل به مالك والأوزاعي وموافقوهما في جواز أخذ الجزية من كل كافر عربيا كان أو عجميا كتابيا أو مجوسيا أو غيرهما وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه تؤخذ الجزية من جميع الكفار إلا مشركي العرب ومجوسهم وقال الشافعي لا يقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس عربا كانوا أو عجما ويحتج بمفهوم آية الجزية وبحديث سنوا بهم سنة أهل الكتاب ويتأول هذا الحديث على أن المراد بأخذ الجزية أهل الكتاب لأن إسم المشرك يطلق على أهل الكتاب وغيرهم وكان تخصيصهم معلوما عند الصحابة واختلفوا في قدر الجزية فقال الشافعي أقلها دينار على الغني ودينار على الفقير أيضا في كل سنة وأكثرها ما يقع به التراضي وقال مالك هي أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الفضة وقال أبو حنيقة رضي الله تعالى عنه وغيره من الكوفيين وأحمد رضي الله تعالى عنه على الغني ثمانية وأربعون درهما والمتوسط اربعة وعشرون والفقير اثنا عشر قوله صلى الله عليه و سلم ( وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسول الله صلى الله عليه و سلم ) قال العلماء الذمة هنا العهد وتخفروا بضم التاء يقال أخفرت الرجل إذا نقضت عهده وخفرته أمنته وحميته قالوا وهذا نهى تنزيه أي لا تجعل لهم ذمة الله فإنه قد ينقضها من لا يعرف حقها وينتهك حرمتها بعض الأعراب وسواد الجيش قوله صلى الله عليه و سلم ( وإذا حاصرت أهل حصن
(12/39)

فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا ) هذا النهي أيضا على التنزيه والاحتياط وفيه حجة لمن يقول ليس كل مجتهد مصيبا بل المصيب واحد وهو الموافق لحكم الله تعالى في نفس الأمر وقد يجيب عنه القائلون بأن كل مجتهد مصيب بأن المراد أنك لا تأمن أن ينزل على وحي بخلاف ما حكمت وهذا المعنى منتف بعد النبي صلى الله عليه و سلم قوله ( حدثنا مسلم بن هيصم ) بفتح الهاء والصاد المهملة قوله صلى الله [ 1732 ] عليه وسلم ( بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا ) وفي [ 1733 ] الحديث الآخر أنه صلى الله عليه و سلم قال لمعاذ وأبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنهما يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا
(12/40)

وتطاوعا ولا تختلفا وفي [ 1734 ] حديث أنس رضي الله تعالى عنه يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا إنما جمع في هذه الألفاظ بين الشيء وضده لأنه قد يفعلهما في وقتين فلو اقتصر على يسروا لصدق ذلك على من يسر مرة أومرات وعسر في معظم الحالات فإذا قال ولا تعسروا انتفى التعسير في جميع الأحوال من جميع وجوهه وهذا هو المطلوب وكذا يقال في يسرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا لأنهما قد يتطاوعان في وقت ويختلفان في وقت وقد يتطاوعان في شيء ويختلفان في شيء وفي هذا الحديث الأمر بالتبشير بفضل الله وعظيم ثوابه وجزيل عطائه وسعة رحمته والنهي عن التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير وفيه تأليف من قرب إسلامه وترك التشديد عليهم وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان ومن بلغ ومن تاب من المعاصي كلهم يتلطف بهم ويدرجون في أنواع الطاعة قليلا قليلا وقد كانت أمور الإسلام في التكليف على التدريج فمتى يسر على الداخل في الطاعة أو المريد للدخول فيها سهلت عليه وكانت عاقبته غالبا التزايد منها ومتى عسرت عليه أو شك أن لا يدخل فيها وإن دخل أو شك أن لا يدوم أو لا يستحليها وفيه أمر الولاة بالرفق واتفاق المتشاركين في ولاية ونحوها وهذا من المهمات فإن غالب المصالح لا يتم إلا بالإتفاق ومتى حصل الإختلاف فات وفيه وصية الإمام الولاة وإن كانوا أهل فضل وصلاح كمعاذ وأبي موسى فإن الذكرى تنفع المؤمنين قوله ( حدثنا محمد بن عباد حدثنا سفيان عن عمرو عن سعيد بن أبي بردة ) هذا مما استدركه الدارقطني وقال لم
(12/41)

يتابع بن عباد عن سفيان عن عمرو عن سعيد وقد روى عن سفيان عن مسعر عن سعيد ولا يثبت ولم يخرجه البخاري من طريق سفيان هذا كلام الدارقطني ولا إنكار على مسلم لأن بن عباد ثقة وقد جزم بروايته عن سفيان عن عمرو عن سعيد ولو لم يثبت لم يضر مسلما فإن المتن ثابت من الطرق
(12/42)