( باب الصيد بالكلاب المعلمة )
 
[ 1929 ] قوله ( انى أرسل كلابى المعلمة إلى آخره ) مع الأحاديث المذكورة فى الاصطياد فيها كلها اباحة الاصطياد وقد أجمع المسلمون عليه وتظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة والاجماع قال القاضي عياض هو مباح لمن اصطاد للاكتساب والحاجة والانتفاع به بالأكل وثمنه قال واختلفوا فيمن اصطاد للهو ولكن قصد تذكيته والانتفاع به فكرهه مالك وأجازه الليث وبن عبدالحكم قال فإن فعله بغير نية التذكية فهو حرام لأنه فساد فى الأرض واتلاف نفس عبثا قوله صلى الله عليه و سلم ( اذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل قلت وان قتلن قال وان قتلن ما لم يشركها كلب ليس معها ) وفى رواية فانما سميت على كلبك ولم تسم على غيره فى هذا الأمر بالتسمية على ارسال الصيد وقد أجمع المسلمون على التسمية عند الارسال على الصيد وعند الذبح والنحر واختلفوا فى أن ذلك واجب أم سنة فمذهب الشافعى وطائفة أنها سنة فلو تركها سهوا أو عمدا حل الصيد والذبيحة وهي رواية عن مالك وأحمد وقال أهل الظاهر إن تركها عمدا أو سهوا لم يحل وهو الصحيح عن أحمد فى صيد الجوارح وهو مروى عن بن سيرين وأبى ثور وقال أبو حنيفة ومالك والثورى وجماهير العلماء ان تركها سهوا حلت الذبيحة والصيد وان تركها عمدا
(13/73)

فلا وعلى مذهب أصحابنا يكره تركها وقيل لا يكره بل هو خلاف الأولى والصحيح الكراهة واحتج من أوجبها بقوله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وانه لفسق وبهذه الأحاديث واحتج أصحابنا بقوله تعالى حرمت عليكم الميتة إلى قوله إلا ما ذكيتم فأباح بالتذكية من غير اشتراط التسمية ولا وجوبها فان قيل التذكية لا تكون إلا بالتسمية قلنا هي فى اللغة الشق والفتح وبقوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وهم لا يسمون وبحديث عائشة انهم قالوا يا رسول الله ان قوما حديث عهدهم بالجاهلية يأتونا بلحمان لا ندري أذكروا اسم الله أم لم يذكروا فنأكل منها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم سموا وكلوا رواه البخارى فهذه التسمية هي المأمور بها عند أكل كل طعام وشرب كل شراب وأجابوا عن قوله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه أن المراد ما ذبح للأصنام كما قال تعالى فى الآية الأخرى وما ذبح على النصب وما أهل به لغير الله ولأن الله تعالى قال وانه لفسق وقد أجمع المسلمون على من أكل متروك التسمية ليس بفاسق فوجب حملها على ما ذكرناه ليجمع بينها وبين الآيات السابقات وحديث عائشة وحملها بعض أصحابنا على كراهة التنزيه وأجابوا عن الأحاديث فى التسمية أنها للاستحباب قوله صلى الله عليه و سلم ( اذا أرسلت كلبك المعلم ) فى اطلاقة دليل لاباحة الصيد بجميع الكلاب المعلمة من الأسود وغيره وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء وقال الحسن البصرى والنخعى وقتادة وأحمد واسحق لا يحل صيد الكلب الأسود لأنه شيطان قوله صلى الله عليه و سلم ( اذا أرسلت كلبك المعلم ) فيه أنه يشترط فى حل ما قتله الكلب المرسل كونه كلبا معلما وأنه يشترط الارسال فلو أرسل غير معلم أو استرسل المعلم بلا إرسال لم يحل ما قتله فأما غير المعلم فمجمع عليه وأما المعلم اذا استرسل فلا يحل ما قتله عندنا وعند العلماء كافة إلا ما حكى عن الأصم من اباحته وألا ما حكاه بن المنذر عن عطاء والأوزاعى أنه يحل ان كان صاحبه أخرجه للاصطياد قوله صلى الله عليه و سلم ( ما لم يشركها كلب ليس معها ) فيه تصريح بأنه لا يحل اذا شاركه كلب آخر والمراد كلب آخر استرسل بنفسه أو أرسله من ليس هو من أهل الذكاة أو شككنا فى ذلك فلا يحل أكله فى كل هذه الصور فان تحققنا أنه انما شاركه كلب أرسله من هو من أهل الذكاة على ذلك الصيد حل قوله ( قلت انى أرمى بالمعراض الصيد فأصيب فقال اذا رميت بالمعراض فخزق فكله وان أصابه
(13/74)

بعرضه فلا تأكله ) وفى الرواية الأخرى ما أصاب بحده فكل وما أصاب بعرضه فهو وقيذ فلا تأكل المعراض بكسر الميم وبالعين المهملة وهى خشبة ثقيلة أو عصا فى طرفها حديدة وقد تكون بغير حديدة هذا هو الصحيح فى تفسيره وقال الهروى هو سهم لا ريش فيه ولا نصل وقال بن دريد هو سهم طويل له أربع قذذ رقاق فاذا رمى به اعترض وقال الخليل كقول الهروى ونحوه عن الأصمعى وقيل هو عود رقيق الطرفين غليظ الوسط اذا رمى به ذهب مستويا وأما خزق فهو بالخاء المعجمة والزاى ومعناه نفذ والوقذ والموقوذ هو الذى يقتل بغير محدد من عصا أو حجر وغيرهما ومذهب الشافعى ومالك وأبى حنيفة وأحمد والجماهير أنه إذا اصطاد بالمعراض فقتل الصيد بحده حل وان قتله بعرضه لم يحل لهذا الحديث وقال مكحول والأوزاعى وغيرهما من فقهاء الشام يحل مطلقا وكذا قال هؤلاء وبن أبى ليلى أنه يحل ما قتله بالبندقية وحكى أيضا عن سعيد بن المسيب وقال الجماهير لا يحل صيد البندقية مطلقا لحديث المعراض لأنه كله رض ووقذ وهو معنى الرواية الأخرى فانه وقيذ أى مقتول بغير محدد والموقوذة المقتولة بالعصا ونحوها وأصله من الكسر والرض قوله صلى الله عليه و سلم ( فإن أكل فلا تأكل ) هذا الحديث من رواية عدى بن حاتم وهو صريح فى منع أكل ما أكلت منه الجارحة وجاء فى سنن أبى داود وغيره بإسناد حسن عن أبى ثعلبة أن النبى صلى الله عليه و سلم قال له كل وان أكل منه الكلب واختلف العلماء فيه فقال الشافعى فى أصح قوليه اذا قتلته الجارحة المعلمة من الكلاب والسباع وأكلت منه فهو حرام وبه قال أكثر العلماء منهم بن عباس وأبو هريرة وعطاء وسعيد بن جبير والحسن والشعبى
(13/75)

والنخعى وعكرمة وقتادة وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد واسحق وأبو ثور وبن المنذر وداود وقال سعد بن أبى وقاص وسلمان الفارسى وبن عمر ومالك يحل وهو قول ضعيف للشافعى واحتج هؤلاء بحديث أبى ثعلبة وحملوا حديث عدى على كراهة التنزيه واحتج الأولون بحديث عدى وهو فى الصحيحين مع قول الله عز و جل فكلوا مما أمسكن عليكم وهذا مما لم يمسك علينا بل على نفسه
(13/76)

وقدموا هذا على حديث أبى ثعلبة لأنه أصح ومنهم من تأول حديث أبى ثعلبة على ما اذا أكل منه بعد أن قتله وخلاه وفارقه ثم عاد فأكل منه فهذا لا يضر والله أعلم وأما جوارح الطير إذا أكلت مما صادته فالأصح عند أصحابنا والراجح من قول الشافعى تحريمه وقال سائر العلماء بإباحته لأنه لا يمكن تعليمها ذلك بخلاف السباع وأصحابنا يمنعون هذا الدليل وقوله صلى الله عليه و سلم فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه معناه أن الله تعالى قال فكلوا مما أمسكن عليكم فإنما إباحته بشرط أن نعلم أنه أمسك علينا واذا أكل منه لم نعلم أنه أمسك لنا أم لنفسه فلم يوجد شرط إباحته والأصل تحريمه قوله صلى الله عليه و سلم واذا أصاب بعرضه ) هو بفتح العين أى غير المحدد منه قوله صلى الله عليه و سلم ( فإن ذكاته أخذه ) معناه ان أخذ الكلب الصيد وقتله إياه ذكاة شرعية بمنزلة ذبح الحيوان الانسى وهذا مجمع عليه ولو لم يقتله الكلب لكن تركه ولم تبق فيه حياة مستقرة أو بقيت ولم يبق زمان يمكن صاحبه لحاقه وذبحه فمات حل لهذا الحديث فإن ذكاته أخذه قوله سمعت عدي بن حاتم وكان لنا جارا ودخيلا وربيطا بالنهرين قال أهل اللغة الدخيل والدخال الذى يداخل الانسان ويخالطه فى أموره والربيط هنا بمعنى المرابط وهو الملازم والرباط الملازمة قالوا والمراد هنا ربط نفسه على العبادة وعن الدنيا قوله صلى الله
(13/77)

عليه وسلم ( فإن أمسك عليك فأدركته حيا فأذبحه ) هذا تصريح بأنه إذا أدرك ذكاته وجب ذبحه ولم يحل إلا بالذكاة وهو مجمع عليه وما نقل عن الحسن والنخعى خلافه فباطل لاأظنه يصح عنهما وأما إذا أدركه ولم تبق فيه حياة مستقرة بأن كان قد قطع حلقومه ومريه أو أجافه أو خرق أمعاءه أو أخرج حشوته فيحل من غير ذكاة بالاجماع قال أصحابنا وغيرهم ويستحب إمرار السكين على حلقه ليريحه قوله صلى الله عليه و سلم ( وإن وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتل فلا تأكل فإنك لا تدرى أيهما قتله ) فيه بيان قاعدة مهمة وهى إنه إذا حصل الشك فى الذكاة المبيحة للحيوان لم يحل لأن الأصل تحريمه وهذا لا خلاف فيه وفيه تنبيه على أنه لو وجده حيا وفيه حياة مستقرة فذكاه حل ولا يضر كونه اشترك فى إمساكه كلبه وكلب غيره لأن الاعتماد حينئذ فى الاباحة على تذكية الآدمى لا على إمساك الكلب وانما تقع الاباحة بامساك الكلب اذا قتله وحينئذ اذا كان معه كلب آخر لم يحل إلا إن يكون أرسله من هو من أهل الذكاة كما أوضحناه قريبا قوله صلى الله عليه و سلم ( وان رميت بسهمك فاذكر اسم الله فان غاب عنك
(13/78)

يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت ) هذا دليل لمن يقول إذا أثر جرحه فغاب عنه فوجده ميتا وليس فيه أثر غير سهمه حل وهو أحد قولى الشافعى ومالك فى الصيد والسهم والثانى يحرم وهو الأصح عند أصحابنا والثالث يحرم فى الكلب دون السهم والأول أقوى وأقرب إلى الأحاديث الصحيحة وأما الأحاديث المخالفة له فضعيفة ومحمولة على كراهة التنزيه وكذا الأثر عن بن عباس كل ما أصميت ودع ما أنميت أى كل ما لم يغب عنك دون ما غاب قوله صلى الله عليه و سلم ( وان وجدته غريقا فى الماء فلا تأكل ) هذا متفق على تحريمه [ 1930 ] قوله فى حديث أبى ثعلبة ( إنا بأرض قوم من أهل الكتاب نأكل فى آنيتهم فقال النبي صلى الله عليه و سلم فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها وان لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا ) هكذا روى هذا
(13/79)

الحديث البخارى ومسلم وفى رواية أبى داود قال انا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون فى قدورهم الخنزير ويشربون فى آنيتهم الخمر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ان وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا وان لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء وكلوا واشربوا قد يقال هذا الحديث مخالف لما يقول الفقهاء فانهم يقولون أنه يجوز استعمال أوانى المشركين اذا غسلت ولا كراهة فيها بعد الغسل سواء وجد غيرها أم لا وهذا الحديث يقتضى كراهة استعمالها ان وجد غيرها ولا يكفى غسلها فى نفى الكراهة وإنما يغسلها ويستعملها اذا لم يجد غيرها والجواب أن المراد النهى عن الأكل فى آنيتهم التى كانوا يطبخون فيها لحم الخنزير ويشربون الخمر كما صرح به فى رواية أبى داود وإنما نهى عن الأكل فيها بعد الغسل للاستقذار وكونها معتادة للنجاسة كما يكره الأكل في المحجمة المغسولة وأما الفقهاء فمرادهم مطلق آنية الكفار التى ليست مستعملة فى النجاسات فهذه يكره استعمالها قبل غسلها فإذا غسلت فلا كراهة فيها لأنها طاهرة وليس فيها استقذار ولم يريدوا نفى الكراهة عن آنيتهم المستعملة فى الخنزير وغيره من النجاسات والله أعلم قوله صلى الله عليه و سلم ( وما أصبت بكلبك الذى ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل ) هذا مجمع عليه أنه لا يحل
(13/80)

لا بذكاة [ 1931 ] قوله ( حدثنا محمد بن مهران الرازى قال حدثنا أبو عبد الله حماد بن خالد الخياط ) هذا الحديث هو أول عود سماع ابراهيم بن سفيان من مسلم والذى قبله هو آخر فواته الثالث ولم يبق له فى الكتاب فوات بعد هذا والله أعلم قوله صلى الله عليه و سلم ( اذا رميت بسهمك فغاب عنك فأدركته فكل ما لم ينتن ) وفى رواية فيمن يدرك صيده بعد ثلاث فكله ما لم ينتن هذا النهى عن أكله للنتن محمول على التنزيه لا على التحريم وكذا سائر اللحوم والأطعمة المنتنة يكره أكلها ولا يحرم الا ان يخاف منها الضرر خوفا معتمدا وقال بعض أصحابنا يحرم اللحم المنتن وهو ضعيف والله أعلم
(13/81)